تندرج هذه المقالة ضمن "طيف22"، وهو مشروع مخصص لالقاء الضوء على التنوعات والاختلافات الجنسانية والجندرية والجسدية في بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، يشارك فيه صحفيون وصحفيات، ناشطون وناشطات وأفراد من مجتمع الميم-عين أو داعمون لهم/نّ، ليكون مساحة للتعبير بحرية عن مختلف المواضيع المتعلقة بالتوجّهات الجنسية والجندرية والصحّة الجنسية، بغرض كسر التابو والحديث بموضوعية عن هذه المسائل الشائكة.
عند الساعة السادسة مساءً، وقفت نهى (اسم مستعار)، أمام المرآة في زاوية غرفتها، وهي تنظر بفرح إلى ملامح وجهها وقد بدا عليها التغيير، بعد أشهر من العلاج الهرموني، لكن فرحتها هذه تختفي بمجرد أن تتذكر كمّ التحديات التي أضحت تواجهها منذ أن خاضت غمار رحلة عبورها.
كيف يبقى الاسم "الميت" حياً؟
"لقد وُلدت من جديد عندما امتلكت الشجاعة لأتقبل حقيقة كوني امرأةً عابرةً"؛ هذا ما قالته نهى (25 سنةً)، لرصيف22.
ثم التفتت إلى صور عارضات الأزياء التي تؤثث حائط غرفتها: "منذ طفولتي، كنت أرى نفسي في صور هؤلاء النساء. لم أشعر قط بأنني مختلفة عنهنّ. الفرق الوحيد بيننا أن مظهري بحاجة إلى بعض التعديلات لكي يعبّر عن هويتي كامرأة".
ورأت نهى أن ثاني خطوة في رحلة عبورها، تكمن في اختيار اسم جديد لطالما حلمت بأن تُنادى به. اسم فضّلت عدم ذكره في المقال، حفاظاً على خصوصيتها، لكن ما يحزّ في خاطرها هو اسمها الأصلي "الميت"، الذي لم تتمكن من دفنه بعد ما دام محفوراً على بطاقة هويتها ووثائقها الرسمية: "أتمنى أن تبتلعني الأرض كلما اضطررت إلى الذهاب للإدارات العمومية، جرّاء ما أتعرض له من تهكّم ومضايقات بسبب عدم مطابقة الاسم الموجود على بطاقتي الشخصية لشكلي ومظهري".
ارتباطاً بذلك، أوضحت الناشطة والباحثة النسوية، أميمة البرهومي، في حديثها إلى رصيف22، أن "الأشخاص العابرين/ ات غير معترف بهم/ نّ قانونياً في المغرب، وتالياً لا يستطيعون/ ن تغيير بطاقة تعريفهم/ نّ بما يتوافق مع هويتهم/ نّ الجندرية".
"أتمنى أن تبتلعني الأرض كلما اضطررت إلى الذهاب للإدارات العمومية، جرّاء ما أتعرض له من تهكّم ومضايقات بسبب عدم مطابقة الاسم الموجود على بطاقتي الشخصية لشكلي ومظهري"
وأردفت: "عندما لا يكون الجندر والجنس متطابقين في بطاقة التعريف الوطنية، لا يكون هناك ولوج إلى الشغل والدراسة وغيرهما من الأماكن التي يحق للجميع الولوج إليها".
علاج هرموني بلا رعاية صحية
بعد تبنّي اسم جديد، تأتي مرحلة العلاج الهرموني في رحلة عبور نهى، التي صرحت بأنها بدأته قبل قرابة ستة أشهر، لكنها فضّلت عدم الكشف عن أي تفاصيل حول كيفية استفادتها منه.
أبدت نهى سعادتها بعد تمكّنها من بدء علاجها الهرموني: "لم أتصور أن أصل إلى ما وصلت إليه في هذه المدة القصيرة. لطالما شكّل العلاج الهرموني بالنسبة لي حلماً بعيد المنال، نظراً إلى وضعي المادي الذي لا يمكّنني من تحمّل تكاليفه".
بحسب تقرير نشرته مجموعة "دينامية الترانس"، في العام 2019، حول وضعية العابرين/ ات في المغرب، فإن العديد من الأشخاص الترانس يتبعون/ ن العلاج الهرموني بشكل ذاتي، ومن دون إشراف طبي، كما أنهم/ نّ يحجمون/ ن عن التماس الرعاية الصحية في حال وقوع مضاعفات صحية، وذلك بسبب خوفهم/ نّ من العنف المؤسسي الذي يمكن أن يتعرضوا/ ن له داخل المؤسسات الصحية، والذي قد يبلغ حد الضغط عليهم/ نّ لوقف علاجهم/ نّ الهرموني.
ورأت الناشطة أميمة البرهومي، أن غياب الرعاية الصحية يشكّل تحدّياً حقيقياً للأشخاص الترانس في المغرب، وعائقاً في طريق عملية العبور، مؤكدةً أنه "لا يستطيع أي طبيب أن يشرف بشكل قانوني على عبورهم/ نّ الهرموني أو تغيير الجنس وغيرهما من الجوانب التي يودّون تغييرها (تصحيحها)، خلال مرحلة العبور".
إرادة وتضامن في مواجهة التحديات
بالرغم من كل التحديات التي تواجهها، أكدت نهى بنبرة ملؤها الأمل والتحدي، أنها تنوي الاستمرار في رحلة عبورها حتى تتمكن من الوصول إلى النتيجة التي تأملها: "سأطرق جميع الأبواب وأسلك جميع السبل التي من شأنها أن تساعدني على التمكن من إتمام عملية عبوري".
وأضافت أميمة البرهومي، في تصريحها لرصيف22، أن "هناك أشخاصاً ترانس يحاولون جاهدين/ ات إيجاد حلول تمكنهم/ نّ من العبور بالشكل الذي يريدونه. هذه الحلول تتمثل في التضامن الذي يتم على مستوى الجمعيات وكذا الأفراد الفاعلين/ ات على الصعيد الدولي".
وكشف تقرير أعدّته مجموعة نسويات حول وضعية مجتمع الميم-عين في المغرب، في العام 2020، "أن مجتمع الميم-عين يتعرض في معظم الأحيان للعنف في الأماكن العامة، وخاصةً الأشخاص العابرين والعابرات والأشخاص الذين لا يتوافق تعبيرهم/ نّ الجنسي مع المعايير المجتمعية".
بهذا الخصوص، أشارت أميمة إلى أن هناك تحديات تواجه العابرين/ ات مرتبطةً بالترانسفوبيا أو رهاب العبور الجنسي/ الجندري المجتمعية، لأن "الناس متشبثون بالثنائية الجندرية، إلى درجة تقصّي الأشخاص الترانس، وبالخصوص الترانس اللا ثنائيين/ ات".
صحة نفسية تحت الضغط
قد تكون للعنف الذي يواجهه الأشخاص الترانس في المغرب، آثار وخيمة، كما جاء في تقرير "دينامية الترانس" (2019): "معظم الأشخاص في المجتمعات التي نشتغل معها يعانون من مشكلات مرتبطة بالصحة العقلية (مثل القلق الاجتماعي، الاكتئاب، الإدمان...)".
وهذا ما أكدته الأخصائية النفسانية، ريم عكراش، في حديثها إلى رصيف22: "من أبرز المشكلات النفسية التي يُحتمل أن تواجه العابرين/ ات، على العموم، هي الارتباك الجندري gender dysphoria، والذي عرّفته بكونه "الشعور بعدم الراحة الذي قد يحدث للأشخاص الذين تختلف هويتهم الجنسية عن الجنس المحدد لهم منذ الولادة".
وأضافت: "يمكن أن ينتج عن هذا الارتباك منذ الطفولة إحساس بالاختلاف وعدم الانتماء، خاصةً أن التعبير الجندري يكون محصوراً في توقعات المجتمع. وفي المراهقة، مع الأهمية التي يعطيها المراهقون/ ات للانتماء، قد يشكل صعوبات في النمو والتطور العاطفي أو في العلاقات أو اضطرابات نفسية كالاكتئاب والقلق والتوتر، خصوصاً أن غياب السند الاجتماعي والخوف يدفعان البعض لعيش هذه الصعوبات في صمت".
كما أشارت إلى أن "الوصم الاجتماعي ورهاب العبور الذي يواجه العابرين والعابرات داخل المجتمع، بالإضافة إلى الأسئلة الملحة التي لا تحترم الخصوصيات، قد تسبب لهم/ نّ القلق الاجتماعي"، مضيفةً أن "العديد من الأشخاص يتعالجون بالهرمونات من دون أي وصفة طبية ومن دون أي دعم نفسي خوفاً من العواقب وعدم احترام الخصوصيات أو خوفاً من النعوت الجندرية الخطأ misgendering".
آليات التكيف من أجل الاستمرار
في ظل غياب الوعي حول التعددية الجندرية، وعدم تقبّل كثيرين/ ات لفكرة العبور الجندري أو التعبيرات الجندرية غير النمطية، وما قد ينتج عن ذلك من رفض ومضايقات لا تحترم هوية العابرين/ ات الجندرية، يحاول الكثير منهم/ نّ مقاومة الضغوط النفسية التي يتعرضون/ ن لها، والتعايش مع محيطهم/ نّ من خلال آليات التكيف، للتمكن من إتمام عملية عبورهم/ نّ والعيش طبقاً لهويتهم/ نّ الجندرية.
إزكار بلغالي، كاتب وناشط في مجتمع الميم-عين، يعرّف بنفسه كعابر لا ثنائي، في تصريحه لرصيف22: "منذ صغري لم أكن أحب أن أُدعى بهو أو هي، ولكني لم أكن أعرف بوجود هوية جندرية لا ثنائية، نظراً إلى محدودية وصولي إلى المعلومات في ذلك الوقت، فقد بدأت في التعريف بنفسي كشخص لا ثنائي عندما علمت بوجود المصطلح لأول مرة، حين بلغت الـ18 سنةً".
إن أبرز تحدّ واجهه إزكار، هو عدم تقبّل والديه لهويته وتعبيره الجندريين، بناءً على سلوكياته ونوع الملابس التي يفضّلها. عن ذلك يقول: "عندما كنت طفلاً، كنت أريد فقط أن أكون مثل باقي أصدقائي الذكور، لكن ذلك كان يدفع والداي إلى عدم تقبّلي بسبب ثقافة الحشومة (العيب)".
"منذ صغري لم أكن أحب أن أُدعى بهو أو هي، ولكني لم أكن أعرف بوجود هوية جندرية لا ثنائية، نظراً إلى محدودية وصولي إلى المعلومات في ذلك الوقت"
أضاف بلغالي: "وصلت إلى خلاصة مفادها أن كل شخص يمكن أن يُعّرف بنفسه وبهويته الجندرية بالطريقة التي تناسبه، لأن المفاهيم لا تكون دائماً شاملةً، ولا تعبّر بالضرورة عمّا نشعر به".
كما أشار إلى أنه يُذكّر الأشخاص الذين لم يقابلوه منذ سنوات باسمه الجديد كلما نادوه باسمه الميت، أي الاسم الذي مُنح للشخص عند الولادة ولم يعد يستخدمه للتعريف بنفسه، مؤكداً: "أحاول أن أساعدهم على تقبّل حقيقة كوني شخصاً جديداً".
وبحماسة ختم قائلاً: "أعتقد أنها معركة متواصلة، وأنا مستعد لخوضها دائماً عبر الحوار".
تجريم العبور في غياب نص صريح
يبقى القانون الجنائي أكبر تحدّ بالنسبة إلى الأشخاص العابرين/ ات، على غرار باقي أفراد مجتمع الميم-عين في المغرب، نظراً إلى كونه يشكل حجر عثرة في طريق رحلة عبورهم/ نّ، ويجرّم مجموعةً من الممارسات التي تدخل في صميم حرياتهم/ نّ الفردية.
ونظراً إلى وجود العديد من مناطق الغموض في هذا الإطار القانوني، وما يطرحه ذلك من تساؤلات، حاول رصيف22، الحصول على توضيحات من محامين/ ات مغاربة، لكن لا أحد من بين كل من تواصلنا معهم/ نّ قَبِل بالحديث حول هذا الموضوع.
ذكر تقرير مجموعة "نسويات" (2020)، الذي سبق أن أشرنا إليه، أنه "على الرغم من أن العبور الجندري غير مذكور في القانون المغربي، إلا أن مجتمع العابرات والعابرين جندرياً في المغرب يتعرض أيضاً للاعتقال وتنتهك حقوقه بموجب المواد 489 و490 و491 من القانون الجنائي المغربي".
كما أشار تقرير "دينامية الترانس" (2019)، إلى أنه "يتم تجريم الأشخاص الترانس بسبب نمط لباسهم/ نّ، وشكلهم/ نّ الخارجي، والهوية الجندرية، والعبور الهرموني، وعملية تصحيح الجنس، والتعبير الجندري، وغيرها من الخصائص الجندرية".
"كل شخص يمكن أن يُعّرف بنفسه وبهويته الجندرية بالطريقة التي تناسبه، لأن المفاهيم لا تكون دائماً شاملةً، ولا تعبّر بالضرورة عمّا نشعر به"
زيادةً على ذلك، أفادت دراسة نشرتها جمعية أقليات في العام 2020، بأن الأشخاص الترانس واللا ثنائيين/ ات أكثر عرضةً للتوقيف من طرف الشرطة بمعدل الضعف مقارنةً بغيرهم/ نّ من أفراد مجتمع الميم-عين، وأن النساء العابرات هنّ الأكثر عرضةً لسوء المعاملة في أثناء الاعتقال.
في ظل كل التحديات التي تشوب رحلة عبورها، يبقى أمل نهى على غرار باقي أفراد مجتمع العابرين/ ات في المغرب، معلّقاً على إلغاء القوانين المجرمة للتعبيرات الجندرية والميول الجنسية غير النمطية، وتوفير رعاية صحية تؤمّن للعابرين/ ات الظروف الملائمة للعبور الجندري، بما في ذلك الرعاية والدعم النفسيين.
هذا المشروع بالتعاون مع Outright Action International.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...