شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
جدري الأطفال في عمر الـ 55 ربيعاً

جدري الأطفال في عمر الـ 55 ربيعاً

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة

الجمعة 10 مارس 202310:32 ص

مريض وليس لدي القدرة على الخوض في الشأن العام، أو الأمور الجدية. ولأن المرض شأن شخصي، مثله مثل الحب، أو الخيبة، أو الذهاب إلى بائع السمك، فما الذي يمكنه أن يفيد القارئ لو كتبت له عن هذا الشأن؟

سألني صديق قبل يومين: هل تحسنت؟ فلم أجب، وأرسلت له اعتذاراً عن فظاظتي بأنني لا أحب التعاطف. ولأنه يملك روحاً ساخرة تصلح للمواساة الحقيقية، فقد غير سؤاله إلى: هل مت؟ فأجبت: لا، لكن الاحتمال ما زال وارداً.

لم أجرّب يوماً أن أسأل أمي: هل جدّرت وأنا صغير؟ فالجواب بالتأكيد سيكون إيجاباً.

ولأن هذا الاحتمال كان وارداً فعلاً، فإنني سأكتب عن هذه التجربة، أو على الأقل، عن الجانب الساخر والعبثي منها، والذي لم أتخيّل أن يقع لي في يوم من الأيام.
العنوان يدل على المرض، هذا قبل اللف والدوران والمقدمات، لكنني أشعر أن من واجبي ككاتب أن أوضح أو أبرّر هذا المرض كفكرة، مثلما أبرّر أية فكرة أكتب عنها، حتى لو كانت متضمنة في العنوان نفسه.

في هذا السياق يمكنني القول إن لديّ ولد وبنت في جيل الشباب، ولقد أصابهما جدري الأطفال قبل عشرين سنة. أذكر جيداً أنني كنت أقبّل البثور على جبين ابنتي حين كانت تبكي من الحكة، أو من برودة الدواء الذي يوضع على هذه البثور لتنشيفها. وأذكر أيضاً أن ابني أعجبته خشونة عقد أصابعي، وصار يطلب مني أن أحك له ظهره، كل نصف ساعة.
إضافة إلى ابني وابنتي، فلقد تعاملت، خلال مسيرتي الطبية، مع عشرات الأطفال المصابين الذين تنتقل الحبوب إلى داخل أفواههم. كنت أفعل ذلك دون أي تفكير بأنني سأصاب، فأنا كبير في العمر، ولا بد أنني أصبت في طفولتي واكتسبت مناعة ضد هذا المرض "الطفولي". لم أجرّب يوماً أن أسأل أمي: هل جدّرت وأنا صغير؟ فالجواب بالتأكيد سيكون إيجاباً.
قبل شهر من الآن أصيبت ابنتي الصغيرة. رأينا حبتين ورديتين على جبينها، فقلنا إنه الجدري. بعدها بيوم صرنا نتعامل، أنا وأمها، مع طفلة مصابة؛ ندهن لها أكسيد الزينك، نعطيها مسكن الحرارة حين يلزم، ونراقبها.

سألني صديق قبل يومين: هل تحسّنت؟ فلم أجب، وأرسلت له اعتذاراً عن فظاظتي بأنني لا أحب التعاطف. ولأنه يملك روحاً ساخرة تصلح للمواساة الحقيقية، فقد غيّر سؤاله إلى: هل مت؟ فأجبت: لا، لكن الاحتمال ما زال وارداً

بعد أسبوعين من ذلك، صحوت من النوم بآلام شديدة في عضلة الفخذ في ساقيّ الاثنتين. كان الأمر في غاية الغرابة، فأنا لم أركض، لم أمش لمسافة طويلة ولم أبذل أي جهد غير مألوف. استشرت طبيباً، فسألني: هل مارست الرياضة؟ لا. هل مارست الجنس؟ لا. هل صعدت درجاً طويلاً؟ ولا قصيراً يا دكتور. هل جلست بوضعية غير ملائمة؟ والله لا. أعطاني مسكنات آلام وصرفني. بعد يوم بدأت حرارة جسمي ترتفع وتهبط. أجلس أمام المدفأة لعشر دقائق، ثم أخلع ملابسي لنصف ساعة. قلت لا بد وأن هذا الألم في الفخذ عبارة عن التهاب عضلات، وهو الذي يتسبب في ارتفاع حرارة جسدي بهذا الشكل.

ذهبت إلى الصيدلية واشتريت مضاداً حيوياً. بعد يوم من ذلك خفّت الآلام في ساقيّ، لكن الحرارة زادت، ثم بدأ ألم آخر في عيني اليسرى مع احمرار ودموع لا تتوقف. لم أشك للحظة بالجدري، فلا حبوب ولا حكة، كل ما هنالك إحساس بالعصبية والتوتر الذي لا يسمح لي بالجلوس أو الاسترخاء.

استشرت طبيباً، فسألني: هل مارست الرياضة؟ لا. هل مارست الجنس؟ لا. هل صعدت درجاً طويلاً؟ ولا قصيراً يا دكتور.

مساءً اكتشفت زوجتي الأمر، مررت من أمامها فنادتني، وقالت: "في حبوب على رقبتك من ورا، شكله معك جدري"، وطلع معي جدري.

يا للفضيحة! هذا أول ما خطر في بالي. نسيت للحظة أنني مريض، ونسيت أيضاً أنني طبيب، وصار همي الأول هو كيف أخفي هذا الأمر عن أصدقائي وعن مكان عملي. لم أفكر بالتبعات الصحية لهذا المرض، ولا بالمضاعفات التي قد تتطور إلى التهاب رئوي أو التهابات في قشرة الدماغ، ولا حتى بالأيام التي سأقضيها حبيساً في البيت مع حكة في الجسم، وعصبية وشتائم كلما نظرت إلى وجهي في المرآة. كل ما فكرت به هو ردة فعل أصدقائي السفلة.
في اليوم التالي كان على زوجتي أن تسافر ليومين في مهمة عمل مُعدّة مسبقاً، فقرّرت أن تلغي سفرها وأن تظل إلى جانبي. بالطبع سأرفض هذا الاقتراح.. فأنا لا أحب التعاطف، ولا أحب أن يتم التعامل معي كشخص عديم الأهلية. أستطيع أن أتدبر أموري دون أية مساعدة من أحد. قالت: أنا لستُ أحداً يا عامر، أنا زوجتك وصديقتك. فأجبت: ولأنك كذلك، فأنا على يقين أن جانب الصداقة هذا سيعايرني في المستقبل، سافري أرجوك. وهكذا كان.
في المساء وجدت نفسي وحيداً، بطفح جلدي يتزايد مع كل دقيقة، ونوبات من الحرارة والبرودة التي لا تسيطر عليها الأدوية، والحكة التي لا تشبه الحكة بشيء بقدر ما تشبه وخزات الإبر في كل أنحاء الجسم.
تناولت أول قرص مضاد للحساسية، ثم الثاني.. ثم ودون أي تفكير متزن، تناولت الثالث. كذلك فعلت مع خافض الحرارة والألم، لا أعرف للدقة كم قرصاً بلعت. خلعت ملابسي وغسلت جسدي بالماء البارد، وضعت مكعبات الثلج على رقبتي وخلف أذنيّ، ثم عدت إلى الفراش وأنا أرتجف وأفقد الوعي شيئاً فشيئاً، لكن النوم بعيد. تناولت قرصيّ بانادول نايت لأتمكن من النوم، لكن ذلك لم يفلح، بل على العكس.. بدأت أشعر بالغثيان والرغبة في التقيؤ، لكثرة الأدوية التي تناولتها. أخيراً قرّرت أن أتخذ قراراً انتحارياً يخلصني من كل هذه المعاناة. وقفت أمام الثلاجة، نظرت لصور أولادي وزوجتي، واعتذرت منهم فيما لو أصابني مكروه، ثم أغلقت الهاتف والإنترنت، وتناولت قرصين من منوّم شديد الفاعلية، ولا أعرف ما الذي حصل بعد ذلك.

اتصال ثان كان من صديقي الشاعر طاهر رياض، حيث ختم اتصاله بجملة: "يلا عقبال الحصبة". اطمئنان ثالث انتهى بجملة: "إذا تعبان من الجدري كيف رح تعمل مع تبديل الأسنان"

بعد عشرين ساعة صحوت على صوت جرس الباب، وصوت رجل يتحدث عبر الهاتف، ويقول: أنا رنيت الجرس أكثر من مرة، وما في حدا بيفتح. يا إلهي... عشرين ساعة من النوم؟
طبعاً خلال هذه العشرين ساعة لم يبق صديق أو صديقة مشتركة في عمان إلا ورنّت له زوجتي وصديقتي، لأن "قلبها أكلها عليّ" كما تقول. صارت كل البلد تعلم أنني مختفٍ، وبدأت الاتصالات للاطمئنان.

أول هذه الاتصالات كان من صديقي "أبو جابر": وينك يا رجل؟ أجبت: بصراحة مصاب بجدري الأطفال. ضحك وأجاب: لو قلت كان ودينا هالبنت تلعب معك، بلكي انصابت وخلصنا (يقصد ابنته ذات الخمسة أعوام). الاتصال الثاني كان من صديقي الشاعر طاهر رياض، حيث ختم اتصاله بجملة: "يلا عقبال الحصبة". اطمئنان ثالث انتهى بجملة: "إذا تعبان من الجدري كيف رح تعمل مع تبديل الأسنان"، ورابع بجملة: "بس تطيب بنطلع رحلة عالملاهي"، وهكذا.

هؤلاء هم أصدقائي، وهكذا هم؛ ساخرون من كل شيء، ولهذا هم أصدقائي، فأنا رجل لا يحب التعاطف والجمل التي تشي بعناية مبالغ فيها. زوجتي، أو جانب الصداقة الذي يجمعني بها، هي أيضاً تتركني وتذهب إلى عملها، مع تأكيد أنها ترفض هذه المهمة التي تم ترحيلها إليها من أمي، وأن مهمتها انتهت مع الجدري مع شفاء ابنتنا. أما أنا، فحبيس البيت منذ أكثر من أسبوع، ولا أعرف متى ستنتهي هذه المعاناة، ولهذا أعبّر عنها بالكتابة والشتائم تجاه زوجتي والأصدقاء.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image