شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
لا مال ولا أمان... الضريبة التي يدفعها معظم أفراد مجتمع الميم –عين

لا مال ولا أمان... الضريبة التي يدفعها معظم أفراد مجتمع الميم –عين

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة نحن والميم-عين

الخميس 24 نوفمبر 202203:31 م

تندرج هذه المقالة ضمن "طيف22"، وهو مشروع مخصص لالقاء الضوء على التنوعات والاختلافات الجنسانية والجندرية والجسدية في بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، يشارك فيه صحفيون وصحفيات، ناشطون وناشطات وأفراد من مجتمع الميم-عين أو داعمون لهم/نّ، ليكون مساحة للتعبير بحرية عن مختلف المواضيع المتعلقة بالتوجّهات الجنسية والجندرية والصحّة الجنسية، بغرض كسر التابو والحديث بموضوعية عن هذه المسائل الشائكة.

في هذا الوقت من عالمنا، وخاصة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، إن حصولكم/نّ على وظيفة ثابتة آمنة، بمرتب مجز، أو حتى بمرتب متوسط، هو امتياز.

في عالم يحكمه سعر الدولار وارتفاعه أمام باقي عملات بعض الدول في هذه المنطقة، يجب على المرء الالتحاق بوظيفة أو أكثر فقط لتلبية احتياجاته الأساسية، لكن ماذا عن الفئات الأضعف، المهمشين/ات في ظل هذا النظام الرأسمالي؟

نتناول رحلة أشخاص ينتمون إلى مجتمع "الميم-عين"، وضريبة انتمائهم/نّ لهذا المجتمع التي منعتهم/ن من الحصول على أبسط حقوقهم/نّ الاقتصادية والعملية، فقط لأنهم كويرين/ات في عالم يحكمه منسجمو/ات الجندر والغيريون/ات.

الرحلة الأولى: ملك

ملك هي شابة عابرة جنسياً، وُلدت في مصر، لم تكمل تعليمها الجامعي بسبب كونها عابرة جنسياً، وهي أول ضريبة تدفعها بسبب هويتها الجندرية، إلى جانب الكثير من الوظائف التي فاتتها، وتم رفضها قبل حتى مقابلتها عندما يعرف أصحاب العمل أنها عابرة، لكن ضريبة الكويرية هنا تم دفعها مسبقاً: الحرمان من التعليم.

هنا يُطرح السؤال التالي: ما علاقة الشكل الخارجي أو الهوية الجندرية، بالقدرة على الحصول على فرصة متكافئة في التعليم، تؤهّل الفرد لالتحاقه بوظيفة تؤمّن مستقبله؟ هل هذا العقل الذي وجد في جسد امرأة عابرة لا يستحق الفرصة فقط لأنه ليس عقلاً في جسد نمطي؟

لم تقف ملك عند رفضها من مؤسسات تعليمية عدّة واتجهت للحياة العملية، وهنا كان اصطدام آخر مع الوجه القبيح لبيئة العمل.

في عالم يحكمه سعر الدولار وارتفاعه أمام باقي عملات بعض الدول في هذه المنطقة، يجب على المرء الالتحاق بوظيفة أو أكثر فقط لتلبية احتياجاته الأساسية، لكن ماذا عن الفئات الأضعف، المهمشين/ات في ظل هذا النظام الرأسمالي؟

تعليقاً على هذه النقطة، قالت ملك لرصيف22: "في العام 2014، بعد تركي لمنزل عائلتي بعام، وجدت إعلاناً لأكاديمية للفن التشكيلي تعلن عن حاجتها لعامل نظافة، فاتصلت لتحديد موعد مقابل العمل، وبالفعل حصلت على موعد، وعندما ذهبت وقابلت مدير الأكاديمية، بدأ بسؤالي عن أسباب رغبتي بالعمل، فأجبته بأنني بحاجة للنقود أولاً كما أن المكان يتعامل مع فنانين وفنانات وأنا أحب الرسم"، واعتقدت ملك أن مكاناً كهذا يحترم حقوق العمال/ العاملات لأنه يتعامل مع الفن والفنانين/ات.

وتابعت حديثها: "عند سماع إجابتي، وقف مدير الأكاديمية وطلب مني أن أقف، ثم قال: (مفيش شغل ليك عندنا، وانشف شوية وخليك راجل، واقلع الخ** اللي انت لابسه على دماغك ده)، في إشارة إلى القبعة التي كانت أرتديها".

تدفع ملك ثمن ظهورها كفتاة عابرة جنسياً بشكل تراكمي، ابتداءً من تركها منزل أسرتها وإعلانها عن هويتها كعابرة للمجتمع في عمر الـ15، مروراً بعدم حصولها على شهادة جامعية، الأمر الذي اضطرّها للعمل في أماكن لا تحتاج إلى شهادات، أو تسمح لمن هم دون الـ18 بالعمل، وهو أمر غير مسموح به قانوناً في بلد كمصر.

كان مظهر ملك غير النمطي كافياً لرفضها قبل بدئها أي وظيفة، أو حتى إذا تم قبولها لا تمرّ عدة أسابيع إلا ويكتشف زملاؤها أو مديرها في العمل هويتها، ليتمّ طردها من العمل بعد التعدي عليها بإهانات لفظية مسيئة.

كما حكت ملك عن تعرّضها للتحرش اللفظي أثناء تأديتها عملها كعاملة تنقل كراتين أقمشة في مصنع للطباعة، وحين سمع مشرف العمل عن الحادثة، طلب من زملائها العودة لاستكمال عملهم، واستدعاها قائلاً: "بكره لو هتيجي باللبس ده متجيش، أنا هنا عايز رجالة مش خ**لات وملكش يومية النهاردة"، علماً بأن يوميتها كانت في ذلك الوقت 60 جنيهاً فقط، وهو ما يمثل قوت يومها بالكامل.

وعلى الرغم من أن ملك تعمل اليوم ككاتبة حرة في بعض المواقع التي تهتم بقضايا العابرين والعابرات جندرياً وجنسياً، إلا أنها لم تحصل قط على وظيفة في القطاع الخاص أو العام بسبب هويتها غير النمطية التي تمثل تهديداً لتلك الشركات أمنياً واجتماعياً، حسب وصفها.

الرحلة الثانية: عادل

عادل، هو اسم مستعار لشاب مثلي الجنس في أوائل العشرينيات، عانى من عدم إيجاد وظيفة مناسبة بعد تخرّجه من كلية مرموقة، والسبب بسيط جداً: "مش خشن كفاية"، حسب وصف أحد أصحاب العمل في شركة تسويق.

يقوم عادل بكتابة الإعلانات الكوميدية التي عادة لا تبصر النور خارج غرفته، ولا تخرج منها قط إلا أثناء حكاياته مع الأصدقاء والصديقات، وذلك بسبب رفضه من عدة وظائف أثناء المقابلة الأولية، فعندما يراه أصحاب العمل يلاحظون الثقب في أذنه- حتى دون ظهور أي حلق بها- ويخبرونه بأن ذلك لا يتناسب مع سياسة الشركة، حسب ما أخبر رصيف22: "أنا لست شخصاً صدامياً، ولا أتحدث عن هويتي أو ميولي بشكل واضح، لكن مظهري دائماً ما يسبّب حساسية، وهذا ما تغير ظاهرياً حين تم قبولي في وظيفة، حيث بدأت سلسلة أخرى من مواجهات مختلفة".

ما علاقة الشكل الخارجي أو الهوية الجندرية، بالقدرة على الحصول على فرصة متكافئة في التعليم، تؤهّل الفرد لالتحاقه بوظيفة تؤمّن مستقبله؟ هل هذا العقل الذي وجد في جسد امرأة عابرة لا يستحق الفرصة فقط لأنه ليس عقلاً في جسد نمطي؟

وأضاف: "بدأت العمل بسلام، ولكن في يوم من الأيام قال لي مديري بأنه رأى حسابي على تويتر، ورأي بأنني أُعجب (like) بمنشورات معينة. أترعبت وحسيت أني اتجمدت مكاني ومابقيتش عارف هيقوللي إيه"، ولكن المدير لم يهدّد عادل بالطرد، لكن بدأ بابتزازه جنسياً، مع العلم بأنه رجل ملتزم دينياً ومتزوج، بدأ في عرض عروض جنسية على عادل: "كان يبدي إعجابه بي حتى قبل اكتشاف حسابي على تويتر لكن بشكل متحفظ".

لم يكن عادل قادراً على ترك العمل لكونه يعيل نفسه، بعد أن ضربه والده حين أخبره عن ميوله الجنسية، وتمّ طرده من المنزل.

استمرّ تحرّش المدير لشهور، كان فيها عادل يؤخّر خطوة الموافقة على ممارسة الجنس معه بتبريرات عديدة، حتى بدأ الضغط بالتهديد والطرد من العمل، فقرّر عادل ترك العمل دون النظر لتبعات هذا القرار، إلا أن ذلك لم يوقف المدير من ملاحقته على وسائل التواصل الاجتماعي، ما اضطر عادل لغلق حسابه على تويتر وإنشاء حساب جديد باسم مستعار، كما غير اسمه على فيسبوك هرباً من المدير ذاته.

يبحث عادل حالياً عن فرصة هجرة، بعدما فقد القدرة على العمل بشكل دائم تماماً بسبب الاكتئاب والخشية من تكرار تجربة التحرش التي تعرّض لها مرة أخرى، واعتمد على العمل الحر فقط لتأمين أجرة مسكنه.

هذه تكلفة ثقب في الأذن وبعض قمصان ملونة وابتسامة في وجه الغرباء، وحساب إلكتروني وبعض إعجابات بصورة رجال مثيرة.

الرحلة الثالثة: مريم

مريم، شابة ثلاثينية تنحدر من عائلة مقتدرة مادية، تخرّجت من جامعة أجنبية في الخارج، كانت تعيش في مكان يسمح لها بإعلان هويتها كشابة مثلية، في البداية كانت قصة مريم قصة تتمنى أن تعيشها أي فتاة مثلية في سنها: عمل مستقر وشهادة علمية مرموقة.

بدأت المشكلة حين عادت مريم إلى القاهرة بسبب مرض والدها، لم تكن قريبة من عائلتها بالقدر الكافي، ولكن ظنت أنه من السهل حصولها على وظيفة في وطنها، خاصة مع خبرتها ودراستها.

ولأول مرة تعرفت مريم بشكل واضح على حقيقة عائلتها: أجبروها على إزالة الحلقات التي ترتديها في أنفها وحاجبها، تحت ضغط من والدتها التي كانت تقول لها: "الحلقان الزيادة اللي مخلياكي زي الشياطين دي".

أن يكون المرء كويرياً، أن يكون له جسد غير نمطي، بأعضاء جسدية غير محددة الهوية للآخر، أن يكون له حتى ميول غير معلن عنها، قد يكلفه حياته المهنية في اقتصاد لا يسمح له بأن يعيش في أمان مادي بلا عمل

بعد وفاة والد مريم، حاولت العودة للعمل، لكن لم ترَ والدتها سبباً لذلك، حيث إن العائلة ميسورة مادياً، فبدأت سلسلة المنع التي وصلت لحدّ منع الخروج تماماً والمساومة على مصروف بسيط، بسبب شك والدة مريم في سلوكياتها، وعدم رضاها على "حلاقة شعرها وملابسها الرجولية"، كما أخبرتها.

حاولت مريم التقديم على وظيفة من المنزل بدوام جزئي، لكن تم رفضها: "لم أفهم لماذا لم يتم رفضي عبر الإيميل؟ كانت المكالمة غريبة، والرجل على الطرف الثاني قال لي: (انتي ربنا هيلعنك طول حياتك)، لم أفهم لماذا؟ وماذا يقصد؟ ثم اكتشفت أنني كنت أنشر صورا مع علم الرينبو... لو كنت أعيش في أوروبا لسجّلت المكالمة وفضحته، ولكنني فكرت في عائلتي وردة فعلهم".

عرفت مريم أنه لا يمكنها مشاركة حساباتها على مواقع التواصل الاجتماعي مجدداً، وحاولت مرة أخرى إقناع والدتها بالعمل كمدرسة أطفال في حضانة بالقرب من المنزل بدوام جزئي، لكن الحضانة اعتبرت أنها لا تصلح للتدريس.

اصيبت مريم بالإحباط، فمنذ عودتها من الخارج ليس لديها مال ولا أصدقاء ولا حياة اجتماعية، فقط عالم افتراضي تستطيع التعبير فيه عن نفسها ومناكفة المجتمع الذي لا يعترف بقدراتها ولا يريد توظيفها.

أن يكون المرء كويرياً، أن يكون له جسد غير نمطي، بأعضاء جسدية غير محددة الهوية للآخر، أن يكون له حتى ميول غير معلن عنها، قد يكلفه حياته المهنية في اقتصاد لا يسمح له بأن يعيش في أمان مادي بلا عمل.  

هذا المشروع بالتعاون مع Outright Action International. 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

منبر الشجعان والشجاعات

تكثُر التابوهات التي حُيِّدت جانباً في عالمنا العربي، ومُنعنا طويلاً من تناولها. هذا الواقع هو الذي جعل أصوات كثرٍ منّا، تتهاوى على حافّة اليأس.

هنا تأتي مهمّة رصيف22، التّي نحملها في قلوبنا ونأخذها على عاتقنا، وهي التشكيك في المفاهيم المتهالكة، وإبراز التناقضات التي تكمن في صلبها، ومشاركة تجارب الشجعان والشجاعات، وتخبّطاتهم/ نّ، ورحلة سعيهم/ نّ إلى تغيير النمط السائد والفاسد أحياناً.

علّنا نجعل الملايين يرون عوالمهم/ نّ ونضالاتهم/ نّ وحيواتهم/ نّ، تنبض في صميم أعمالنا، ويشعرون بأنّنا منبرٌ لصوتهم/ نّ المسموع، برغم أنف الذين يحاولون قمعه.

Website by WhiteBeard
Popup Image