7 شباط/ فبراير 2023. إنه اليوم الثاني لزلزال مدمّر ضرب تركيا وسوريا، وأودى بحياة قرابة أربعين ألف إنسان وكائنات أخرى لم تُحسب في القائمة البشرية، من شجر ونبات وحيوانات وينابيع. قرابة أربع وعشرين ساعةً مضت، النوم طيف بعيد. الجندي الطيب شيفيكو (أنا)، يجلس على الكنبة بكامل استعداده للقفز إلى الشارع. بناتي الثلاث وأمهم بجواري يسرقون نوماً قلقاً، نوم العصافير كما تسمّيه حماتي. نترقب أدنى اهتزاز لكأس ماء وضعناه أمامنا على طاولة مرتفعة عن اﻷرض؛ هذا مقياس "ريختر" الخاص بزلازلنا هنا.
يرن هاتفي في توقيت غير معتاد، لا يظهر اسم المتصل، الرقم على الشاشة من دولة عربية، أردّ، فيسألني المتصل، وهو مدير البرامج في محطة تلفزيونية عربية شهيرة: هل تسمح أن تكون موفداً من المحطة وتغطّي لنا "وقائع الزلزال" في مدينة جبلة واللاذقية؟ هكذا بحيادية ومهنية يقولها، وكأنه يتحدث عن وقائع مباراة كرة قدم أو خطاب سياسي أو حتى وقائع أقلّ اعتياديةً مثل الاستيقاظ من نومٍ بعد سكرة.
من حقه هذا، لا وقت للعواطف على الشاشات، ربما العواطف نفسها تصبح وقائعاً رقميةً. البكاء "وقائع" مثل الضحك بفارق طفيف هو الوقت؛ "لتكن البداية من جبلة حيث الضرر كبير في البشر والحجر". فعلياً أسمع اسم المحطة خطأً، وأتصور أنها محطة أخرى. أوافق.
أكمل السيد: "ستكون عربة البث الفضائي معك بعد عشر دقائق". تنظر عائلتي إليّ شذراً: من غير الممكن أن تذهب في هذا الوضع، هناك احتمال لهزات ارتدادية قوية مثلما حصل أمس. أطمئنهم، ليذهبوا إلى بيت الجد، هناك تجتمع العائلة في بناء يحتوي ملجأً مبنياً من زمن بعيد سيكون آمناً لهم أكثر من بيتنا.
أوّل ذكر لهذه المدينة ورد في النقوش الأوگاريتية نحو 3200 سنة، يذكرها باسم ‘أدَد گِ-بَ لا’ وتعريبها ‘أداد گِبَلّا’ ومعناه ببساطة ‘تقدمة أداد’
عشر دقائق تكفيني ﻷحلق ذقني وأصفف شعري وأفطر وأضع أغراضي في حقيبة ظهر معتادة على السفر بين البلدان. لا أفعل أياً مما سبق: "لا نفْس ﻷي شيء"، أكتفي بالماء، عشر دقائق تنطلق السيارة إلى جبلة.
قليل من أسمائها الحسنى
لجبلة، المدينة الصغيرة الحجم والسكان (ربع مليون)، أسماؤها الحسنى الكثيرة، لكنها أقلّ من مئة. لا يجوز للمدن أن تنسى أنها مدن وأنّ اﻵلهة وحدها يحق لها أن تنمو إلى اﻷبدية. يوماً ما كانت أسماء جبلة "گَبْلَه وغَبْلَه وجِبلِه وجَبَلَه وجَبْله وگَبَله وگَبَلا وگابْلا وگيبِلُّم، ومن تعريبات اسمها قبلة وقبالة"، ووفق مؤرخ محب لها، مؤنس البخاري، فإنّ "أوّل ذكر لهذه المدينة ورد في النقوش الأوگاريتية نحو 3200 سنة، يذكرها باسم ‘أدَد گِ-بَ لا’ وتعريبها ‘أداد گِبَلّا’ ومعناه ببساطة ‘تقدمة أداد’، وأداد (هو حدد كذلك) إله معروف في التاريخ السوري عُبد ألفي عام في الإمبراطورية الآشورية وما تلاها وبقي في نصفها الغربي (أي سوريا)".
لاحقاً، حاول العرب المسلمون بعد وصولهم إلى هنا، أن يضيفوا سبباً لاسمها غير الغريب عليهم، فكانت قصة "جبلة بن اﻷيهم"، غريم الخليفة الراشدي الثاني والهارب منه إلى جبلة. لاحقاً أيضاً، حضرت حكاية أخرى في تبرير لصق اسم جبلة اﻷدهمية بها، فكانت قصة السلطان المتصوف ابراهيم بن اﻷدهم القادم من بلخ (شمال شرق إيران)، إليها متصوفاً زاهداً، حيث ينام اليوم في قلب المدينة في جامع يحمل اسمه ويزوره كل أبناء المدينة وريفها.
السلطان إبراهيم حضر أحد أشد الزلازل التي ضربت جبلة أواخر القرن الثاني عشر. آنذاك، لم يبقَ من جبلة سوى المرفأ القديم، وهو نفسه مرفأ أوغاريت التي فضّلت البحر على البر، وبحارة أوغاريت المنطلقين من جبلة سمّوا مدناً أخرى على اسم مدينتهم، واحدة منها في اليمن، والثانية في أذربيجان (محافظة قَبَلَه) وهي أقدم مدن تلك البلاد. بحارة جبلة اﻷشداء تركوا كذلك أسرةً جبلاويةً باسم "گَبَلاس" Γαβαλάς في اليونان، كان منها ملوك حكموا جزيرة رودس وجميع الجزر الإيجية نهاية القرن الثاني عشر الميلادي، ولم تزل هذه اﻷسرة هناك حتى اليوم (من مؤنس البخاري أيضاً).
على بوابات جبلة غير المرئية
الوقت اختراع بشري، لعله كذبة. لا يمكن التأكد من أنّ هناك وقتاً لمجرد النظر إلى الساعة. على البشريّ أن ينظر في وجه البشري كي يرى "أثر الوقت"، لا الوقت.
ننهب الطريق القصير بين اللاذقية وجبلة (25 كلم) في أقلّ من ربع ساعة، ولا أثر واضحاً للزلزال على الطريق الدولي بين المدينتين، ولا حركة سير ولا ناس على طريق كان مزدحماً دائماً. شائعات كثيرة في الجو يلقيها السائق والتقني والمصوّر الذين يرافقونني في سيارة الـSNG، أي عربة البث الفضائي: "هناك مئات الضحايا بالقرب من مفرق ‘الجوبة’ على بعد كيلومترات عدة في قرية ‘أسطامو’ حيث سقط فيها ستة عشر بناءً على رؤوس أصحابها، وقتلت خمسين من الأحلام".
التين العسيلي من أطيب أنواع التين هنا. لكن لم يبقَ تين ولا عسل، التهمته البنايات بكامل شهيتها. البنايات نفسها التي أكلت التينات كلها أكلها الزلزال فوق رؤوس أناس وعائلات لم يذوقوا التين العسيلي هنا
نسرع لأجل ما لا أعرف، لا أبحث عن سبق "إعلامي"، لا أهتم بأي "تراند". في الكوارث هناك تراندات. ستكون المحطة سعيدةً إذا ما قدّمت لها وجبةً وأصبحت ترانداً، ولكن ليس في رأسي أياً من هذا. ندخل جبلة من جهة الشمال، من مدخلها الأشهر "جسر حميميم". الشمال جهة غير مؤكدة هنا، فهنا على بعد خطوات من الجسر تقبع القاعدة الروسية اﻷشهر في العالم: "خميميم" (اللفظ الروسي لاسم القرية التي تصدع عدد من بيوتها).
على بعد خطوات من الجسر عشرات السيارات الروسية وسيارات اﻷسعاف والناس المتجمعون في منطقة "العسيلية"، نسبة إلى بساتين التين "العسيلي" التي كانت هنا قبل سنوات قليلة. التين العسيلي من أطيب أنواع التين هنا. لكن لم يبقَ تين ولا عسل، التهمته البنايات بكامل شهيتها. البنايات نفسها التي أكلت التينات كلها أكلها الزلزال فوق رؤوس أناس وعائلات لم يذوقوا التين العسيلي هنا.
هذه البنايات نبتت زمن الحرب حيث المال والسلطة والعسكر يمشون معاً دائماً إلى حيث تقبع مقابرنا نحن اﻷحياء السوريين. أكثر من عشر بنايات قررت أن ترتاح فوق جثثنا. لا تُدرك البنايات أنّ الزلازل لا تفهم في الهندسة اﻹنشائية ولا في عدد قضبان الحديد التي يجب وضعها في اﻷعمدة كي لا تتغازل بعنف مع الزلازل.
عدد الضحايا مرتفع في هذه المنطقة. البنايات التي أخليت من سكّانها كثيرة. أقف فوق بناء محطّم كلياً انتهت أعمال اﻹنقاذ فيه، وأحمل المايك ويثبت التقني الكاميرا على وجهي. في ذروة البث تصرخ بي صبية ثلاثينية بهسيتريا تخترق كل كياني: "انزل من عندك، هون قبر بيي". لا أنزل إلى حيث الزفت يغطي الطريق. أنزل إلى حيث ينام الرجل بجوار اﻷبدية؛ "نحن واﻷبدية سكّان هذا البلد".
حيث اﻷطباء يربّون الغزالات
شائعات كثيرة في الجو يلقيها السائق والتقني والمصوّر: هناك مئات الضحايا بالقرب من مفرق ‘الجوبة’
نمضي إلى المدينة وسط زحام شديد، يوقفنا شرطيّ متجهم الوجه. ممنوع أن تعبروا بهذا الاتجاه هناك أعمال إنقاذ في مبنى اﻷطباء على أمل أن يكون هناك ناجون.
قبل أن نصل إلى البناء المتهدم بطريقة غرائبية، نعبر قرب بناية باتت مشهورةً، بناية الريحاوي حيث خرج شاب وأمه من تحت اﻷنقاض بعد أكثر من أربعين ساعةً تحت أنقاضها. صديق آخر أعرفه خرج كذلك حياً من بناية التهمت "شقا عمره". يهجس أمامي: "هل سمعت صوت اﻷرض؟ أنا سمعته بعيني وأذني وصوت أمّي الهاربة أمامي وأنا أدفعها كي لا تسقط على الطريق المهتز. نجونا... ولم ننجُ".
لا يبتعد المصوّر عني كثيراً، نمشي ونترك السيارة الفضائية في مكان قريب. نقف قرب مبنى المالية، إلى جواره أنقاض بناء اﻷطباء، وفيما يتجمهر الناس متأملين خروج أحد ما على قيد الحياة، تستمر عمليات التنقيب عن الحياة في قلب جثة المبنى، لا أطباء ينفعون اﻵن والكلمة للحظ الحسن والأمنيات واﻵيات والتراتيل المتدفقة فوق كتلة استراحت زيادةً عن حدّها.
لا أحد يخرج حتى اﻵن، يمضي الوقت ساعات فساعات، ينتهي النهار وتشتعل أضواء المنقذين في ليل المدينة المعتم جداً. لا أحد يصرخ من هناك، لا أحد يدخل هناك ولا أحد يخرج. في ساعة متأخرة يحصل المسعفون على مشهد لرجل وامرأة متعانقَين. تكفي كلمة "متعانقَين" لندرك حجم الحب الذي قرضه الزلزال من هذه المدينة.
تتردد الكلمات في الأجواء بسرعة: "إنهما الدكتور فايز عطاف (الطبيب والجراح) والدكتورة هالة سعيد (أوّل طبية مختصة بمرضي الزهايمر والباركنسون في البلاد وقت تخرجها)".
أنتم من تقرأون هذا الحديث لا تعرفونهما. ولو عرفتوهما، لبكيتم معنا خسارتنا الفادحة حقاً. لم يكونا طبيبين حقيقيين عارفين بشؤون مهنتهما فقط، كانا مقصد كل فقراء المدينة إلى درجة أن الدرج المؤدي إلى عيادتهما لم يفرغ يوماً حتى في أيام العطلات. دائماً ما سهرا إلى أن ينتهيا من زوارهما من المرضى والمحبين.
في جنازتهما مشت المدينة كلها تردد عبارةً واحدةً: "الله معك يا حكيم"، سنعرف لاحقاً أنّ الدكتور محمد بكري، جارهم في العيادة قد قضى وحيداً تحت اﻷنقاض. سنعرف لاحقاً أنّ اثنين وثلاثين خسارةً ترقد تحت أنقاض ذلك المبنى. اثنان وثلاثون طبيباً وطبيبةً خسرتهم المدينة كما البلاد في جملة خسارات لم تتوقف منذ عقد فأكثر. يا إله الأشياء والسماوات والكواكب وكل الكل: لماذا يرحل هؤلاء ويبقى الحكام السفلة والسياسيون الكذبة وأبناء "اﻷحبّة"؟.
العبور إلى الفيض
أهرب من ظلّي، ومن حزني المكابر على خسارة ثلة من اﻷصدقاء فقدتها في جبلة، إلى بقعة أخرى طالها الزلزال. يتردد في فضاء المدينة صوت سيارات إسعاف وأصوات وصراخ. تصل فرق إنقاذ عربية إلى المكان القريب مني. لا يمتلك الدفاع المدني السوري تقنيات حديثةً تتيح تتبّع ما إذا كان هناك أحياء عالقون تحت اﻷنقاض. وحدها الصدفة قد تنقذ شخصاً في تلك العتمة القارصة، والحذر كذلك.
سنعرف لاحقاً أنّ اثنين وثلاثين خسارةً ترقد تحت أنقاض ذلك المبنى. اثنان وثلاثون طبيباً وطبيبةً خسرتهم المدينة كما البلاد في جملة خسارات لم تتوقف منذ عقد فأكثر
هنا سقط على الأقل سبع من الضحايا.
هنا وهناك نطل على شوارع تنهض من ركامها بهدوء وتمضي إلى "الفيض".
تفيض وتفيض وتفيض لتغطي وطناً بحجم قهر... و"لماذا يغرد طائر القفص؟".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.