طبق الكُشري، هو خليط مُزجت عناصره بمعيارية دقيقة، يجمعها العامل المسؤول عن "النَصَبَة" التي يجتمع فوقها قدور ضخمة تحوي كل عنصر من عناصر "الطبق" منفرداً، تدور ملعقته الضخمة بآلية طريفة بين تلك القدور بحرفية وانسيابية عصا قائد أوركسترا.
يبدأ عامل النصبة في تكوين طبق الكشري، مازجاً الأرز ونوعين من المعكرونة، ومعهما عماد الطبق وهو العدس الأسود يليه الحمص، ويتوج هذا المزيج بصلصة الطماطم وقليل من البصل المقلي "التقلية".
طبق الكُشري هو رمز أصيل للحياة اليومية داخل مدينة القاهرة، ووجبة أساسية لعدد كبير جداً من رواد ميادينها وشوارعها، يمكنك أن تتأكد من ذلك إذا ما ولجت ظهيرة أي يوم من أيام الأسبوع إلى أحد المطاعم التي تقدم الكشري كطبق رئيسي لا تكاد تقدم غيره، وعلى العكس من المطاعم التي تقدم أنواعاً مختلفة من المأكولات، وحتى بالاختلاف عن تلك المطاعم التي تقدم نوعاً واحداً من المأكولات كالأسماك مثلاً؛ لا توجد أطباق متنوعة وطرق إعداد مختلفة للكشري، وهو ما يعني أن جميع رواد مطاعم الكشري قد قرروا بشكل مُسبق تناوله على نفس النحو تقريباً. ويكفي أن تُشير إلى عامل الصالة بحجم الطبق الذي تحتاج إليه، ما بين كبير ومتوسط وصغير، وهو ما يخلق بين رواد تلك المطاعم حالة من التناغم قلما تجدها في مطاعم أخرى في القاهرة.
فمن العادي وغير المزعج داخل مطاعم الكشري أن يتشارك بعض الزبائن طاولة واحدة من دون سابق معرفة بينهم، خاصة في ساعات الذروة، إلا أن البعد الجندري يظل حاضراً في توزيع مساحة المطعم وطاولاته بين الزبائن، وبدون أي سلطة خارجية يمكن بسهولة ملاحظة الحساسية الاجتماعية بين الجنسين، ومراعاة عدم التماس بينهما، واجتناب التجاور الملفت للانتباه.
ويعتبر الكشري وجبة غذائية منخفضة الكُلفة عالية السعرات الحرارية، وهو ما يفسر الإقبال الكبير عليها من شرائح واسعة من الطبقة المتوسطة والدنيا، حتى لا تكاد تخلو مطاعم الكشري طوال أيام الأسبوع، إلا أن ذلك لا يعني أن الكشري لم يخترق صفوف بعض شرائح الطبقة العليا. إلا أن إقبال تلك الطبقة عليه يُصاحبه بعض التغييرات الطفيفة في المظهر الخارجي لطبق الكشري، وظهور الملاعق البلاستيكية، وتقديم الصلصة والشطة في أكياس مغلفة تشبه أكياس "الكاتشب".
لا أتذكر متى على وجه التحديد بدأت علاقتي بمطاعم كشري القاهرة، لكنني أعرف جيداً كيف اعتادت أقدامي خطواتها نحو مطاعمه، وكيف تسللت رائحته سريعاً لرأسي كلما عرف الجوع طريقه إلى معدتي
وكثيراً ما يحتاج الأمر لبعض الممارسات الاستعراضية بشأن تناول الكشري، باعتباره طقساً اجتماعياً أكثر منه وجبة رئيسية، فمن خلال عملية بحث بسيطة خلال جوجل باسم "كشري أبو طارق"، يمكنك الإطلاع على مجموعة كبيرة من صور الاحتفاء بـ"طقس تناول الكشري" من عدد من نجوم المجتمع أو الفنانين، وكذلك أبناء شرائح الطبقة العليا، وربما يلفت انتباهك احتفاء أحد البرامج التليفزيونية برواد مطعم كشري مشهور.
في كتابه "التمييز: النقد الاجتماعي لِحُكم الذوق"، يفسر المفكر الفرنسي "بورديو" المذاق (حب الشخص لنكهات معينة)، وطبيعة السلوك الاستهلاكي باعتبارهما تعبيراً عن الهوية الطبقية، ووسيلة لإعادة إنتاج التمايزات الطبقية في المجتمع، ذلك أن المذاق هو أحد تمثُّلات الهيمنة الثقافية التي تنتجها الطبقة المهيمنة، وتعيد إنتاجها بهدف السيطرة على أذواق الطبقات الاجتماعية الأخرى، مما يجبر أفراد الطبقات المُهيمَّن عليها اقتصادياً وثقافياً، خوض محاولات للتوافق مع السائد.
يأتي طبق الكشري مُقدِّماً يد العون، ليتيح وجبة سريعة تبعدك عن حيرة الاختيار وتُبعد عنك ملل الانتظار
نحن ما نأكل
لا أتذكر متى على وجه التحديد بدأت علاقتي بمطاعم كشري القاهرة، لكنني أعرف جيداً كيف اعتادت اقدامي خطواتها نحو مطاعمه، وكيف تسللت رائحته سريعاً لرأسي كلما عرف الجوع طريقه إلى معدتي، يأتي طبق الكشري مقدماً يد العون ليتيح وجبة سريعة تبعدك عن حيرة الاختيار وتُبعد عنك ملل الانتظار، يتصدى لجوعك ويضمن لك انتصاراً عليه يدوم طويلاً، غنياً بما يكفي ليُدنيك من الوجبات المنزلية، ويجنبك شر الالتزام بالفول والطعمية لآخر الشهر.
ارتبط اسم شارع شامبليون بمنطقة وسط البلد باسم كشري أبو طارق الشهير، بمبناه المنتصب على إحدى نواصيِّه، ذلك المبنى المزخرف بالإضاءات الملونة متعدد الطوابق الذين يحمل كل منهم طابعاً خاصاً وكأنه مطعم كشري مستقل لحاله، وارتبطت أنا بشارع شامبليون بعد قدومي للقاهرة ولما يقرب من العامين، وإن كنت لم أزر مطعم أبو طارق إلا مرات قليلة، داهمني خلالها التوتر، فلم يستطع أبو طارق بكل ما بذله من مال ليظهر تميزه، وكل ما يبذله عماله من جهد وصخب، أن يرضي ذائقتي النفسية أو أن يشبع مزاجي الغذائي.
ارتبط شارع شامبليون عندي بمطعم كشري آخر، يبعد خطوات قليلة عن غريمه، إن جاز أن نطلق عليه مطعم، فهو لا يتجاوز كونه محلاً صغيراً لا يكاد يتسع إلى جانب نصبته الصغيرة سوى لثلاجة ومقعدين وممر لا يمكن أن يمر منه شخصين معاً. تحمل وجهته اسم شامبليون بخطوط قديمة باهتة تنتمي على حسب ظني إلى التسعينيات.
لا أعلم ماذا سيكون شعور عالم اللغويات الفرنسي "جون فرانسوا شامبليون" الذي عاش في مطلع القرن التاسع عشر ، لو أنه علم أن رجلاً بسيطاً في الأربعينيات من عمره يشبه كثيراً "سيد كشري" في مسلسل لن أعيش في جلباب أبي، يقف أمام نصبته مرتديلاً مريلة بيضاء تحمي قميصه الكاروهات وبنطلونه الثمانيناتي، قد اقتنص اسمه ليكون برانده لطبق كشري مخصوص.
جذبني عم سيد كشري كما عرفته في محله البسيط، واستطاع من خلال الغرق الشديد في صمته أن يرضي رغبة لدي في اقتناص الهدوء من صخب شوارع القاهرة ومطاعمها، وتمكن بالهدوء نفسه الذي طهى به ما تحمله أطباقه من معكرونة وأرز وعدس أن يشبع حاجتي، ونجح بإغداقه عليَّ بمزيد من الكشري بصوت هادئ "كمالة يا ابني؟" أن ينعش مرتبي الهزيل طوال الشهر. ويبدو لي الآن واضحاً أن ما جذبني إلى كشري عم سيد يكمن فيما أضافة من "نَفَس البيت" في مذاق طعامي، وفي كونه تمكن من منحي سكينة افتقدتها كثيراً في السنوات الأولى لي في هذه المدينة المتضاربة.
ترصد كارول م. كونيهان في كتابها "أنثروبولوجيا الطعام والجسد، النوع والمعنى والقوة" التمثيلات الرمزية العميقة للطعام، بوصفه ثقافة مؤسِّسة يتداخل فيها النوع (رجل/امرأة) والمعنى وعلاقات القوة في التراتبيات الاجتماعيّة، بحيث يعكس الطعام ويحافظ على التراتب الهرمي الطبقي والطائفي والعنصري والنوعيّ من خلال تمايز الناس عن بعضهم البعض من خلال التحكم في الطعام والحصول عليه، وطالما عبّر الناس عن تمايزهم وتفردهم عبر وسيط الطعام.
وتضيف كونيهان: "أنواع الطعام التي يأكلها كل منا وكميتها ومع من نأكلها، تكشف لنا عن موقعنا داخل النسق الاجتماعي".
والآن وقد تجاوزت العام العاشر على تواجدي بالقاهرة، هجرت خلالها هامش شارع شامبليون وثنائياته الطبقية، متنقلاً بين عشرات المطاعم التي تقدم الكشري، حتى استقر بي الحال؛ أجلس هنا في منطقة الأزبكية إلى جوار هذه النافذة المطلة على ميدان العتبة، عتبة المدينة الفاصلة بين القاهرة الفاطمية والقاهرة الخديوية، متماهياً مع موقعي الجديد داخل النسق الاجتماعي (العَتبية / اللامحدودية / liminality)، وفقا لمفهوم فيكتور تورنر (1920-1983)، الذي يعبر عن مرحلة وسطى في عملية الدور الاجتماعي وانعكاسها على الفعل الاجتماعي لأفراد "لم يعودوا [كذا]" وهم في نفس الوقت أيضاً "ليسوا بعد [كذا]"، ومن ثمّ فهي مرحلة غامضة لشخص "ليس هنا ولا هناك".
وإن كنت قادماً من خارج القاهرة؛ فأنا لست خارجها. يتحرك جسدي في حاضرها ويتحرك ماضيها في عقلي، أتنقل بين أحيائها شديدة التنوع دون اغتراب، وأقابل وأتقبل طبقاتها عنيفة التباين. أستقي العلم من جامعتها وأرتشف المعرفة من حارتها، أجد لنفسي موضعاً في كل مكان، وتجد كل فكرة موضعاً في نفسي. أتشكل في كل صباح شخصاً جديداً من عناصر متنوعة تشبه إلى حد كبير طبق كشري انتهى عامل النصبة لتوه من تجهيزه.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...