سبع درجات فاصلة ثمانية زلزلت الأرض المنكوبة بالحرب قبل نكبة الطبيعة، محدثةً واحدة من أفظع الكوارث الطبيعية وأكثرها فتكاً في المنطقة منذ مئات السنين، إذ حولت كل شيء إلى ركام وبقايا أبنية، وبقايا بشر لسان حالهم يقول: "أصبحنا كتل لحم ودم، وأرواحنا تفتت ورحلت مع الردم".
صرحٌ واحد فحسب بقي متيناً صلباً لم تقو فوالق الأرض المتنازعة على خلخلة بُنيانه، كيف لا وهو ابن حرب شعواء عمرها 12 عاماً، استمد من ويلاتها صلابته، واستقت من دمائها جذوره، فبقي سرطاناً يفتك بالمنكوبين ويزيد الابتلاء بلاء، كما كان عبر تاريخه.
الحقد السياسي هو ذلك السرطان الذي وجد في تصدعات المنازل خروماً يعبر منها إلى الكارثة، ويرمي بها إلى قاذورة التسييس، تسييس كل شيء، المساعدات، فرق الإنقاذ، المناطق، وحتى الدماء.
انتقل شعار "السياسة جانباً" إلى إستراتيجية عمل هدفها إنقاذ المنكوبين أولاً دون اعتبار لأي اصطفافات أو خلفيات سياسية
"ترك السياسة جانباً" صرخة إنسانية، عززتها إزدواجية إغاثية للعالم تجاه تركيا وسورية، ودعم عربي خجول لبلد شقيق في أزمة الوصول إلى الشمال الخارج عن سيطرة الدولة، لكن البعض الآخر انصاع لسموها ونقل مقولة "السياسة جانباً" من شعار إلى إستراتيجية عمل هدفها إنقاذ المنكوبين أولاً دون اعتبار أي صبغات أو اصطفافات.
في أوروبا، كانت هذه النخبة الإنسانية حاضرة في تجمعات عديدة، احتضنتها جاليات عربية، وكان شغلها الشاغل جمع المساعدات المالية والعينية وإرسالها إلى سوريا وتركيا، لمساندة أبناء البلدين بعد الكارثة التي ألمت بهم.
وكان لافتاً خلال هذه الحملات، مشاهد تجاوزت تبعات الأزمة السورية، إذ وقف الجميع بمختلف انتماءاتهم في صف واحد نصرةً للبلاد المنكوبة، بحسب ما أكد متطوعون في الحملات.
القوافل البلجيكية
"في البداية وجهنا الدعوة للجالية السورية، لنرى هبّة عربية من كل الجاليات أتت لتساند المنكوبين في سورية وتركيا". يقول يوسف قويقة، 32 عاماً، وهو أحد المتطوعين في بلجيكا لمساعدة المنكوبين. ويضيف: "قمنا بجمع المساعدات المادية والعينية من المتطوعين والمنظمات، وأرسلناها إلى سورية وتركيا، مع ضمان وصولها للمنكوبين دون إعارة الانتباه لأي اعتبارات مناطقية أو سياسية".أرسل يوسف ورفاقه من العرب والأتراك عدة قوافل من المساعدات إلى أنطاكيا وسورية، جمعوها من تبرعات أصحاب الأيادي البيضاء الذين تبرع بعضهم من خلال اجتزاء مبلغ مادي من دخلهم الشهري أو مدخراتهم، وآخرون سلموا القوافل حاجيات من منازلهم، وفي بلجيكا خصصت بعض الفعاليات التجارية بعض الأرباح لصالح منكوبي الزلازل.
غرفة عمليات برلين
وفي ألمانيا شكلت مجموعات شبابية تطوعية غرفة عمليات وانطلقت إلى مهمة إغاثة المنكوبين في المناطق المتضررة وتقديم الدعم اللوجستي لهم من جهة، وجمعت المعونات لإرسالها إلى المدن المتضررة عن طريق السفارات والمنظمات الدولية، من جهة أخرى."لأول مرة أشاهد ابن جبلة في اللاذقية يغيث ابن الشمال السوري، والكردي يغيث التركي". تصف الشابة التركية توركو تاسيوريك، 31 عاماً، لرصيف22 ما جرى في برلين خلال العمل الإغاثي، وتضيف: "توقفنا أنا وأصدقائي عن أعمالنا بشكل كامل، وتوجهنا للعمل هنا في مركز العمليات وجمع الثياب وفرز المساعدات وتقسيمها وتعبئتها، إضافة لتأمين الإسعافات الأولية، ومعنا سوريون من كل المدن الألمانية، ومن كل الأطياف بعيداً عن الاصطفافات السياسية، وحتى الأتراك والسوريون الذين كانوا على خلاف، توحدوا وصاروا يعملون يداً بيد".
الكارثة جمعتنا
في بودابست، يختبر لؤي، 41 عاماً، كل يوم لوعة البعد عن مدينته حلب المنكوبة، ولا يفوّت أي فرصة لإغاثة أهلها، فيحضر مجلس جمعية هنا، وقداساً لدعم المنكوبين هناك. ويقول: "لم أخجل من حث كل الأصدقاء هنا في المجر سواء أكانوا عرباً أو مجريين للتبرع ووجدت أن هناك الكثير مثلي، وأصبحنا نعمل كجسد واحد، نقوم بدورنا من هنا".التقى رصيف22 لؤي بعد قداس في كنيسة rózsák terei görögkatolikus في بودابست أقيم لإغاثة المنكوبين في سورية وجمع المساعدات لهم، تحدث فيه عن لوعة البعد في هذه المحنة عن الأهل وعن حلب التي يحفظ تفاصيل حجارتها وتربطه فيها علاقة روحانية، وأضاف: "الكارثة عادت لتجمعنا من جديد. نتواصل كل ساعة مع السوريين هناك، وبعدنا عن سورية يجعل وقع الكارثة أكبر، وليس كما يظن البعض".
"الكارثة تجمعنا، نتواصل كل ساعة مع السوريين في سوريا، وبعدنا عن بلدنا يجعل وقع الكارثة أكبر، وليس كما يظن البعض". لؤي، 41 عاماً، سوري مقيم في بودابست.
وترأس القداس الإلهي في بودابست الكاهن السوري حنا غنيم الذي أتى من النمسا لدعوة المصلين إلى التبرع من أجل سورية المنكوبة، وليشرف على عمليات جمع المساعدات في العاصمة المجرية. وقال لرصيف22: "جمعنا كميات كبيرة من المساعدات لنوصلها إلى السوريين في كل المناطق. وكل جهد يصب في مصلحة المنكوبين هو مرحب به مهما كان جنس أو عرق أو توجه من يبذله، والأمر الجميل الذي حدث هو إثارة مشاعر الأوروبيين وتحريك الرأي العام في المجر والنمسا وكل الدول الأوروبية للمساعدة والتبرع للضحايا".ويضيف: "كانت الكارثة فرصة لنا نحن السوريين لنجتمع على المحبة والتآخي دون التفكير بأي طائفية أو مناطقية، وتمكنا من استغلال هذه الفرصة وبقي أن نضمن حسن سير العمل وإيصال الدعم لمستحقيه أينما حلوا".
بهذه الكلمات أنهى الأب غنيم عظته متوجهاً للسوريين والعرب في المجر، وداعياً الجميع إلى القيام بدورهم لتضميد الجراح، بما يرضي الله والوطن.
إنعاش النخوة العربية
أعاد عرب أوروبا إلى "النخوة العربية" شيئاً من بريقها الذي تاه في غبار الحروب وشتات الغربة، فتضافرت الجهود بعيداً عن السياسة والمناطق والمرجعيات، دعماً للإنسانية قبل كل شيء.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ اسبوعينلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...