شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
طائر المينا أو

طائر المينا أو "الأميرة ياسمينة"... وافد جديد يغزو سماء دمشق

بيئة ومناخ نحن والبيئة

الاثنين 6 مارس 202311:55 ص

من منا لم يعرف في طفولته المسلسل الكرتوني الشهير "سندباد" ومغامراته الممتعة مع طائره ياسمينة، وهو عمل مبدع للفنان الياباني فوميو كوروكاوا، عرفناه بلهجته العراقية بأصوات أنطوانيت ملوحي، عبد المجيد مجذوب، وحيد جلال، جيزيل نصر وغيرهم.

اليوم، وبعد عقود من الزمن، لم نعد نلمس حرية الترحال التي تمتّع بها السندباد يوماً، ولا بساطة حلّ المصاعب والأزمات بقليلٍ من الشجاعة والحنكة كما كنا نرى عند صديقه علي بابا، لكن بات يمكننا أن نرى في سماء بعض مدننا آلافاً من أشباه الطائر ياسمينة، وهو اللعنة التي حبست بداخلها الأميرة.

هذا الطائر، واسمه "المينا"، هو وافد دمشق الجديد، ومصنّف ضمن أسوأ 100 طائر غازٍ، أزاح العديد من الطيور المحلية تاريخياً، واستنفد إمداداتها الغذائية، وهو اليوم يهدّد منطقة المتوسط برمتها.

طائر المينا في حديقة سيدني - أستراليا، تصوير Richard Taylor

المينا ينتشر في سوريا والمنطقة

كان أول لقاء لي مع هذا الطائر في دمشق على علبة التكييف الخارجي لمنزلنا بدايات عام 2021، ومع جهلي التام به، سارعت يومها لجلب الطعام والماء وإيقاف تشغيل المكيف حفاظاً على عش هذا الطائر وفراخه التي وجدت ملجأً في داخله، وقد استثمر صغارها وصغار صغارها كرم الضيافة لشهور بعد ذلك.

إلا أن الفضول دفعني لسؤال مربّي الطيور عن هذا الطائر. لم تكن الإجابات تتضمّن إشارةً إلى أي تهديد وقتها، وإنّما فقط تلميحات إلى المبلغ الذي يمكن أن أتقاضاه من بيعه، والذي يتراوح حسب عمره، لارتباط ذلك بالقدرة على ترويضه وتعليمه الكلمات بحسب قولهم.

هناك عدد من الروايات عن سبب توافد طائر المينا وانتشاره في منطقتنا، إلا أن معظمها يُجمع على أن إحضاره ابتدأ في أوائل القرن العشرين بواسطة أقفاص، لصوته المميز أو لدوره في القضاء على عدد كبير من الحشرات والآفات التي يعاني منها المزارعون. إلا أن تكاثره بوتيرة سريعة مرتين في الموسم وعمره الطويل سبّبا ازدياد أعداده بكثرة.

وقد نُشرت تقارير عدة خلال السنوات الماضية، تبيّن تهديد طائر المينا الشائع في لبنان وفلسطين والأردن، لأنواع الطيور الأخرى من مقيمة وزائرة ومهاجرة، منها ما تحدث عن عدوانيته تجاه الطيور في قطاع غزة، أو مهاجمته لأشجار الفاكهة وأعشاش الطيور المحلية في إربد شمال الأردن، وللطيور المواطنة في لبنان، كما نشرت صفحة "الحياة البرية في سورية"، للباحث إياد السليم، عن تزايد أعداده بكثرة في طرطوس وعموم سوريا.

طائر المينا، وهو وافد جديد إلى سماء دمشق، مصنّف ضمن أسوأ 100 طائر غازٍ، أزاح العديد من الطيور المحلية تاريخياً، واستنفد إمداداتها الغذائية، وهو اليوم يهدّد منطقة المتوسط برمتها، من لبنان إلى فلسطين والأردن، نتيجة عدوانيته تجاه الطيور المحلية

عن طائر المينا

هو طائر من عائلة الزرزور Sturnidae، موطنه الأصلي في الهند وجنوب شرق آسيا وإندونيسيا وإفريقيا. يُعتقد أن أصل التسمية من كلمة مادانا السنسكريتية وتعني "مبهج ومحب للمرح"، وذُكر في الأدب الهندي بالعديد من الأسماء كصاحب العيون الخلابة، أو ذي العيون أو ذي الأرجل الصفراء.

للطائر صنفان شائعان متشابهان يبلغ طولهما التقريبي من 30 إلى 45 سنتيمتراً: طائر مينا التل hill myna أو Gracula religiosa، له جسم أسود ومنقار برتقالي مائل إلى الحمرة ورجلان صفراوان، بينما للمينا الشائع common mynah أوAcridotheres tristis جسم بني داكن ورأس أسود ومنقار ورجلان صفروان. هناك نوع ثالث نوع نادر جداً يدعىBali mynah ، وهو طائر مهدد بالانقراض، له جسم أبيض مع أطراف سوداء عند الأجنحة، ولون أزرق حول عينيه ومنقار أصفر.

لطائر المينا ذخيرة واسعة ومتنوعة من الأصوات بين صفير وصراخ وغيرهما، والتي قد تبدو غريبةً بالنسبة للإنسان. من السهل تربيته وترويضه وتدريبه على الكلام، مما جذب البشر تاريخياً إليه، إذ يُعتقد أنه كان حيواناً أليفاً عند اليونانيين. يمكنه تعلّم ما يقارب 100 كلمة واستخدامها بشكل ذكي، ولكنه عدائي مع الطيور الصغيرة من الأصناف الأخرى، لذلك ينصح عند تربيته بفصله عنها.

الأصناف الغازية وضررها على البيئات المحلية

يتزايد القلق عالمياً حول تأثير الأنواع الدخيلة الغازية على تعداد الأنواع المحلية ضمن بيئة معينة، إذ قد تنتشر بطريقة مفرطة تسبب ضرراً اقتصادياً أو بيئياً وتهدد الكائنات الأخرى. في حال الاكتشاف المبكّر يمكن إقصاؤها من المنطقة، أما في حال الانتشار أو محدودية الموارد، تصبح خطط الإدارة مرتكزةً على تقليل أعدادها وتخفيف ضررها لتسمح للأنواع المحلية بالنمو.

طائر المينا في دمشق - تصوير ملهم خربوطلي

ويتنوع تأثير الأنواع الدخيلة ويتراوح من مدمّر إلى حميد، فالعديد من الآفات الغازية من فصيلة الذباب الأبيض مثلاً تصيب أشجار الحمضيات في الساحل السوري وتسبب أضراراً في المحصول، كذلك الحشرة القشرية القرمزية التي بدأت تصيب نبات الصبار جنوب سوريا مؤخراً، ووصل ضررها في بعض الأحيان إلى موت كامل للنبات. بينما توفر نباتات غازية في مناطق أخرى من العالم كزيتون الخريف غذاءً لبعض الطيور الآكلة للفاكهة، لذلك من المهم فهم تأثير النوع المُدخّل على البيئة قبل القيام بإجراء إزاءه، لتوفير الموارد والطاقات.

إلا أن الوصول إلى أدلة لفهم التأثير يبقى معقداً وصعباً عموماً للعديد من الأسباب، منها:

• نقص البيانات طويلة الأمد قبل الغزو وبعده، وهذا موجود مع حالة الحرب في سوريا وتناقص الأخصائيين والمهتمين والدراسات طويلة الأمد.

• صعوبة تمييز تأثير نوع محدد مع التغيرات البيئية والمناخية عموماً على مستوى العالم.

• صعوبة تمييز طبيعة التأثير بين المنافسة competition، والافتراس predation.

لا يحمل طائر المينا تهديداً بيئياً وحيوياً فقط، وإنما قد يتعدّاهما إلى تهديد ثقافي واجتماعي، فقد عُرفت مدينة دمشق بعدد من الطيور منها الحمام والدوري وبعض أنواع الشحرور والبلبل، وبعلاقة وطّدها السكان مع هذه الطيور وبالأخص الحمام في أرجاء المدينة

بين الجهود الرسمية والمجتمعية

في سبيل تقصّي معلومات أكثر عن هذا الطائر، تواصل رصيف22 مع خبير التنوع الحيوي والحياة البرية في دمشق الباحث أحمد أيدك، وقد أثار قلقه وصول المينا إلى دمشق بعد معرفته المسبقة بانتشاره في المناطق الساحلية مؤخراً، وتحدث مؤكداً على خطره وعدوانيته على الطيور المحلية. لكن اللافت هو عدم صدور أي تقرير رسمي عن هذا الطائر على مستوى المنطقة إلى اليوم، من قبل المؤسسات التي تعنى بهذا الأمر، لتبيان أعداده ومستوى تهديده للطيور المحلية ودرجة تأثيره وآليات الحد من انتشاره ضمن خطّة إدارة واضحة.

وبالرغم من أهمية دور المجتمع المحلّي وغير الأخصائيين في إحداث تغيير في قضايا البيئة، وخصوصاً في ظل أزمات تجعل الجهات الرسمية بطيئة الاستجابة، إلا أنها تبقى قضيةً معقّدةً قد تتطلّب خطوات توعويةً مسبقةً وآلية حد مدروسةً، فقلّة خبرة غير المختصين بالنوع المحدد وصفاته وتمييزه عن أشباهه، يجعل محاولة القضاء عليه أو الحد من أعداده مهمّةً صعبةً قد توثر سلباً على أنواع أخرى

اللافت عدم صدور أي تقرير رسمي عن هذا الطائر على مستوى المنطقة لتبيان أعداده ومستوى تهديده للطيور المحلية.

من القصص التي ذكرها أحد الأخصائيين عن حملة تجميع نبات القرّيص عام 1991، جنوب سوريا، لأغراض طبية، مع مكافأة قدرها 5 ليرات وقتها (10 سنتات) لكل كيلو من هذا النبات، كانت النتيجة أن السكان المحليين بدأوا بجلب أعداد كبيرة من هذا النبات ليتبيّن بعد ذلك أنهم قطعوا ثمانية أنواع أخرى من نبات القريص مشابهة للنوع المقصود، مما أدى إلى غياب هذا النبات لسنوات عدة من المنطقة.

كذلك الأمر بالنسبة إلى طائر المينا، فقد تتسبب حملة صيده أو تجميع بيوضه بالضرر على غيره من الطيور في حال عدم تمييزه عنها، أو استخدام طرق قد تؤذي الأنواع الأخرى.

تهديد للثقافات الاجتماعية

لا يحمل طائر المينا تهديداً بيئياً وحيوياً فقط، وإنما قد يتعدّاهما إلى تهديد ثقافي واجتماعي، فقد عُرفت مدينة دمشق بعدد من الطيور منها الحمام والدوري وبعض أنواع الشحرور والبلبل، معرفةً لم تكن حبيسة المشاهدة والرصد وإنما على علاقة وطّدها السكان مع هذه الطيور وبالأخص الحمام في أرجاء المدينة، ثقافة إطعام وعناية تطوّرت وارتبطت بالرفق والرحمة ومتعة المشاهدة، فمن النادر أن يحط طائر على شرفة أحد المنازل إلا ويبادر الصغار إلى جلب المياه وبعض الحبوب إليه ومراقبته عن كثب، وهي ثقافة تحوّلت إلى المشاهد العمرانية في باحة الجامع الأموي وساحة المسكية في دمشق القديمة والحريقة وغيرها، بمبادرات أهلية في الغالب.

طيور دمشق - تصوير ملهم خربوطلي

من المشاهد التي تبقى حاضرةً في ذاكرتي العم "أبو تميم"، بائع سلال القصب في محلّه المتواضع خلف مبنى وزارة العدل وسط دمشق، فهو لا يبخل في إطعام الحمائم بين فينة وأخرى على مدار اليوم، بخليط من الذرة الصفراء والبيضاء والجلبانة، يشاركه بذلك محسنون من المارة على نية قضاء حاجاتهم ومسائلهم، ويستشهد ببيت شعر لبشار بن برد: "يسقطُ الطير حيث ينتثرُ الحَبُّ... وتُغشى منازلُ الكرماءِ".

كذلك محل فلافل السادات في شارع الملك فيصل لصاحبه "أبو رشيد"، الذي يُبقي صحن حبوب من الذرة الصفراء على ظهر سيارة، وتتهافت عليه حمائم الحي طوال النهار، وهي عادة استمر عليها لما يزيد عن عشر سنوات، يبررها بمقولة بسيطة: "إذا بدك تعمل خير، اسقي زريعة وطعمي طير".

مشاهد قد تكون مختلفةً في مناطق اكتظّت السماء فيها بالقنابل والصواريخ، وجفّت أوعية الحبوب والماء على شرفاتها المدمّرة بعد وداع الأبنية لقاطنيها اللطفاء.

طيور دمشق - تصوير ملهم خربوطلي

اليوم، وبعد مرور عامين على أول ملاحظة لي لهذا الطائر، بالرغم من معرفتي بأنها من القضايا التي سيتزايد وضعها سوءاً في القريب العاجل، وستضاف إلى مشاهد تختفي من مدينة تصبح غريبةً يوماً تلو الآخر، أعرف أن قضية تهديد طائر لنظام حيوي محلّي ولعادات محليّة ليست أولويةً في ظل أوضاع نعيشها، لكنها من القضايا القليلة التي شعرت بأنه بإمكاني إحداث تغيير في شأنها بشكل فردي؛ حلّ أزمة بـ"كشّة إيد" و"وجه جفص" لهذا الطائر.

طيور دمشق - تصوير ملهم خربوطلي


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image