منذ فترة قصيرة، تم الإعلان عن مسلسل تاريخي جديد يسرد حياة الإمام الشافعي، من بطولة خالد النبوي، سيناريو محمد هشام عبيه، وإخراج المخرج السوري الليث حجو. تحمّس الكثيرون له، خاصة بسبب نجم يحظى بمحبة واحترام الجماهير مثل النبوي، وبالنسبة لآخرين، فهم متفائلون لكون المخرج سورياً، وللسوريين تميز في المسلسلات التاريخية. ومن الجانب الآخر، تخوّفت فئة ليست قليلة من أن يحتوي المسلسل على أخطاء أو مغالطات تؤثر، من وجهة نظرهم، على صورة الإمام الشافعي بصفته رمزاً من رموز الدين.
ومنذ يومين قرأت خبراً على لسان إحدى المشاركات في المسلسل، الممثلة أروى جودة، تقول إن الأزهر يُراجع سيناريو المسلسل ليتأكد من خلوّه من مثل هذه الأخطاء والمغالطات قبل عرضه على الجمهور، ومن المفترض أن يطمئن هذا الخبر المشاهدين، خاصة أن مثل هذا الإجراء يحدث مع كل المسلسلات التاريخية التي تتعرّض لحياة شخصية دينية، مثل أبوحنيفة النعمان وعصر الأئمة وابن حزم وغيرها، فللأزهر حق إجازتها أو لا.
وهنا يأتي السؤال الذي ظل يؤرقني منذ قرأت الخبر: هل للأزهر الحق في مراجعة عمل درامي وإجازته؟
أزمة في التوصيف
في البداية يجب أن نفكر قليلًا في توصيف العمل الأدبي أو الفني الذي يتناول سير الفقهاء، هل هو عمل ديني أم تاريخي؟ من الشائع توصيف مثل هذه الأعمال على أنها أعمال دينية، وبالتالي من حق الأزهر أو أي مؤسسة دينية أخرى، سواء مسلمة أو مسيحية، أن تُخضعه لرقابتها ومعايير إجازتها، لكننا إن توقفنا للتفكير قليلاً في هذا السؤال قد نجد إجابة مختلفة. هل هو عمل ديني أم تاريخي؟
منذ يومين قرأت خبراً أن الأزهر يراجع مسلسل "الإمام الشافعي" ليتأكد من خلوّه من مثل هذه الأخطاء والمغالطات. وهنا يأتي السؤال الذي ظل يؤرقني منذ قرأت الخبر: هل للأزهر الحق في مراجعة عمل درامي وإجازته؟
العمل يحكي سيرة شخص مؤثر، أو فترة ما ضمن التاريخ الإسلامي، والتأثير هنا في حالة هذا المسلسل هو تشكيل مذهب ديني من المذاهب الرئيسية الأربعة، لكن هل يتناول المسلسل المذهب مثلاً؟ هل يفنّد الفتاوى وينقدها، أم أنه يسرد سيرة الإمام الشافعي من البداية للنهاية؟
وبما أننا لم نشاهد مسلسل الإمام بعد فيمكننا أن نقيس على عمل مثل أبوحنيفة النعمان للنجم الراحل محمود ياسين، سرد المسلسل سيرة الإمام أبي حنيفة منذ ولِد وحتى مات، مروراً بتجارته مع أبيه ودراسته للدين على يد الشيخ حماد بن أبي سليمان، إلى التدريس وتشكيل المذهب، ومعارضته للخلفاء، حتى مات في سجون أبي جعفر المنصور.
لم يتعرّض المسلسل، حسبما أذكر، لفتاوى أبى حنيفة، إلا في بعض المشاهد التي كان يُناقش فيها الإمام مالك بن أنس في بعض الأمور غير الشائكة، وكان الغرض من هذه المشاهد ترسيخ فكرة رحمة الاختلاف.
هل يمكن اعتبار مثل هذا العمل دينياً؟ برأيي لا، وبالتالي فالتحقيق المطلوب للعمل تحقيق تاريخي يقوم به مؤرخون وليس علماء دين، ولا يأتي دور علماء الدين إلا إن احتوى المسلسل على قضايا أو خلافات دينية شائكة، مثلما عُرِض بسطحية شديدة في مسلسل "عصر الأئمة" حول مسألة خلق القرآن، والمحنة التي تعرض لها الإمام أحمد بن حنبل حين رفض الإقرار بذلك. ويكون دورهم للمراجعة والتدقيق وليس الإجازة.
اللجوء إلى المؤسسة الدينية لطمأنة الجمهور
أذكر منذ عدة سنوات لقاء صادفني للممثل السوري رشيد عساف، قبل عرض مسلسل "الحسن والحسين" والذي قام فيه بدور معاوية بن أبي سفيان، وتحدث عن أن الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين والكثير من علماء الدين، وذكر منهم عدة أسماء لا أذكرها بدقة، قد راجعوا المسلسل و"وافقوا" على ما فيه، وعلى هذا الأساس سيُعرض المسلسل.
ما يحدث من تلبيس التاريخي رداء الديني وفرض الإجازة عليه من المؤسسات الدينية الإسلامية والمسيحية هو أمر لم نر منه سوى توهان التاريخي بسبب تلك الرقابة
ورفض الأزهر وقتها عرض المسلسل لأنه يُجسّد الصحابة الأوائل، وأعلن وقتها وزير الإعلام المصري أسامة هيكل، رفض عرضه في مصر، وكذلك أعلنت العراق مقاطعتها لعرض المسلسل، في وقتٍ امتلأ فيه الأثير بالقنوات الفضائية التي تنقل من كل البلدان إلى كل البلدان!
وبعدما شاهدت القسم الأكبر من المسلسل، توصلت إلى أن هذه المراجعات التي كان يتحدث عنها عساف لم يكن لها دور سوى تجميل صورة كل من وجِد في تلك الفترة من الصحابة، وإيصال فكرة أنهم جميعاً منزهون عن الخطأ! حدّ أن مشهد لقاء الحسن بن علي بمعاوية بن أبي سفيان للتنازل عن الخلافة وحقن الدماء بدا كرتونياً، وكأنه لقاء صديقين حميمين، حتى أن رد معاوية على الحسن حين أخبره نيّته التنازل عن الخلافة: وهل تراني أهلا لها يا أبا محمد؟
ما ينتج عن الالتباس بين التاريخ والدين
تكمن أهمية التاريخ وتقديمه في الأعمال الفنية – إلى جانب معرفة تاريخنا- في دراسة الشخصيات والأحوال، الفترات الزمنية والمحن التي مرّت بتاريخنا، وكل هذا هو ما يشكل وعينا وحاضرنا. وما يحدث من تلبيس التاريخي رداء الديني وفرض الإجازة عليه من المؤسسات الدينية الإسلامية والمسيحية هو أمر لم نر منه سوى توهان التاريخي بسبب تلك الرقابة، وامتدّ ذلك إلى كل الأعمال التاريخية التي تُعنى بالتاريخ الإسلامي الطويل، فلم نعرف تاريخنا جيداً، ولازلنا نُصدم إلى الآن عندما نعرف أن تلك الشخصيات ما هي إلا بشر، لهم ما لهم وعليهم ما عليهم، وأن سر عبقريتهم يكمن في بشريتهم تلك، وفي تفاعلهم مع المعطيات التي كانت في بيئاتهم وظروفها.
وتأثير ذلك على العملية الإبداعية كان سلبياً بشدة، جعلت كل الشخصيات نُسخاً متشابهة والزمن كأنه واقف لا يجري ولا يتطور، صارت الأحداث كأنها تكرار لنفس الحدث، لم ير الناس الفارق بين البيئة الشامية والبغدادية والأندلسية.
والنتيجة النهائية جهل بالتاريخ الحقيقي واضمحلال للعقلية النقدية التي تسعى إلى المعرفة والتعلم، تلك العقلية التي كان من الأفضل أن تبذل المؤسسات الدينية الجهود في تشكيلها وإفهامنا دورها الحيوي في كل ما يتعلق بحياتنا، وليس ديننا فحسب، بدلاً من بذل تلك الجهود في المنع والإقصاء، والحجة دائماً: عدم إثارة البلبلة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون