لطالما حلمت بأن يكون شهر رمضان في فصل الشتاء، لا لأن ساعات الصوم أقصر فيه، بل لأن رائحة طفولتي تموج بين تفاصيله من لحظة الاستيقاظ على السحور حتى العودة إلى النوم تحت "البطانية" الدافئة. بالإضافة إلى الاستماع للأناشيد الرمضانية الصادرة عن مسجد الحارة والمعممة على جميع المساجد، ليس تعميماً إجبارياً بالطبع، بل تقديراً لصوت توفيق المنجد الذي لم تنجب دمشق مقرئاً مثله.
ربما ليست الحنجرة هي الفريدة في بلد تتعدد مقامات الصوت، وإنّما "خشخشة" المذياع وقِدم التسجيلات، التي تأتي ممزوجة بالحنين والأصالة النابعين من زماننا السابق.
عندما حملت حقيبة سفري، لم أنسَ تفقّد رمضان الشام والتحدّث عن رمضان هنا، أي عن تفاصيل الشهر وعاداته. كيف نأكل وكيف نجتمع. ماذا نشرب، وماذا نفعل. ما هي أحاديثنا و كم مرة حصلت مشكلات قبل الإفطار. بالطبع، حزمت المشكلات وماهيتها مع صوت توفيق المنجد، ونسيتها إلى أنْ صادفتها في غربتي.
لرمضان معنى أكبر من كونه شهراً روحانياً، هو شهر يلخّص بلاداً بأكملها ويعكسها على الآخرين.
كل شخص صادفته في مصر ترنّم بأحاديث عن رمضان القاهرة بكلّ جماله وزحمته وناسه وفوانيسه وزينته. أغلب ما نراه على شاشات التلفزيون مستوحى من مصر وعادات سكانها. جميلة هي القاهرة بحلوّها وحنانها. تتمنى لو أنك قضيت مع ناسها الكثير من الأيام بعيداً عن صعاب الحرب الطاحنة.
قال لي أحد أصدقائي المصريين إنه سيصحبني في جولة لمنطقة الحسين، ثم شارع المعز، ثم الأحياء القديمة، ونرى ما لا يمكن رؤيته في الأحياء الجديدة من مصر. ولفتني الصديق إلى ضرورة العودة للأصالة من أجل الاستمتاع برمضان.
كلامه هذا دفعني للتفكير ملياً. نحن لدينا باب الحارة وأيام شامية وأعمال كثيرة تعرض على الشاشات العربية. ولدينا ممثلون ونجوم وطعام مميز، وشوارعنا يتغنى بها الجميع، إضافةً للياسمين والنارنج والشعر والغناء والموضة والأحجار المرصفة وإن كانت عشوائية. المهم أننا نشبه مصر أو على الأقل لدينا ما لديها.
لم أتألم لأن هناك حضارة توازي أو تقارب ما لدينا، بل على العكس، سعدت مجدداً لأن القدر ربما لا يزال يسعى لأن يأخذني في جولات من الماضي الذي أحبه والنوستالجيا التي أهواها. فما الفرق بين أهرامات الجيزة وأعمدة تدمر؟ وما الفرق بين مشروب التمر الهندي والعرقسوس والجلاب؟
لم أرَ فرقاً في أي شيء، بل اشتعل في قلبي حب المنافسة والأحاديث. شعب يتحدث بشغف وعنفوان، فكيف لا يكون لي طابع أهل هذه البلاد؟ نحن الذين لم نتفرق كشعبين إلا منذ مئة عام تقريباً، فأتحدث ويتحدثون، أناقش الماضي بالماضي، وأروي حكايات أجدادنا وأسمع حكايات أجدادهم على ألسنتهم.
لم أتألم لأن هناك حضارة توازي أو تقارب ما لدينا، بل على العكس، سعدت مجدداً لأن القدر ربما لا يزال يسعى لأن يأخذني في جولات من الماضي الذي أحبه والنوستالجيا التي أهواها. فما الفرق بين أهرامات الجيزة وأعمدة تدمر؟ وما الفرق بين مشروب التمر الهندي والعرقسوس والجلاب؟
لرمضان معنى أكبر من كونه شهراً روحانياً، هو شهر يلخّص بلاداً بأكملها ويعكسها على الآخرين. فما بالك إن كانت الطقوس والعادات مختلفة، ثمّ تتشابه على طاولة العشاء في ليلة شبه قمرية، ونتبادل الضحكات وكأنّ سوريا قد نُقلت إلى مصر لأول مرة.
فتحت حقيبة رمضان الشام عندما جاءنا ضيف مصري، وبدأت من شريط توفيق المنجد، صوت أعطى طابعاً سورياً يستند إلى رائحة أهلي واللمة العائلية بأصواتها وعيون أفرداها الناعسة. سألني الضيف عن المنشد، وقال إنه يشبه صوت أحدهم على إذاعة مصرية قبل السحور. فقلت إنه المنجد صاحب دكان "الأزرار والكلف" في سوق الحميدية، وأحد أجمل الأصوات التي أنشدت لرمضان.
أثار جوابي حماسة الضيف الذي أراد أن يثبت أن لديهم أيضاً ما لدينا، فكان المنجد هو ذاته. نعم! الإذاعة المصرية التي تنقل هذه الأناشيد هي إذاعة تستعرض الأناشيد الشامية والمصرية على السواء. فما كان يسمعه الضيف أيام طفولته سمعته أنا كذلك.
وفي أثناء معركة "ماذا لدينا؟"، آن أوان وضع السحور، فلم يكن لدينا إلا سحور دمشقي من لبن إلى الجبنة "المشللة" إلى الزيتون والصعتر، ثمّ فوجىء الضيف بطعم اللبن عندنا. فاللبن لديهم هو الحليب بينما اللبن لدينا هو اللبن الرائب. كما استغرب طعم الجبنة "المشللة"، وقال وهو يضحك: "لهذا السبب اسمها مشللة، لأن طعمها يصيب ابن آدم بالشلل". واستفسر مراراً وتكراراً عن أسباب ارتباط أسماء بعض الأكلات بالألم، فمثل "المشللة" هناك "الشلباطو"، وهي أكلة دمشقية تصنع من الأرز ونبات "الكرونب". استغرب اسمها كثيراً، ولكنّي شرحت له بأنها كانت تصنع بقِدر كبيرة وثقيلة فيصاب حاملها بالشلل بـ "باط ساعده"، ومعناها الكامل يفسّر أنّه "انشل باطو"، وهكذا حتى بات اسم الطبق رائجاً.
أخذتنا الموسيقى وطعامنا لعوالم أخرى، نبكيها ربما على أيام كنا نتمنى أن نقضيها مع من قضيناها سابقاً. وتحملنا الأحلام لأيام كالتي نراها اليوم. والنتيجة هي أنّ سوريا ليست أرضاً جغرافية فحسب، بل شيء وجداني تحمله معك في كل مكان
كذلك أكلة الحرّاق بإصبعه. فمن شدة لذتها وضع الرجل إصبعه ليتذوقها فحُرِقَت قبل أن تصل لفمه. وهناك الكثير من أسماء الأكلات المثيرة للضحك وللذة في آن واحد. كنتُ في كلّ مرة أحادث فيها الضيف عن شيء ما في سوريا، إما يضحك من قلبه لغرابة المعلومة أو يتذوق الطعام ويبتسم ثم يقول: "يا ابن اللعيبة".
قد نكون أولاد لعيبة من ذكور وإناث مهما اشتدت لذة الأكلة التي نطبخها، وسخونة ملمسها، ولكنّا نبقى أولاداً. أخذتنا الموسيقى وطعامنا لعوالم أخرى، نبكيها ربما على أيام كنا نتمنى أن نقضيها مع من قضيناها سابقاً. وتحملنا الأحلام لأيام كالتي نراها اليوم. والنتيجة هي أنّ سوريا ليست أرضاً جغرافية فحسب، بل شيء وجداني تحمله معك في كل مكان جاعلاً الآخرين يتلذذون بما لديك إن جلسوا حول السفرة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
عبد الغني المتوكل -
منذ 9 ساعاتوالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ 10 ساعاترائع
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت