ألعبُ مع نفسي لُعبةً أجدُها مُسلّية، أفتح صور دمشق على فيسبوك، وأخمّن أسماء الشّوارع، وعندما أفشَل أعودُ إلى الصّور في ذاكرتي وأغيّر اللعبة، ماذا لو وجدت نفسي في دمشق فجأة؟
كما لو أنّ رأسي يتحوّل إلى تطبيق غوغل مابس، أقوم بتصغير المشهد قليلاً لأنظرَ إليه كاملاً من الأعلى، أضع المؤشّر الأحمر على أستوديو تصوير يفصل بين منطقتَي الحلبوني والحجاز، لن أصلَ من الحلبوني إلى مكانٍ أعرفه، لكنّي سأستمتع بقراءة لافتة "جامعة دمشق" وبشراء مقلمة جديدة والمزيد من أدوات الرّسم.
أمّا الشارع المُقابل لمحطّة الحجاز، فسيقودني من نقطة ما، قد تكون أبعد ممّا أتصوّر، مروراً بمكتبات وسينمات قديمة، إلى منطقة التّجهيز، حيث معهد الشبيبة الذي درست فيه الموسيقا لسنوات، ومن هناك إلى جسر الرئيس، حيث الميكروباصات (السرافيس) التي تأخذني إلى البيوت التي سكنتُها.
ألعبُ مع نفسي لُعبةً أجدُها مُسلّية، أفتح صور دمشق على فيسبوك، وأخمّن أسماء الشّوارع، وعندما أفشَل أعودُ إلى الصّور في ذاكرتي
تعلّمت أن أتجوّل وحدي في سن صغيرة، وكان ذلك بهدف توفير الوقت، صعد أبي مع أختي في سرفيس آخر ليراقبا إذا كنت سأصل، ونجحت في الاختبار، أصبحت أبدّل بين السرافيس بخفّة.
وعندما وُضِعَت الحواجز الأمنيّة في أواخر عام 2011، تغيّر عليّ شكل الشوارع، عرفتُ شوارعَ جديدة توصلني إلى نفس الأماكن، وتعوّدت عليها أيضاً، كان ذلك مصدر فخرٍ لي أمام أصدقائي في المدرسة والمعهد وأمام نفسي، لن أضيعَ في الشّام. اطمئنوا.
لم تكُن إجابتي عن سؤال: "ماذا تريدين أن تصبحي عندما تكبرين؟" واضحة في ذلك الوقت، أردتُ أن أكونَ مصمّمة ديكور، عازفة كمنجة، عالمة فضاء، ناقدة أدبيّة، وكاتبة، وأشياءَ أخرى لا أذكرها.
ولكن، ما كان واضحاً هو أنّني أردتُ أن أكبر في دمشق. كنت أحلم ببيت في باب توما أسكنه مع صديقاتي، وبطريقٍ مُتعِبٍ بين جامعتين. أرسم الطّريق بين المعهد العالي للفنون المسرحيّة وكليّة الهندسة المعماريّة مثلاً، حيث سأفشل في فحصَيْ القبول الأوّلين وأعملُ ما يمكنني لأنجح في السّنة اللاحقة.
الطريق سهل في الأيّام الجافّة والدّافئة وصعب في أيّام المطر والوَحل. أتخيّل نفسي ذاهبةً لألتقي بأصدقائي عند نفق الآداب لنأكل سندويشة بطاطا رخيصة.
بعد أن اضطررنا لتحديد موعد السّفر، أخَذَنا بابا في مشوار، عرفنا ضمناً أنّه الأخير، إلى الشّام القديمة، شربنا عصير البرتقال أمام دَرَجٍ ينزل من الجامع الأمويّ إلى مقهى النّوفرة، عرفتُ أنّني لن أجلس في النوفرة مع أصدقائي، كما عرفتُ في اللحظة التي خرجنا فيها من سورية عبر جبال لبنان، أنّ شوارع جديدة ستدخل اللعبة.
عرفتُ في اللحظة التي خرجنا فيها من سورية عبر جبال لبنان، أن شوارع جديدة ستدخل اللعبة.
تنقّلنا بحكم الغربة بين مدن كثيرة، وتعرّفتُ على شوارع جديدة يبدو أنّني سأكبر فيها. وما زلتُ على الرغم من تعدّد هذه المدن، أجدُ في كلّ منها ما أُشبّهه بدمشق، للدّرجة التي تُزعج رفاقي أحيانًا، أسأل نفسي وأشكّك إذا كانت فعلًا تُشبهها أم هو الحنين. ومع ازدياد الأماكن التي أزورها أو أقيمُ فيها، تزداد الخريطة تعقيداً، يُذكّرني محلّ مفروشات في شارع غازي مختار باشا في مدينة غازي عينتاب بمحلّ في شارع ستراسبورغ سان دوني في باريس، ولو تابعت المشي في ذلك السوق لوصلت إلى باب الخضراء أحد أبواب تونس التي ما تزال قائمة، وهو نسخة مُصغّرة عن باب شرقي.
يوجد في مدينة نانسي الفرنسية منطقة تُسمّى نانسي القديمة، شوارعها ضيّقة مرصوفة بالحجارة الصغيرة التي تسمحُ لماء المطر أن يركضَ بينها، وفي ستراسبورغ تُعيدني إلى دمشق شوارع أوراق الشّجر المتعلّقة على جدران المباني، لا ينقص محطة مونبارناس في باريس سوى تمثال صلاح الدّين... كلّ المدن القديمة شوارعها مرصوفة بحجارة صغيرة، معظم أوراق الشجر تحبّ أن تتسلّق الجدران، المُدن العربيّة فيها طابع مُتشابه، وسوق "الخجا" الدمشقي ليس إلّا شارعاً عريضاً فيه أسواق. لكنّ رأسي مدينة واحدة.
في "ستراسبورغ" تُعيدني إلى دمشق شوارع من أوراق الشّجر المتعلّقة على جدران المباني، ولا ينقص محطة "مونبارناس" في باريس سوى تمثال صلاح الدّين...
يظهرُ هذا الخوف عندما تذكر أمّي اسم مكان أو اسم منطقة لا أعرفهما، أنكر في العلن جهلي للمكان، وأذهب إليه سرّاً عبر غوغل مابس، أستكشفه بكلّ التقنيات، أضع المؤشّر على الأماكن التّي لا أعرفها ليحدّد لي التطبيق بعدها أماكن أخرى أعرفها، وأُقنِع نفسي بأنّي مررت بها حتماً ولو صدفة، يبقى ذلك أهون من اعترافي بالنّسيان.
ها أنا أكبر، هذا هو العمر الذي تمنّيت أن أعيشه في المدينة...
لا أحكي كثيراً عن حلمي بالعودة، أخجلُ كثيراً من أصدقائي الذين يحلمون بالنجاة والخروج. أتابع أحلامهم من بعيد، وأراقب سورية ودمشق على وجه الخصوص بعيونهم، تحدّثني صديقتي عن معهد السينما وعن حلمها في أن تُصبح مخرجة تحكي عن البلاد منها، وتُرسِل لي صوراً تقول لي فيها إنّنا مشتاقتان.
حلمتُ مرّة أنّني هُناك، أُظهر هاتفي خفيةً لأصوّر الشوارع والنّاس، بسطات الكتب تحت جسر الرئيس وحبال الغسيل، مدرستي الإعداديّة في القاعة، والأبواب، استيقظتُ أبحثُ عن الصور ولم أجدها، أصبح لغوغل مابس من يومها وظيفة أخرى.
لا أحكي كثيراً عن حلمي بالعودة، أخجلُ كثيراً من أصدقائي الذين يحلمون بالنجاة والخروج.
في اجتماع العائلة السابق، نكشنا صور أهلي القديمة وما جمعوه من رسائلَ وبطاقات بريديّة. بطاقات عليها صور بالأبيضِ والأسوَد، كتب على ظهر إحداها "وإنّي أحبّك، أنت بداية روحي وأنت الختام". أخذت البطاقة دونَ إذنه، وفكّرتُ بالكلام "الكليشيه" عن ربط الوطن بالحبيب، يستطيع أبي أن يهدي شعراً لدمشق وأمّي معاً. أمّا أنا، فأحكي عنها لأنّي لا أملك صوراً، وأحبّ مدناً تُشبهها، مدناً رأيتها وأخرى لم أرها بعد.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...