لم يَعد أحمد (21 عاماً)، ينام جيداً، وفقد شهيته للطعام، وقد ساءت صحته واكتأب بشدة. خرجت قطته من المنزل إلى الشارع وضاع أثرها. يقول إنها سُرقت وهي حالة تتكرر معه. هو يحب القطط منذ طفولته. يربيها صغيرةً حتى تكبر وعندما تضيع ينهار نفسياً ويذهب للبحث عنها في متاجر القطط. في إحدى المرات، وجد قطته الضائعة لدى متجر في الحي، واستعادها بـ200 ألف دينار عراقي (137 دولاراً).
أحمد من محافظة واسط جنوب العراق، وهو طالب في المرحلة الأخيرة من الثانوية العامة. يقول لرصيف22: "القطط تملك الحنان وهي تحبني وتعرفني وتعوّضني عن انعدام الأصدقاء كما تخفف عني ضغوط الدراسة".
عندما أخبر أفراد عائلته أوّل مرة برغبته في تربية قطة، رفضوا وقالوا إنهم سيطردونه معها حالما يأتي بها. يروي: "وضعتهم أمام الأمر الواقع. جلبت واحدةً ولم ينفذوا وعيدهم. على العكس، صاروا يهتمون بها في غيابي، وعندما ضاعت ووجدناها أخذوا يبكون لأنها تعرفت إليهم فوراً، خاصةً أمي".
الآن ينتظر أحمد أن تكبر "رامو"، قطته الأخيرة المفقودة، وهي من نوع راغدول، وتصل إلى سن البلوغ. "سينشرون صورتها في مواقع التواصل الاجتماعي لطلب التزاوج مع قط ذكر فأستعيدها"، يقول.
قطة أحمد المفقودة
تطلب القطط التزاوج بين عمر 5 أشهر وسنة. تلك التي تعيش وحيدةً ستغادر المنزل من أي ثغرة تجدها بحثاً عن شريك لمرة واحدة. منها من تعود بعد قضاء حاجتها، لكن قسماً آخر لا يتذكر طريق العودة أو يلتقطه المارة.
ليس أحمد وحده من يعاني. إسراء (30 عاماً)، وهي غير متزوجة ولا زالت تعيش مع عائلتها في مدينة الشطرة جنوب العراق، تمر بحالة مشابهة. كانت قطتها "ميلا" تلعب بجوار باب المنزل عندما اقترب منها شابان غريبان وقاما بسرقتها.
"ميلا" قطة شيرازية عمرها 4 أشهر، وإسراء تعتني بها مثل طفلة. تقول لرصيف22: "كنت أحممّها وأمشط شعرها وأقلّم أظافرها وأنظف خشمها وأذنها وعينيها. أطعهما رؤوس وأرجل الدجاج بعد سلقها وأضيف إليها الرز والجزر والبطاطا المهروسة بالإضافة إلى الأطعمة المخصصة للقطط".
وضعت أهلي أمام الأمر الواقع. جلبت قطة ولم ينفذوا وعيدهم. على العكس، صاروا يهتمون بها في غيابي، وعندما ضاعت ووجدناها أخذوا يبكون لأنها تعرفت إليهم فوراً، خاصةً أمي
مثل أحمد، فقدت إسراء الرغبة في النوم والطعام وصارت تبكي كثيراً. عرضت عليّ شريطاً صوّرته كاميرا مراقبة منزلية يُظهر لحظة سرقة "ميلا". بالنسبة لها، وجود القطة بقربها جعل أجواء حياتها مليئةً بالرحمة والإنسانية، "أحبها جداً. كانت توقظني في الصباح وتطلب الطعام بحركاتها. هل تأكل جيداً الآن؟ إذا أكلت طعاماً غير ناضج ستلفظه. أشعر بالنار في قلبي".
السخرية
سألنا المتحدث باسم وزارة الداخلية اللواء خالد المحنا، عمّا إذا كانت الشرطة تتابع حالات سرقة الحيوانات الأليفة، فسخر من الموضوع.
بيد أن الخبير القانوني علي التميمي، يقول إن السرقة لها صور متعددة من ضمنها سرقة هذه الحيوانات، وتسري عليها أحكام المواد 443 و444 و464 من قانون العقوبات العراقي.
وتنص المادة 443 على سجن المدان بسرقة ليلية في ظرف مشدد، مثل تسلّق الجدران ودخول المنازل، بالسجن 10 سنوات، في حين تقضي المادة 444 بسجن مرتكب السرقة في النهار 7 سنوات، وكلا الجرمين جناية.
أما إذا وقعت السرقة خارج المنزل فهي جنحة تعاقب عليها المادة 446 بالحبس أقل من 5 سنوات.
"لا تعرف النفاق"
إسراء وأحمد جزء من مجتمع بدأ يتسع في العراق خلال السنوات القليلة الماضية، يألف أفراده القطط والكلاب ويجعلونها جزءاً أساسياً من حياتهم، وأسباب ميلهم إليها تكاد تكون واحدةً في الغالب. بعضهم لا يملك أصدقاء أو يشعرون بالسأم، ومنهم من هم مصابون باضطرابات نفسية أو بأمراض دماغية وعقلية، تساعدهم هذه الحيوانات.
وهناك أزواج لم ينجبوا أطفالاً فوجدوا في هذا النوع من الحيوانات ما يملأ الفراغ العاطفي عندهم، كما يخبرنا عباس الشمخاوي، الذي يدير مجموعةً على فيسبوك اسمها "قطط ذي قار"، فيها تقريباً 6 آلاف مشترك، يقدّم لهم النصائح حول الاعتناء بحيواناتهم الأليفة، ويتاجر بها أيضاً ويساعد في البحث عن المفقودة منها.
يبلغ عباس 43 عاماً، وبدأ اهتمامه بالقطط والكلاب في سنوات المراهقة. على صفحته الشخصية في فيسبوك، ثبّت عبارة "خُلقت لأعيش بمفردي بعيداً عن المنافقين"، كما ينشر أبياتاً من الشعر باللهجة العامية من تأليفه يتحدث فيها عن أشياء بهذا المعنى. سألته عن ذلك، فرد باقتضاب: "الابتعاد عن الناس أفضل من الجلوس معهم. الحيوانات تعوّض عنهم".
كتب عباس على صفحته الشخصية في فيسبوك، عبارة "خُلقت لأعيش بمفردي بعيداً عن المنافقين"، ويقول: "الابتعاد عن الناس أفضل من الجلوس معهم. الحيوانات تعوّض عنهم".
الشيء ذاته تقريباً قاله لي لؤي (41 عاماً)، عندما التقيته داخل متجره في شارع المشاتل في حي الأعظمية شمال بغداد. يبيع لؤي الكلاب والقطط الأليفة ويتحرك في المتجر الواسع نسبياً والاسترخاء بادٍ على وجهه. هو يعرف الكثير عنهن، فقد دخل عالم الحيوانات كهاوٍ في 2008، ثم اتخذها مهنةً.
بالإضافة إلى بعض الكلاب والقطط النائمة داخل حاويات زجاجية وأقفاص معدنية، تنتشر في أرجاء المتجر أنواع من الأطعمة والمستلزمات الخاصة بتربيتها مثل الحلوى وفرش ومعجون الأسنان ومصففات الشعر وقطع ملابس ومعطرات.
مستلزمات تنظيف وعناية بالقطط معروضة للبيع في المتجر الذي يعمل فيه لؤي
يبحث أغلب الزبائن عن قطط بعمر شهرين إلى 3 أشهر، لأن القط في هذا العمر يكون مطيعاً ومسلياً أكثر.
"الهملايا الشيرازي، شانشيلا، بيرشن فان وكاليكو وباي كلر وهارلي وسكوتش الأسكتلندي وبرتش وراغدول وسيبيري"؛ يرغب زبائن لؤي في هذه الأنواع من القطط والكلاب ويسألون عنها في متجره والمتاجر المجاورة.
قطط معروضة للبيع في متجر لؤي
أثّرت هواية لؤي في تربية الحيوانات الأليفة وقربه منها، على شخصيته. يقول إنها عرّفته على سبل أفضل للتعامل مع أولاده الصغار. هو يشبّهها بالأطفال ويشرح لزبائنه صفاتها الخاصة بالتفصيل وينصحهم باعتماد الثواب والعقاب معها كأسلوب تربية.
يقول: "إذا تصرّف القط بخشونة، قم برفع صوتك عليه قليلاً، واضرب الأرض بيدك أو أبعده عندما يتقرب منك خاصةً إذا كنت تتناول الطعام. سيعرف أنه أخطأ ولن يكرر خطأه".
ويضيف: "تذكر دائماً أن هذا الحيوان يملك روحاً مثلك، لكنه بلا حول أو قوة. وهو ليس لعبةً، بل مثل أولادك، ويجب أن تصل معه إلى مرحلة أنك تعرف ماذا يريد أو مما يعاني من خلال نظراته إليك. لا تهمله إذا رأيته خاملاً وحزيناً أو منطوياً. وهو سيقوّي عندك الإحساس بالرفق".
لؤي يلاعب قطة في متجره
عندما كان لؤي شاباً صغيراً، أكل قط من الشارع عصفوراً كان يربّيه في المنزل، فصار ينتقم من قطط الشوارع بملاحقتها وضربها بالحجارة والأجسام الصلبة. بعد فترة وجد قطةً مريضةً تنام تحت سيارة قرب منزله، وكان الوقت شتاءً، فرقّ لها وأسعفها.
"نقلتها إلى المنزل ووضعتها أمام المدفأة ثم جلبت لها قطرات للعين، ومغذّياً من الصيدلية، وأطعمتها صدر الدجاج المسلوق واللبن بناءً على نصيحة العارفين ومحاضرات في اليوتيوب، فتعافت وعاشت معي"، يقول.
