أحاول أن أفكّ تشابك اﻷفكار في رأسي بعد 7 أيام على كارثة حضرت من دون أن يتمناها المرء لعدوّه، وأفشل للمرة الألف. يسحبني خيط رقيق من الغبار إلى الأسئلة التي لا ينتهي ضجيجها، ويكبر سؤال طفل ويصير عجوزاً تخطّى عمره آلاف السنوات، ربما منذ هبط آدم بالمظلة من الجنة: لماذا نحن دون غيرنا؟ لا لسنا دون غيرنا، ولكنّ حصتنا من الألم واﻷمل كبيرة.
الرابعة والثلث صباحاً من السادس من شباط/ فبراير، ليل الخامس منه، تتحرك الخزانة من مكانها وتتقدم صوبي في خطى متثاقلة. لعلها كانت نائمةً وأيقظها أحدٌ ما من غفوتها اﻷبدية، وتفتح أبوابها وترمي ما في بطنها فوق سريري، ولعشرين ثانيةً أشعر بأنّ عليّ أن أصرخ على دون كيشوت ليبتعد عن جداري المهتز، وعلى ضوء الليدات الباقية على قيد الحياة حتى تلك الساعة. نهرع أنا وزوجتي إلى غرفة البنات لنوقظهن، لا نعرف ماذا يحدث، ولكنها الغريزة!
خلال ثوانٍ نستعيد عالمنا الواقعي. يُقرع الباب وتصرخ جارتي طالبةً أن نستعجل، إنه "زلزال قوي". نقفز على الدرج ثلاث درجات بثلاث، الهواء في الخارج عاصف جداً، والمطر "يكبس" شديداً غزيراً. تسأل صغيرتي: "إلى أين تأخذني يا أبي؟"، تقول العبارة فيقفز صوت محمود درويش في تلك العتمة: "إلى السيارة".
ساعات تالية ونحن نجلس في السيارة التي لم تعد وحيدةً. نهرب من أمام البيت إلى ساحة قريبة لا بنايات حولها. الكل، كل الحارة هنا. بكاء أطفال وأصوات كبار يبكون أيضاً. أحاول من جديد استعادة الواقع. نقفز إلى العالم الافتراضي ونقرأ: "زلزال بقوة سبعة فاصلة تسعة، تلاه زلزال ثانٍ بقوة ستة فاصلة سبعة، وهناك هزات ارتدادية مستمرة، ابقوا في الشارع وابتعدوا عن السقوف".
حسناً، لا يرى المرء زلزالاً كل يوم، أضحك بيني وبين نفسي. عليّ أن أحمي عائلتي، غريزة أخرى تتحرك من موقعها في اللا تاريخ واللا وعي إلى الحاضر: كيف؟ حسناً، أصعد من جديد وأحضر لهم بطانيات. الباب مفتوح ولن يستغرق اﻷمر ثواني. أنزل وأحاول المشي تحت المطر بسرعة كي أصعد إلى بيتي. هزة ارتدادية متوسطة تعيدني إلى السيارة مبللاً.
السابعة صباحاً، اليوم التالي:
تتوارد اﻷخبار إلينا على منصات التواصل الاجتماعي: أكثر من ثمانين بناءً سقطت في اللاذقية. مئات الضحايا وآلاف المصابين، والبيوت المتصدعة تلفظ سكانها خوفاً عليهم. كثيرون خرجوا بثياب النوم برغم البرد القاتل. اﻷطفال يبكون الدفء.
لعل أكثر ما يشبه الزلازل هي الحروب.
يوم أسس سلوقس اﻷول هذه المدينة، فعل ذلك بطريقة طقسية مرعبة: أحضر صبيةً جميلةً، اسمها ساحر: "أغافي"، قيل إنها كانت عذراء إلى درجة أنّ أحداً لم يلمسها منذ خُلقت سوى أمها، ذبحها بيده ورماها في البحر
أعرف جيداً كيف أنّ كل اﻷوصاف السابقة هي أوصاف حرب، لكن هنا أنت تواجه عدواً غير مرئي، عدواً يقفز من أمامك أو من تحت قدميك أو من حيث لا جهات لك تلتقيها، لا يرميك بقذيقة أو ببرميل متفجر أو بصاروخ قد تسمع طنينه قبل ثانية من موتك فقط.
هنا الحرب غدرٌ بطريقة لا ترى فيها أعداءك؛ قد يكون الدرج الذي اعتدت صعوده نصف قرن من حياتك. قد تكون مزهرية أهدتها لك امرأة أحبّتك وتركتك وأحضرتها أنت قرباناً ﻷيامك تلك خفيةً عن زوجتك. قد يكون الحائط الذي أسندت إليه جذعك المكسور لولادتك في بلاد تعيش زلازلها اليومية منذ زمن.
لنعد قليلاً إلى الأسطورة ونحن نهبط الدرج بسرعة البرق، أو سرعة الموت، لا ضوء هنا كي نسرع بقربه.
يوم أسس سلوقس اﻷول هذه المدينة، فعل ذلك بطريقة طقسية مرعبة: أحضر شخصياً صبيةً جميلةً، اسمها ساحر: "أغافي"، قيل إنها كانت عذراء إلى درجة أنّ أحداً لم يلمسها منذ خُلقت سوى أمها، في الرابعة عشر من عمرها، ذات عينين زرقاوين أو خضراوين، شعرها طويل "حتى الينابيع؟". ووفق حفريات الأسطورة، فإنه ذبحها بيده ورماها في البحر وسمّى المدينة على اسم أمه!
هل نصدّق قول اﻷسطورة إنه فعل ذلك لإبعاد الشر عن هذه المدينة؟
"لا وقت للوقت".
العاشرة صباحاً، اليوم التالي:
المطر العاصف يقصفنا ونحن في السيارة، والهواء يقتلع الصحون اللاقطة عن اﻷسطح، والناس تهرب إلى أين؟ تتبع الغريرة وتمضي نحو العراء: الطقس المجنون من فوقكم وحولكم، والزلزال من تحتكم. يمضون مشياً و"إلى أين تأخذني يا أبي"؟... إلى اللا مكان.
يتجمع الناس قرب بعضهم. نترك السيارات. مرةً أخرى غريزة القطيع تتفوق على منجزات فرويد ورفاقه. يمشون، هذه المرة لا أحد من بني جلدتهم يطاردهم، لا عسكر ولا دبابات ولا طائرات ولا صواريخ ولا شيء من هذا القبيل. لا أحد سيتذكر كثيراً هذه المفارقات بعد أيام من الواقعة إن بقوا على قيد الحياة، تقول عجوز أعرفها: "اﻹنسان من النسيان".
تقول اﻷسطورة أيضاً إنّ النبي ذي الاسم العبري، إرميا، ذكر المدينة في نبوءاته مسمّياً إياها المدينة المترمّدة، ودعا عليها بأن "تموت سبع مرات وتحيا سبع مرات"
تقول اﻷسطورة أيضاً إنّ النبي ذي الاسم العبري، إرميا، ذكر المدينة باسمها في نبوءاته مسمّياً إياها المدينة المترمّدة، ودعا عليها بأن "تموت سبع مرات وتحيا سبع مرات"، وﻷجل ذلك، سيضربها الزلزال سبع مرات. تتدمر بيوتها وينقلب عاليها سافلها، وتهدمها شعوب البحر، وهذا ما حدث.
تقول اﻷسطورة: في كل ثلاثمئة سنة يضربها زلزال.
أول زلزال نعرفه موثّقاً حدث أيام الامبراطور البيزنطي "جستينان"، عام 529 للميلاد، وقضى على حياة نصف سكان المدينة، بعد ذلك بأكثر من ثلاثمئة عام بقليل، 859 ميلادي، ضرب زلزال آخر المدينة "فتقطع جبل اﻷقرع، ولم يبقَ منزل في اللاذقية وما أفلت من أهلها إلا اليسير، وذهبت جبلة بأهلها" (كما يقول ابن العبري غريغوريوس الملطي)، بعد 300 عام تقريباً (1187 ميلادي)، حدث زلزال كبير هدم اللاذقية ولم تبقَ فيها سوى كنيستها الكبرى (البطريركية حالياً) كما أشار مؤرخو ذلك الزمان.
نقول مرةً أخرى: هل نصدّق الأسطورة؟
لم يطل الوقت كثيراً، لعل الأمر كان تصحيحاً للأسطورة: في العام 1200، ضربها زلزال هدم ما كان قائماً ومن ثم زادت سماكة اﻷتربة فوق ما اندثر من الحجر والبشر. بعد أقل من مئة عام، ضربتها زلازل ـبالجمعـ هدمت تحصينات المدينة وهدمت أبراجاً على مدخل ميناء اللاذقية القديم.
تتابعت الزلازل بعد ذلك مرات عدة، بفواصل غير منتظمة، كل واحد منها هدم وقلب وغيّر وأكل سكان المدينة، فشهدت الفترة بين القرن الثاني عشر حتى الثامن عشر، مئات الزلازل الكبيرة والصغيرة، واليوم، يمكن ملاحظة المستوى الذي كانت عليه المدينة منذ العهد الروماني حتى اليوم عند موقع قوس النصر حيث ينخفض بمقدار ثلاثة أمتار تقريباً عن مستوى الشوارع الحالية.
كم سننخفض هذه المرة؟
تجاهلت المدينة نبوءة "إرميا"، كما تجاهلت مدن غيرها زلازلها وناسها. النسيان جهةٌ أكيدة للمدن.
الثانية ليلاً، اليوم التالي:
أتى الزلزال اﻷخير على مواقع عدة في المدينة؛ الرمل الجنوبي، المشروع العاشر، والغراف. تصدعت مئات اﻷبنية الحديثة والقديمة. هنا عدالة من نوع غريب، فأفقر أحياء المدينة، الرمل الجنوبي (وله اسم آخر ملتبس دوماً بالحنين إلى البرتقال: الرمل الفلسطيني)، نكبه الزلزال بعشرات الأبنية والضحايا، وأرقى أحياء المدينة، المشروع العاشر الذي تباع أسعار شققه بمليارات الليرات (لا نبالغ أبداً)، لقي نصيبه فتهدمت واحدة من أجمل بناياته؛ هل الكوميديا قاتلة إلى هذه الدرجة؟
كثيرون هرعوا لرفع اﻷنقاض بأيديهم، هناك من تصيّد اللحظة بحثاً عن رزق مات صاحبه. كل التناقضات البشرية تراها مجمعةً حول جثة بناء انهار من دون سابق إنذار. كل الأوجاع والآمال هنا، على بعد بلدوزر أو خديعة
تبدلت ملامح المكان، أصبحت اللاذقية مدينةً سوريةً متعبةً كشقيقاتها، معمدةً بالرماد والخراب والشهداء والحلم المبتور بالحياة الطبيعية، يكاد سكانها أن ينقرضوا بعد أن أتت الحرب الأخيرة على جيلين وأكثر في شبابهم، تماماً كما يكاد ينقرض سكان "أوغاريتها" الأصليين بعد أن ابتلعت حرب الأخوة الأعداء جيلين فأكثر أيضاً.
تتسارع عمليات اﻹنقاذ بمعدات بدائية جداً. من "زمط" من ضربة الزلزال لن "يزمط" بالتأكيد من ضربة البلدوزر الهادرة فوق الركام. لا فرق إنقاذ مدرّبةً طوال اﻷيام الخمسة التالية لزلزال قد يتكرر في أي لحظة. أمل الناجين تحت اﻷنقاض بأن يروا ضوء الشمس من جديد ضئيل إلى درجة الخنق، هو فعلياً انتهى. قد تحدث المعجزات دوماً ويخرج بعضهم من تحت الركام ويهربون إلى بقية أهاليهم يتقاسمون الفرح والحزن على من عاش وعلى من مات، لكن انتظار معجزة في هذه المدينة المتعبة صار أشبه بالمعجزة.
يكاد يختلط المشهد ها هنا إلى درجة الالتباس، خليطٌ من الناس السوريين الذين تعرفهم من ملابسهم الرثة كثيراً، يهرعون للمساعدة في رفع اﻷنقاض بأيديهم، هناك من يتصيّد اللحظة بحثاً عن رزق مات صاحبه. كل التناقضات البشرية تراها مجمعةً حول جثة بناء انهار من دون سابق إنذار أو إخبار. كل الأوجاع والآلام والآمال هنا على بعد بلدوزر أو تركس أو خديعة.
هل سيأتي "غودو"؟ لن يكون ذلك أبداً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 5 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه