لّما علمتُ بأنني سأنجبُ طفلي الأوّل في العام 2017، قرّرت في خضم القرارات المتعددّة التي اتخذتها في تلك الفترة أنّ أتحدّث باللغة العربية وحدها مع ابنتي.
أولى اهتماماتي كانت أنّ أمّد ابنتي بكل الوسائل المتاحة لبلورة نفسها وخلق حيّز خاص بها في الحياة واللغة أهمّ تلك الوسائل بنظري. القرار جاء أوّلاً من حبّي للّغة العربيّة، ومن إيماني أنها تستحق لقب أكثر اللغات جماليّة وفصاحةً ومنطقيّةً وغنى. السبب الآخر لوجستي، إذ إنّ والدتي مثلاً لا تتحدّث اللغة الإنكليزية، فكيف ستتواصل مع ابنتي، وكيف ستستطيعان الترابط عاطفياً وكلتاهما تقف خلف أسوار لغتها؟
الأسباب الأخرى يمكن تسميتها بالعلميّة، إذ إنّ هناك وابل من الدراسات التي أثبتت قدرة الطفل على التحدّث بلغتين أو أكثر بسهولة. تتحدّث تلك الدراسات بإسهاب عن فوائد تعدديّة أو ثنائية اللغة عند الأولاد والراشدين على مختلف الأصعدة، بالأخصّ النموّ العقلي، ناهيكم عن المرونة في فهم الحياة والتفاعل مع الآخرين وتزايد فرص العمل والدراسة والخبرة وما إلى ذلك.
بالإضافة، لا يمكنني إخفاء أسبابي المنبعثة من أنانيّتي، إذ أريد لابنتي أن تقرأني باللغة العربيّة، وأن تتحدّث معي بلغة قلبي وعقلي وأحلامي، وأن لا يعكّر صفو التلاقي بيننا أي حرف أعجمي على أي منّا. أريدها أيضاً أن تقرأ كتاباتي باللغة العربية وأن تعشق الشعر العربيّ مثلما أعشقه. يهمّني جداً أن تعرف المتنبي من لسانه، وأن تشعر بالطرب الأصيل، فيتحرّك خصرها عنوةً متناغماً مع حركة يدها وكلمة "الله" التي تنزلق متباطئة من لسانها حين تأخذها الموسيقى إلى أفق آخر.
أريدنا أن نضحك سويةً ( أنا وابنتي) ونقهقه على اللحن نفسه، وأن نقف في نفس الوادي، وأن ننادي على ذات الـ"ليلى". أريد أن تجمعنا اللغة العربيّة وتلوّننا وتصبغ أرواحنا
أردتُ كلّ تلك الأشياء لها ولنا ولأسرتي ولعائلتي. أردتها، بل أريدها أن تتشرّب الثقافة العربية من بابها العريض وليس من باب الترجمة والتعريب والترميز والتصغير والتعليب. أريدنا أن نبكي على نفس الأطلال ونتحيّن الفرص معاً لتذكّر أغاني وأهازيج بلي لونها وطعمها على لساننا، ولكن يبقى فرحها حقيقة تقفز إليها قلوبنا.
أريدنا أن نضحك سويةً ونقهقه على اللحن نفسه، وأن نقف في نفس الوادي، وأن ننادي على ذات الـ"ليلى" (تحيةً الى فوزي أبو لوزي لمن يعرفه). أريد أن تجمعنا اللغة العربيّة وتلوّننا وتصبغ أرواحنا.
طبعاً وجدتُ حينها الكثير من النصائح والتطمينات بمقابل الكثير من المحبيّن الذين أرادوا لفت انتباهي إلى الصعوبات الجسيمة التي سأواجهها، وإلى ضرورة التريّث بأحلامي وتوّقعاتي وأخذ الأمور بمنطقيّة أكثر، وأن أتقبّل واقعي وأرضى بالقليل. أرادوني أن أكتفي، أن أتوّسد عين الشمس لو استطاعت ابنتي التعبير عن نفسها بالعربيّة في محادثات قصيرة مع الأهل، وحين تلعب مع الأولاد في لبنان أثناء زياراتنا.
لكن ذلك لم يكن مقصدي ولا حلمي ولا يقيني. أريد لابنتي أن تكون مزيجاً أميركياً لبنانيّاً عربيّاً متأصلاً، ناطقاً باللغتين العربية والإنكليزية، حيث مستواها في كلّ منهما على حدة ممتاز، وأن تنمّي فيها اللغتان حباً للمزيد من اللغات والثقافات، وليس إلى تجريعها اللغات من دون طعم وهضم وحبّ والتزام.
أردتُ أن أعشق باللغة العربيّة وأنا أمارس عشقي باللغة الإنكليزية
لم يكن الأمر سهلاً والطريق لا تزال أمامنا طويلة ووعرة، فاليوم ابنتي في الخامسة من عمرها، وتتحدّث العربيّة بطلاقة وتقرأ كلمات من ثلاثة أحرف بيسر، ونعمل على المزيد من القراءة والكتابة. تذّكرني أنّ القهوة بالقاف وليست بالألف، وامتعضت منذ فترة حين قرأ صديق العائلة لها كتاباً بالعربيّة الفصحى قائلةً: "قرأ الكتاب بالقاف يا ماما!" رغم كلّ ذلك، يفرح قلبي وتتّسع حجره بالأخص حين تقول كلمات كنتُ نسيتُ آخر مرّة استخدمتها، كـ"شَفّة قهوة" مثلاً. ولكني سأؤجل احتفالاتي حتّى تكبر وتتمكّن من اللغة أكثر ويبقى خيط الشغف تجاه العربيّة الذي أمدّه من لساني إلى أذنها أمتن.
نطبّق في بيتنا نهج "الوالد الواحد واللغة الواحدة"، فيتحدّث زوجي مع ابنتي وأخيها الطفل باللغة الإنكليزية، وأتحدّث مع الأولاد باللغة العربيّة، وأنا وزوجي نتحادث باللغة الإنكليزية. أشجّع الأولاد على التحدّث سويةً باللغة العربيّة، وأخبر ابنتي أنها ستكون لغتنا السرية، أقّله في الولايات المتحدة حين لا نكون مع أصدقائنا العرب، وتضحك ابنتي "في عبّها".
يساعد الأمر طبعاً الواتس آب، إذ نجري المحادثات الهاتفيّة مع أهلي في لبنان وألمانيا والسويد باللغة العربيّة، ومع الأصدقاء العرب في الولايات المتحدّة، بالإضافة إلى سفرنا سنوياً إلى لبنان لمدّة شهر حتّى يتسنّى للأولاد أن يمضوا الوقت مع العائلة الممتدة ومع البلد وناسه وثقافته مباشرةً.
كلّ هذه الأمور جعلت ثنائية اللغة عند ابنتي أمراً طبيعياً ومنطقياً، فـ"ماما لبنانيّة وبابا أميركيّ". ولأنّي أستخدم اللغة العربيّة في يوميّات عملي ونصف قراءاتي واتصالاتي الهاتفيّة وكتاباتي، أمارس هذه الثنائية مع تعلّقٍ أسمى باللغة العربيّة. لكن أرى قصوراً في استخداماتها من المتكلّمين باللغة العربيّة في أوساطي، وألاحظ الأمر عينه في اختياراتي للمرادفات اليوميّة، كأننا لا نتقنها فعلاً فتأتي سقيمة ناقصة.
ليست اللغة القاصرة، فهي بالنسبة لي حيّة ترزق، تكبر كل يوم تحت عين ناظرها، وهي أغنى بكثير من لغة تداولاتنا
وليست اللغة القاصرة، فهي بالنسبة لي حيّة ترزق، تكبر كل يوم تحت عين ناظرها، وهي أغنى بكثير من لغة تداولاتنا. المشكلة لا تكمن في اللهجات بل في استخدامنا للغة، فهو بسيط وسطحيّ، فالطقس بالنسبة لنا "حلو" وتلك البنت أيضاً "حلوة" وقهوتي أحبّها "حلوة" واليوم كان "حلو" وانشالله بكرا "أحلى".
لقد استرسلنا في تبنّي بعض الكلمات دون سواها في يومياتنا، نعيد تدويرها حتّى أصبحت هزيلة وجافة، واستوت فيها الألفاظ والتعابير بمقابل اللغة الإنكليزيّة مثلاً التي يتغنّى العالم بها كل يوم، حين يختارونها قبل لغاتهم الأمّ وينعتوها عن حقّ بلغة العلوم والتكنولوجيا، ويستخدمونها يبسر كلغة عصرية ومرنة وعمليّة. وليس هنا هدفي المقارنة بين اللغتين أو اختيار واحدة على الأُخرى، بل تشجيع اللغتين العربيّة والإنكليزيّة معاً قواماً واحداً، على الأقلّ في حالتي.
لا لوم سوى على أنفسنا حين نختار التعبير عن مواضيع شائكة بالتخفّي وراء كلمات أجنبية، لأنها لا تحمل وزر مشاعرنا بالطريقة نفسها، فالتفاوض الماليّ مثلاً أسهل باللغة الإنكليزية منه بالعربيّة حفاظاً على ماء الوجه، حتى الحديث عن الصحة الجنسيّة نتقبّله بصدر أشرح حين لا يكون باللغة العربيّة، اللغة التي تقف بوجهنا وتعرّينا بلا خجل.
لطالما أردتُ أن أعشق باللغة العربيّة وأنا أمارس عشقي باللغة الإنكليزية، لأنني تشرّبت معاني الحبّ من الشّعرالعربيّ ومشاهده من الافلام الهولووديّة. ولكن ماذا سيحصل لو ارتدينا اللغة العربيّة في كلّ مواقفنا؟ أظنّ أننا سنرى أنفسنا كما هي، وسوف نقدّر الكمّ الهائل من الترتيب والتنظيم في اللغة العربيّة، فمبدأ الجذروحده يؤكد كماليّة اللغة وسهولتها.
موضوع اللغة العربيّة موضوع واسع ممتدّ، والصعوبات اليوم جسيمة ومن كل حدب وصوب بالأخص لناحية وسائل الاعلام الاجتماعية، حيث تغيب الكلمة من حيّز السطور ويُختزل التعبير كله في مملكة الصورة وحدها. الى حينها، سأبقى أرتشف قهوتي الصباحية بالعربيّة وأتأمّل أن الجيل الجديد سيبقى وفياً لها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.