كانت هذه الحادثة بداية مسار جديد في حياة لؤي. انتقل للعمل مع خاله الذي يملك متجراً في شارع المشاتل وزوجته الطبيبة البيطرية، قبل أن يستقل عنهم لاحقاً. ومنذ تحوّله إلى تربية الحيوانات الأليفة، بات يتجاوز وطأة الأيام الصعبة التي تمر عليه أو الظروف العامة التي تتطلب البقاء في المنزل مثل الاضطرابات الأمنية أو جائحة كورونا وهو يشعر بالمتعة.
في منزله الآن 4 قطط و"كاتي" المفضّلة لديه، "بيني وبينها مشاعر متبادلة. أحبها كثيراً وهي تشعر بهذا وتبادلني الشعور ذاته وتتعامل معي بحميمية مفرطة. أضعها في حضني كثيراً لنلعب أو تنام".
قبل مغادرتي المتجر، دخلت امرأة مسنّة مع زوجها برفقة ابنهما الصغير. قرّباه من حاوية زجاجية تنام فيها قطط معروضة للبيع. تلمّس حسين الصندوق وأخذ ينظر إلى القطط. أخبرتني والدته بأنه مصاب بمرض دماغي ونصحهم الطبيب باصطحابه في جولات مثل هذه ليتحسن سلوكه.
الطفل المريض حسين وهو يشاهد القطط في متجر لؤي مع والديه
بجوار متجر "Pet House"، الذي يعمل فيه لؤي، تقع عيادة الطبيب البيطري مصطفى النعيمي، الذي كان خارجاً لتوّه من غرفة العمليات الصغيرة داخل العيادة عندما التقيته ولم يطفئ بعد النيون الأزرق أو يمسح عن الأرضية دماء قطة تعسّرت ولادتها فأجرى لها عملية توليد قيصرية.
غرفة العمليات في عيادة الطبيب البيطري مصطفى النعيمي في شارع المشاتل
يقول بعدما استقر على كرسيه في الصالة الواسعة لعيادته، إن "بعض مربّي الحيوانات الأليفة يتعلقون بها مثل فرد من عائلاتهم"، ثُم حدثني عن ضابط شرطة برتبة متقدمة جلب إليه قطةً مريضةً وكان يبكي عليها.
كذلك، تحدث عن الإحساس الذي ينتابه عندما ينقذ حيواناً من الموت ويداوي جراحه ويخفف من آلامه، وكيف وجد أطباء بيطريون أن جعل علاج حيوانات الشوارع مجانياً يشجع الناس على جلبها إليهم.
بجوار غرفة العمليات، كانت هناك قطة تتحرك داخل قفص صغير. أخرجها ووضعها على منضدة مستطيلة وقدّم إليها الطعام من مغلّف. نقل شبان هذه القطة إلى العيادة بعدما لجأت إلى مقهى شعبي في الجوار وهي تنزف ومصابة بالغرغرينا، وكان يجب بتر ساقها الأمامية اليمنى، هو يهتم بها منذ أشهر وقد تحسنت صحتها.
"أم فاضل" بعد تعافيها من المرض
طالب والكلب "أسود"
لا ينصح خبير علم النفس قاسم حسين صالح، الكبار بالانغماس كثيراً في عالم الحيوانات الأليفة واتخاذها بديلاً عن البشر "لأنها ستجعلهم يبتعدون عن الواقع الحقيقي المعيش"، ويقول إن هذه الحيوانات وسيلة تسلية جيدة للأطفال وبلا خطورة، كما أن تركيبة أدمغتها، وخاصةً القطة، مقاربة للبشر.
ألّف صالح كتباً عدة تناول في بعضها التغيرات في نفسية الفرد العراقي جرّاء الحروب والأزمات العاصفة في العقود الأخيرة. "لم تمر ظروف سيئة على سكان هذا البلد منذ تأسيسه، مثل الظرف الحالي نتيجة الفساد وسلوك الأحزاب الحاكمة، وقد أثر هذا بالطبع على الحالة النفسية للناس. حتى خلال الحرب مع إيران في ثمانينيات القرن الماضي ولاحقاً الحصار الدولي (إثر غزو الكويت عام 1990)، لم يكن الوضع سيئاً هكذا"، يروي.
وهو يتحدث إليَّ، تذكّر مؤسس ورئيس "الجمعية النفسية العراقية"، كلبه "أسود". كان صغيراً ويعيش مع عائلته في قرية على ضفاف نهر الغراف جنوب العراق في أواخر خمسينيات القرن الماضي، وعدّ "أسود" ربيبه.
مرةً، أكل ابن آوى دجاجةً من دجاجات عائلة صالح، "ناديت على أسود وقلت له إن ابن آوى أكل الدجاجة فذهب وراءه ثم عاد بجثته وألقاها أمامي".
وبعدما غادر القرية للدراسة جاءه نبأ نفوق الكلب، "انتابني حزن شديد ولما سألني صديقي طالب القره غولي (الملحن المعروف 1939 - 2013)، عن السبب وأخبرته راح يضحك وأخذني إلى جسر فوق نهر وصار يواسيني بالغناء. صورة أسود منطبعة في ذهني. كأني أراه في هذه اللحظة أمامي"؛ يختم بحزن.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع