أنطاكيا- تركيا- فجر الكارثة
بعد ثوان قليلة لم تكفِ لاستيعاب هول الكارثة، ومع الانحناءة الثانية لجبروت المنزل المتحنجل فوق باطن الأرض الغاضب، اتفق الأب وزوجته على خطة كتبت بلغة الأعين الخائفة، تفاصيلها أن توكل للأب مهمة إنقاذ طفل، وللأم مهمة كتابة الحياة للطفل الثاني.
وصل الأب إلى الطفل الأول منجزاً مهمته، ومشكلاً جسراً جسدياً يحتمي الطفل تحته من قصف الجدران والسقوف، أما الأم فأجهز سقف الممر على مهمتها بعد خطوتين باتجاه الطفل، معلناً نهاية حياتها شهيدةً لأمومتها.
مصير الطفل الثاني بقي مجهولاً لأقل من دقيقة، حتى رآه الأب يحبو نحوه، وفي أفق عيني الطفل، الجسر الأبوي الذي يحتمي فيه أخوه، فما كان من الأب إلا أن مد ذراعه نحوه وسحبه إلى أمان العائلة الذي يتمثل بذراعين وظهر منحنٍ لا يعلم صاحبه إن كان سيقوى على درء خطر سقف متهاو أو مقذوف حجري من الجدران التي أصابها الصرع.
"الأب والطفلان التوأمان، خمسة أعوام، في عداد الأحياء". يثلج صدرنا محمد، 28 عاماً، قبل أن ينهي قصة عائلة أخيه في أنطاكيا يوم الزلزال، مقرراً أن يريحنا من عناء الانتظار الذي اختبره يومين وهو جليس في ألمانيا عاجز عن فعل أي شيء.
"نحن من اللاذقية، انتقل أخي إلى أنطاكيا للعمل، ليجهز الزلزال على البناء الذي يسكنه وتتوفى زوجته وينجو هو والطفلان بمعجزة". محمد، سوري مقيم في ألمانيا
يقول محمد، وهو خريج علوم الأحياء، لرصيف22: "نحن من اللاذقية، لكن أخي انتقل إلى أنطاكيا قبل أربعة أعوام بغرض العمل، ليجهز الزلزال على البناء الذي يسكن فيه وتتوفى زوجته وينجو هو والطفلان بمعجزة قدرية".
يتابع محمد قصة نجاة عائلة أخيه: "بعد ساعة على الزلزال، وبعد أن اطمأن أخي على أطفاله، زحف إلى زوجته ليجدها متجمدة ومفارقة الحياة بعد أن انهار عليها سقف الممر، فعاد إلى الطفلين وانتظر فرق الانقاذ التي انتشلتهم بعد حوالى سبع ساعات".
يعاني محمد من آلام في المعدة وموجات توتر وضيق تنفس إلى الآن، نتيجة ما عاشه في اليوم الأول للزلزال من توتر وغضب إلى حين اطمئنانه على عائلة أخيه في تركيا وأهله في اللاذقية، ويعاني من أرق مضن وكوابيس متعلقة بالزلزال وبصور الضحايا، ويزور طبيبه بشكل شبه يومي في ألمانيا، كما يزور مكتب الهجرة ليسأل عن الفيزا الإنسانية التي قررت الحكومة الألمانية منحها للمتضررين من الزلزال والذين لديهم أقارب في ألمانيا.
الموت على بعد ساعتين
"سافرت إلى الزلزال من بلجيكا، لكن القدر سبق جنون الطبيعة بساعتين كاتباً حكاية نجاتي".
وصل عمار ناجي، 37 عاماً، إلى أنطاكيا التركية ظهر السبت، واجتمع بمجموعة من التجار بغرض إتمام صفقة تجارية، وغادر الفندق في تمام الساعة الثانية صباحاً يوم الكارثة إلى اسطنبول، وهو في طريقه سمع ما حدث، فعاد منقذاً ومغيثاً لأصدقائه في الفندق.
يقول ناجي لرصيف22: "انتشلت جثة صديقي الذي تناولت معه الفطور صباح الأحد متوفياً تحت أنقاض الفندق الذي كنت مقرراً أن أنام فيه ليلة أخرى، لولا اتصال هاتفي عاجل أتاني من اسطنبول وتطلب حضوري صباح الأحد إلى هناك".
"انتشلت جثة صديقي من تحت أنقاض الفندق في أنطاكيا". عمار، سوري، سافر من بلجيكا إلى تركيا بغرض العمل فوقع الزلزال في نفس اليوم
لم يكمل عمار طريقه إلى اسطنبول ولم يعد إلى بلجيكا، إنما عاد ليساعد الضحايا من الأتراك وأبناء بلده السوريين وبقي هناك خمسة أيام، ثم عاد إلى بلجيكا.
يقول: "لم أستسلم للنوم العميق منذ يوم الحادثة، ما إن أغمض عيني، حتى أرى صور الجثث والأطفال وأسمع صرخاتهم، ونداءات الاستغاثة التي كانت تدور تحت الأنقاض دون أن نتمكن من الوصول إليهم، لا تزال في أذني، ربما أحتاج عاماً كاملاً لأتعافى من الصدمة النفسية التي أصبت بها".
لم يذهب عمار إلى عمله في بلجيكا حتى اليوم، يقضي يومه ممسكاً بالهاتف ليساعد الناس عن طريق الجمعيات الإغاثية وعن طريق تأمين الدعم اللوجستي إلى الحالات، وإن خرج من المنزل، تكون وجهته التجمعات الأهلية والمبادرات التي تجمع الثياب والتبرعات في بروكسل لترسلها إلى سورية وتركيا.
عندما يأتي الموت كل يوم
تعددت طرق الاستجابة التي أبداها العرب المهاجرون في أوروبا، فبين من هرع لنصرة المنكوبين في سورية وتركيا، ومن هبّ يحث الرأي العام الأوروبي والمنظمات الدولية على التبرع والمساندة، وبين من أعلن الحداد على قريب أو صديق، وبين من بقي مفجوعاً بالصبر لا زال ينتظر، يسأل عن أحبائه، يأبى تقبل استحالة العثور على ناجين بعد مضي هذا الوقت دون أن يرى جثثهم، وهو بعيد عاجز لا يجيد إلا الانتظار والأمل.
هذه حال عمار البلوي، 28 عاماً، سوري من حلب. وهو ما زال ينتظر مصير عائلته المكونة من أبيه وأمه، ويعيش على أمل انتشالهما حيّين بعد مضي كل هذا الوقت على الكارثة.
يقول البلوي المقيم في السويد لرصيف22: "أغلب الظن أنهما رحلا، رغم أن أخي وأختي في سورية لم يتمكنا من الوصول إلى معرفة مصيرهما، كل ما عرفاه أن البناء الذي كانا يسكنان فيه انهار وتم انتشال أكثر من 20 جثة من تحت أنقاضه وثمانية أحياء".
رغم انتهاء عمليات البحث عن ناجين في معظم المناطق المنكوبة في سورية، لم يفقد عمار الأمل، ويرجح احتمال هروبهما قبل الكارثة أو إصابتهما إصابة بالغة ولجوئهما إلى أحد المستشفيات دون أن يتمكنا من الاتصال بذويهما.
"احتمال بقائهما حيّين إلى الآن، تقل يوماً بعد يوم، لكننا لن نفقد الأمل حتى نراهما يخرجان أو نصلي على جثثهما". يختم عمار حديثه، وهو يتصفح صور الناجين والوفيات في حلب، علّه يرى صورة أو خبراً ينهي معاناته.
جميعنا ضحايا
نحن أبناء الأرض التي تزلزلت بعدما عاشت كل أنواع الحروب والموت، واليوم أجهزت الطبيعة علينا جميعاً
نحن أبناء الأرض التي تزلزلت بعدما عاشت كل أنواع الحروب والموت، واليوم أجهزت الطبيعة علينا جميعاً، مؤيدين لسلطة ومعارضين لنظام، ومنتمين لطائفة أو أخرى، جميعنا ضحايا!
هذا لسان حال السوريين اليوم، داخل سورية وخارجها حيث لوعة الانتظار وما بعدها من مشاعر فرح بنجاة الأقارب أو حزن وفاجعة على رحيلهم نتيجة الكارثة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...