في دراسته المطولة لمجموعة أفلام تشارلي شابلن، يحدد المؤرخ السينمائي والناقد جيرالد ماست، جانباً نادراً ما نوقش في أعمال تشابلن: استخدام الأحلام وصور الأحلام، ليكشف ماست عن إحدى أدوات تشابلن الأساسية كمخرج ومؤلف سينمائي.
كان سيجموند فرويد، الذي سبق له أن حلل عدداً من الفنانين العظماء من خلال أعمالهم الفنية، ففحص نظرية قتل الأب في أعمال دوستويفسكي، وكتب عن طفولة ليوناردو دافنشي وفي التأثيرات العاطفية لأعمال مايكل أنجلو، قد تحدث في عام 1931، للمرة الأولى عن شارلي شابلن، في رسالة لصديق، والذي رآه كعبقري عظيم.
في كل مشهد سيجرب شيئاً جديداً بهدف واحد، أن ينزع عن أي موقف ألمه وجديته وأساه، يحيله إلى سخافة مثيرة للضحك.
يزعم فرويد أن أعمال الفنانين مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بذكريات طفولتهم، ولم يكن شابلن الذي نشأ في القرن التاسع عشر لأم مريضة وأب غائب سكير، استثناء، عانى الفقر والحرمان، وفي أفلامه أعاد نسج سيرته الذاتية وذكريات طفولته.
في فيلمه القصير Easy street أعاد شابلن إنشاء الشارع الشرقي بوالورث جنوب لندن، حيث ولد، ولعب دور شرطي متلعثم أرسل لإصلاح حي سيء، حتى مشية الصعلوك الأيقونية، بقدمين مقلوبتين إلى الخارج يركلهما أحياناً إلى مؤخرته، وساقين مقوستين يعرجان، قد استلهمها من سكير في حانات شارعه، وكذلك رسم كل مخاوفه في أفلامه، بيوت طفولته وإجباره على الذهاب لدار أيتام.
لذا رآه فرويد "حالة بسيطة وشفافة بشكل استثنائي" لنظريته التي تؤمن أن الفنانين إنما يستعيدون ذكريات طفولتهم، عبر أحلام اليقظة التي نمر بها جميعاً، الفارق أن الفنانين يتمكنون من تحريف تلك الأحلام إلى شيء أكثر إقناعاً، عبر التغييرات والتمويه بما يخفّف من طابعها الأناني، فيستطيع الفنان عبر "رشوة" المتعة الجمالية أن يشركنا معه في لعبة تحقيق أمنياته التي تستهدف رغبات خفية ومقموعة، بل وأن يوفر لنا إشباعاً أكبر مما توفره لنا أحلام يقظتنا.
يوسع ديفيد جيه ليماستر، في دراسته The Pathos of the Unconscious: Charlie Chaplin and Dreams من خطوط تفسير أفلام شابلن عبر أحلام اليقظة إلى نهايتها، وكيف استخدمها لخلق الشفقة والتعاطف بينه وجمهوره، وكيف حدّد عبرها قناع تشارلي الصعلوك.
يزعم فرويد أن أعمال الفنانين مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بذكريات طفولتهم، ولم يكن شابلن الذي نشأ في القرن التاسع عشر لأم مريضة وأب غائب سكير، استثناء
يبدأ شارلي شابلن أفلامه بلا نص سينمائي، من صورة قوية تلحّ على ذهنه، فكرة، مشهد واحد غامض، ثم يرتجل حوله مشهداً تلو آخر، حتى تتشكل حوله قصة. يأخذ أي موقف، ثم يكرّر تصويره، لا يهم كم من المرات، مرتين، ثلاث، قد يعيد المشهد الواحد ثلاثمائة مرة.
خطر أن يعلق في مشهد واحد للأبد كان ماثلاً أمامه طيلة الوقت، لكنه لم يخش ذلك التكرار، كأنها طريقته للسخرية من الزمن، من الموت، والأبدية الجاثمة كثقل لا يعي خفّة الصعلوك.
في كل مشهد سيجرب شيئاً جديداً بهدف واحد، أن ينزع عن أي موقف ألمه وجديته وأساه، يحيله إلى سخافة مثيرة للضحك.
شارلي شابلن، قاتل ظريف للجدية في هيئة متشرد، ما يخفيه هو السكين الذي يسلخ به لحم الواقع، يحيله إلى هيكل عظمي، يمكن أن يكسوه بأي شيء مرتجل، فوضوي، هكذا يتحول الرعب إلى سخافة تستدعي الضحك، تماماً كما فعل بنفسه. كانت مشاريعه السينمائية كلها، هي هرب عبر الأحلام من ذاته وإعادة اختراع لها بحيث تستدعي الشفقة والحب. وقد جنى ثروة من ذلك، المحظوظ الذي حول تعاسته إلى رصيد في البنك وحب عابر للحدود. البائس الذي لم يصدق أبداً استحقاقه لهذا الحب.
المواقف المتأسية، الحزينة حيث تظهر الميلودراما في أفلامه، نادرة، لا تدوم على الشاشة أكثر من ثوان، إنها مصانة للطفل الذي يرعاه ويحارب كيلا يُخطف منه إلى دار أيتام، كما حدث معه في طفولته، لكنه تلك المرة لن يسلمه دون معركة، أو للحبيبة العمياء التي تظنه مليونيراً، حيث سيحظى بالحب في ضوء العتمة وشرط ألا يرى، أما الشرطي وصاحب المصنع، لا مشاعر حميمة لهما، أو للثائرين مثله على الأوضاع التي تحداها بنكتته، حتى عندما يُحشر ضمنهم، رغماً عنه، ليشعل ثورة لا يفهمها، سيحيل الموقف كله إلى سخافة مدوية.
يبدأ شارلي شابلن أفلامه بلا نص سينمائي، من صورة قوية تلحّ على ذهنه، فكرة، مشهد واحد غامض، ثم يرتجل حوله مشهداً تلو آخر، حتى تتشكل حوله قصة. خطر أن يعلق في مشهد واحد للأبد كان ماثلاً أمامه طيلة الوقت
لا أصدقاء كذلك، بوجود صديق يُنفى مبدأ التشرد، الذي يعبر به حاجز الهوية واللغة، ما يجعل من متشرد شارلي شابلن عالمياً، متجاوزاً للزمان والمكان، أنه منزوع الجذور، والصداقة جذر في الزمان والمكان. الحبيبة ليست كذلك، ولا الطفلة التي تبناها. إنهما امتداد لظل المتشرد، للحمه، مأوى وكهف، يمكن طيه عبر احتضانه بعنف والرحيل به إلى أي مكان، حتى لو كان وحيداً دونهما، فقد تشربهما، عبر الاحتضان والحماية، امتص شيئاً منهما في لحمه وروحه، فلم يعد بالإمكان نزعه.
الصداقة ليست بمأوى ولا كهف يمكن طيّه، بل جسدان يتحول كل منهما طواعية إلى جسر لآخر، إنها تستدعي رسوخاً للهوية المتشكلة دائماً، كي تحافظ على الصداقة عليك أن تظل عالقاً في هيئة جسر، لا يملك المتشرد رفاهية الصداقة، فبوجودها تنتفي الصفة، وبالنسبة لصعلوك تشارلي، يفقد مع وجود الصديق شرعية مأساته، ويبطل سحره، إذا تستدعي الصداقة إمعان النظر، فتظل مهدّداً ذات لحظة بكشف حيلة الأرنب الذي يخرجه الساحر من القبعة، أو تصير حيلة مملة.
خلف صورة شابلن الظريفة الجذابة، قسوة وعنف وحب محرّم مدان للمراهقات، أنانية، شك، غيرة، بارانويا، خوف من الفقر، يقين أنه لا يمكن لأحد أن يحبه لذاته، ووفقاً لأبنائه، فقد كان حضوره طاغياً كديكتاتور، حد أن كل من يقترب منه يختنق.
كي تحافظ على الصداقة عليك أن تظل عالقاً في هيئة جسر، لا يملك المتشرد رفاهية الصداقة، فبوجودها تنتفي الصفة، وبالنسبة لصعلوك تشارلي، يفقد مع وجود الصديق شرعية مأساته، ويبطل سحره
كل خدع السحرة تقوم على مبدأ واحد، توجيه انتباهك، تضليله إلى الجانب الخطأ. كل ما فعله شابلن، كان صرفاً للنظر عنه.
لذا ارتبك شارلي شابلن بشدة، عندما أُجبر صعلوكه على الكلام امتثالاً للتغير في تقنيات السينما، قال إن الكلمات زائفة، وأن الصمت وحركة الجسد أكثر بلاغة وتأثيراً، ربما كان على حق، لكن ليس في حالته، عندما تفوه برأيه في الكلام، فقد استخدمه ليخرسه ويحيله إلى الصمت، تكلم ليسخر من الكلام.
الكلام أيضاً يمكن أن يتحول إلى استعراض، تحويل انتباه، هذا ما لم يفهمه شارلي شابلن في البداية، متشبثاً بأن الصمت والحركة أكثر بلاغة وجمالاً، بينما تشبثه بتلك الحقيقة مردها أن لغة الصمت والحركة ستخفي حقيقة أن بإمكانه الكذب عبرهما.
هكذا كان أكثر المشاهد المحفورة في أذهاننا له وهو يتكلم، في فيلم الديكتاتور العظيم، فعندما فتح فمه للمرة الأولى لم يلق نكتة، بل تحدث بجدية إلى العالم بأسره، وألقي خطبة مؤثرة، مصيرها المضمون هو التصفيق، خطبة عن السلام والعدل ونبذ الجشع. لقد وجد قناعاً جديداً لا يُرى عبره، ومن جديد خرج الكلام من فمه، كأرنب من القبعة، موجهاً الانتباه إلى مآسي العالم ليصرفه عن نفسه.
لم تمر الحيلة الجديدة بحشر العظة بسلام، فقد دفع ثمنها بمطاردة إدجار هوفر، رئيس مكتب التحقيقات الفيدرالي، الذي كان وراء تغذية الآلة الشيطانية للإعلام الأمريكي بتحويله من محبوب إلى شرير، يُخفي انتماءً شيوعياً، وكذلك فضح حياته السرية إلى العلن، كعنفه الأسري وعلاقاته العاطفية، وكانت الآلة تتغذى على كل شيء، على الصدق والمبالغة والأكاذيب، لكن ظل أقسى انتقاد تعرض له، في مؤتمر صحفي لفيلمه "مسيو فيردو" وعرضه الفيلم الوثائقي The Real Charlie Chaplin ، عندما دافعت صحفية عن حقه في أن يعتنق ما شاء من الآراء، إلا أنها تحمل اعتراضاً واحدا تجاهه: لم يعد كوميدياناً جيداً منذ أن قرّر أن يضع رسائل هادفة داخل أفلامه، لتنهي تعليقها قائلة: "لقد خذلت جمهورك".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...