صادف يوم الخامس والعشرين من كانون الأوّل/ ديسمبر، ذكرى وفاة تشارلي تشابلن، الذي رحل في العامّ 1977. استوقفتني ذكرى وفاته كثيرًا، ليس لأنني أعشق هذا الصامت الذي أطلق قهقهاتنا عالية، ولكن لأنه كانت تراودني منذ عدة أيام فكرة ظلت تتردد على شاشة التلفاز كثيرًا أمامي، واستطعت الربط بينها وبين ما قدمه تشارلي ببساطة.
الفكرة التي تكرر ترددها على منافذ عقلي كانت في أحقية الصم في الاستمتاع بالأعمال الفنية، وهو ليس بالأمر المُعقد تمامًا، فمجرد ترجمة مكتوبة لما يُنطق كفيلة بحل تلك العقدة الإنسانية المتناهية الصغر.
في طفولتي وددت أن أتعلم القراءة سريعًا حتى أستطيع مشاركة الأهل في جلساتهم الخاصة لدى مشاهدة المسلسلات الأجنبية التي كانت تُعرض على التلفاز القومي، ولكنني لم أكن مؤهلًا لذلك حينذاك، فلم أجد غايتي إلا في تشارلي تشابلن، الرجل الذي لا يتكلم ولكنه يُضحكني للغاية، الصامت الذي وضع الكبار والصغار على قدم المساواة دون تمييز، وها هو يزورني مجددًا ليُذكرني بأنني إذا كنت قد كبرت الآن وتعلمت القراءة السريعة، ومن الممكن أن أشاهد ما أريد من العروض الأجنبية، فهناك من لن يستطيع التمتع بالعروض الفنية العربية لعدم قدرته على السمع، ودُهشت كثيرًا حينما تأملت الأمر أكثر فوجدت أن بلادنا في الحقيقة تحرص على ترجمة الأخبار بلغة الإشارة وتتجاهل ذلك في السينما وعروض التلفاز، وكأن الصم من حقهم فقط معرفة عدد القتلى والجرحى حول العالم.
وإذا أردت أن تُزيد الأمر إرباكًا، فلك أن تتخيل فيلمًا يحمل قضية مساعدة الصم في عيش حياتهم بشكل طبيعي إلى حد كبير، ولكنه غير مترجم كتابة، أي أن الفيلم ذاته يعد مثالًا واضحًا لعدم الاهتمام بالصم في مجتمعنا، وكأنك تقول لهم: "سوف أنتج عملًا يتحدث عن معاناتكم ولكنكم لن تتمكنوا من مشاهدته أيضًا"، أليس الأمر مُريبًا ومثيرًا للسخرية؟
لذا على ما يبدو أن الفن قدم رسالة واضحة للصم مفادها أنه لو أراد أحدهم الاستمتاع بعمل فني ما، فيجب عليه الاتجاه للفن الغربي المترجم، أو العودة إلى زمن السينما الصامتة التي فرض عليها أن تكون حركة مرئية تفسر نفسها دون الحاجة إلى الكلمات مثل عروض تشارلي تشابلن، أو حتى اللحاق بركب مستر بين الذي يعدّ هو الآخر ملجأً مناسبًا للصم في كل وقت، وهذا شيء بعيد كل البعد عما اعتدناه في رسائل الفن المليئة بالحساسية والرقي والدق على كل الأبواب بكل الوسائل والطُرق، لا أن تتجاهل بسهولة قطاعًا كبيرًا من جمهورها، خصوصًا إذا ما تفحصت أعداد الصم لتجد أنه وفقاً لمنظمة الصحة العالمية مثلًا، هناك نحو 360 مليونًا - أي نحو 5% من سكان العالم - تحت بند الصم، منهم 7.5 مليون في مصر، أي ما يُعادل 7.2% من عدد سكانها، ولن نتوقف هنا، ففي إحصائية أخرى أصدرتها الأمم المتحدة، تجد أن ثُلث الأشخاص الذين تجاوزوا عامهم الـ 65 يعانون من فقدان السمع المسبب للعجز، والآن يبدو أننا نتحدث عن أمر غاية في الجدية، أليس كذلك؟
الفكرة التي تكرر ترددها على منافذ عقلي كانت في أحقية الصم في الاستمتاع بالأعمال الفنية، وهو ليس بالأمر المُعقد تمامًا، فمجرد ترجمة مكتوبة لما يُنطق كفيلة بحل تلك العقدة الإنسانية المتناهية الصغر.
تشارلي تشابلن، الرجل الذي لا يتكلم ولكنه يُضحكني للغاية، الصامت الذي وضع الكبار والصغار على قدم المساواة دون تمييز.
تخيّل فيلمًا يحمل قضية مساعدة الصم في عيش حياتهم بشكل طبيعي إلى حد كبير، ولكنه غير مترجم كتابة، أي أن الفيلم ذاته يعد مثالًا واضحًا لعدم الاهتمام بالصم في مجتمعنا، وكأنك تقول لهم: "سوف أنتج عملًا يتحدث عن معاناتكم ولكنكم لن تتمكنوا من مشاهدته أيضًا".
المقال هنا لا يحمل فقط رسالة عتاب، بل دعوة لصناع الأعمال السينمائية والتلفزيونية والقائمين عليها، بأن يضعوا تلك النقطة نصب أعينهم لعلنا نرى قريبًا فيلمًا عربيًا يحمل ترجمة مكتوبة للحوار الذي يدور في مشاهده.
ولعلك قد لاحظت أن مواقع الأخبار اتجهت مؤخرًا إلى تقديم مقاطع فيديو تحمل ترجمة مكتوبة، لا أعلم ما إذا كان ذلك مقصودًا أم لا، ولكن جل ما أعرفه أن مقطع الفيديو التحفيزي ومقطع الفيديو المضحك والمقطع الإخباري والمقطع المعلوماتي، كل تلك المقاطع أصبحت في حوزة الجميع بلا تفرقة، الجميع يستطيعون فهم ما يحدث تمامًا، فلمَ لا يتخذ الفن نفس الطريق، خاصة أن ترجمة الأعمال الفنية غير مُكلفة ولا مُربكة، ومن الغريب ألا يهتم أحد بذلك في وقت أصبح بإمكان البعض التعايش وكأنهم أحد أبطال الفيلم بارتداء نظارات ثلاثية الأبعاد مثلًا، حتى أن الأمر قد وصل إلى الشعور بالهزات وقطرات الماء والحرارة والبرودة داخل قاعات السينما ليستطيع المشاهد تعايش الحالة والعصر الزمني بواقعية كبيرة جدًا، كل ذلك كان مُكلفًا بلا شك ويحتاج لمعايير خاصة حتى أثناء تصوير الأفلام. هذا كله ليس مجرد تعديلات إضافية على المُنتج النهائي، بعكس ذلك الطلب البسيط في تقديم الفيلم مترجمًا على الشاشة بالتزامن مع المشاهد، وهذا فقط يحتاج إلى بعض الاهتمام والمبالاة والإنسانية، لا غير.
المقال هنا لا يحمل فقط رسالة عتاب، بل دعوة لصناع الأعمال السينمائية والتلفزيونية والقائمين عليها، بأن يضعوا تلك النقطة نصب أعينهم لعلنا نرى قريبًا فيلمًا عربيًا يحمل ترجمة مكتوبة للحوار الذي يدور في مشاهده، كما اعتدنا أحيانًا ترجمة الأفلام بالإنجليزية والفرنسية، كذلك لتلبية حاجة الأجانب المقيمين في بلادنا، لربما حينذاك قد يتخذ الأصم مقعدًا مريحًا وينضم للأهل ويستمتع بحقه في متابعة ما يريد، وكما قال تشارلي من قبل: "الشيء الذي يغني من يأخذونه؛ ويزيد من يعطونه هو الابتسام"، فلنغتنِ جميعًا إذا دون تمييز ما دمنا قادرين على فعل ذلك.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين