منذ مئات السنين، اعتاد كثير من أسراب الطيور حول العالم، تنفيذ رحلات هجرة موسمية، ضمن مسارات يصل طولها إلى آلاف الكيلومترات، بحثاً عن الطعام أو الدفء أو الحفاظ على النوع. واليوم، لم تعد هذه المسارات في منأى عن تأثيرات التغيّر المناخي، سواء المباشرة أو غير المباشرة.
فتقلّبات الطقس والحرائق وغيرها من العوامل، باتت تغيّر من بعض تلك المسارات. ومن جهة أخرى، ومع بحث الدول عن مصادر للطاقة النظيفة، يعيق بعض من تلك المصادر، مثل عنفات الرياح، حركة الهجرة، ويؤدي إلى كثير من الوفيات في صفوف الطيور، ما يضع الخبراء أمام خيارات دقيقة، ما بين إغلاق العنفات لأوقات محددة حفاظاً على أرواح الطيور، أو خسارة جزء من الكهرباء المولّدة عن طريقها، وتالياً التباطؤ في الجهود المبذولة لمواجهة التغييرات المناخية.
تعيق عنفات الرياح، حركة هجرة الطيور، وتؤدي إلى كثير من الوفيات في صفوفها.
معضلة تواجهها بلدان عدة حول العالم، ومنها مصر، التي تُعد محطةً إستراتيجيةً مميزةً في مسارات هجرة الطيور، وتحتل المركز الثاني عالمياً في هذا الأمر، فيمر بها أكثر من 2 مليون طائر من أكثر من 500 نوع في فصلي الربيع والخريف، ما بين طيور جارحة وحوّامة، وبجع ولقلق أبيض.
ويقع بعض من مسارات تلك الهجرة في منطقة خليج الزيت على ساحل البحر الأحمر، حيث أقامت هيئة تنمية الطاقة الجديدة والمتجددة المصرية NREA، محطةً لتوليد الكهرباء من طاقة الرياح، جنوب القاهرة بنحو 350 كيلومتراً، من أجل التحول إلى الطاقة النظيفة وخفض الانبعاثات الكربونية، إذ تستهدف مصر أن تصبح نسبة مساهمة الطاقة المتجددة من إجمالي الطاقة الكهربائية المنتجة لديها 42%، بحلول عام 2035، ما سيستدعي زيادة العنفات والمحطات.
دُروب الخير والشر
يقول الدكتور مجدي علام، الأمين العام لاتحاد خبراء البيئة العرب، أن لموسم هجرة الطيور خمسة مسارات عالمية، تمر بالأراضي المصرية، وتبدأ هذه الهجرة التي وصفها برحلتي الشتاء والصيف، أو موسم حج الطيور المهاجرة، من بحر الشمال في الشمال الأوروبي إلى جنوب إفريقيا.
ويبيّن علام، لرصيف22، أن هذه المسارات الخمسة تتمثل في اثنين يبدآن من بحر شمال أوروبا ويستقران في شبة جزيرة سيناء، وثلاثة مسارات أخرى تصل إلى جنوب إفريقيا، الأول يمر فوق خليج السويس ويتجه بمحاذاة وادي النيل، والثاني يتخذ الساحل الغربي للبحر الأحمر الواصل بين مصر والسودان وإريتريا وإثيوبيا وجيبوتي، والثالث الساحل الشرقي للبحر الأحمر الواصل بين السعودية واليمن حتى باب المندب، وتلتقي جميعها في جنوب إفريقيا.
وتبدأ رحلة الطيور في أتون هذه المسارات الخمسة، عندما يشتد البرد القارس في أوروبا. فحينها، تهاجر الطيور إلى إفريقيا حيث تجد دفئاً، وعندما يحل الصيف الإفريقي، وترتفع درجة الحرارة، تهاجر مرةً أخرى إلى الجليد الأوروبي.
ويتابع المتحدث قائلاً إن رحلات الشتاء والصيف تشهد العديد من الإيجابيات والسلبيات سواء على مستوى الطيور ذاتها، أو على مستوى البيئة التي تمثل العامل المؤثر الرئيسي، وأظهر هذه الجوانب قائلاً: "موسم الهجرة نفسه يمثل للدول الواقعة في مسار الرحلة حدثاً سياحياً يُعرف بسياحة مراقبة الطيور، أما الجوانب السلبية، فتتمثل في تأثير كل من الطيور والعنفات على بعضها".
وكشف بأن هجرة الطيور في ظل تفاقم ظاهرة الاحتباس الحراري، وانتشار عنفات الرياح على طول مسار الهجرة، تؤدي إلى موت الطيور الضعيفة التي لا تستطيع تحمل صعوبة الرحلة في ظل الأجواء المتطرفة، فتفقد بسبب ارتفاع درجات الحرارة بوصلتها الداخلية، ومهارات الاستقبال المغناطيسية، ويحدث خلل في خرائطها الذهنية فلا تستقبل الإشارات البيئية، وتتعرض للموت بالاصطدام بريش عنفات الرياح أو بأسلاك الضغط العالي للكهرباء.
ريش توربينات الرياح كانت وما زالت تهدد مسار هجرة الطيور الحوامة، خلال العبور فوقها، والدول في الماضي لم تكن تأخذ في عين الاعتبار مسار هجرة الطيور عند إقامة مواقع محطات الرياح، وتسبب هذا في وفاة آلاف الطيور من أنماط مختلفة
وتقتل عنفات الرياح عشرات الملايين من الطيور حول العالم كل عام، ويُتوقع أن يزداد العدد مع زيادة التوجه نحو توليد الطاقة من الرياح، في حين أن تغيّر المناخ وأنماط الحياة غير المستدامة تقتل المليارات، مع الأخذ في عين الاعتبار أنه من الصعب دراسة أعداد الطيور النافقة لأسباب عدة، منها صعوبة العثور عليها، واحتمال التقاطها بسرعة من قبل حيوانات أخرى.
وفسرت دراسة نُشرت في تشرين الأول/ أكتوبر 2021، في مجلة Current Biology، كيف أن التغييرات المناخية باتت تؤثر بشكل كبير في إستراتيجيات الهجرة للطيور مؤخراً. وكشفت الدراسة عن تغيّر في أنماط الطيور في فصلي الشتاء والصيف في سيبيريا وجنوب شرق آسيا وأوروبا الغربية، وأكدت أن التغيير قد يكون نتيجةً لزيادة عدد المفقودين الذين من المحتمل ألا يتمكنوا من العودة إلى مناطق تكاثرهم، أو يمثّل إستراتيجية هجرة جديدة.
خفض وفيات الطيور وفقدان الطاقة النظيفة
ووفقاً لهذا، يقول الدكتور حسين أباظة، عضو اللجنة الوطنية للمشاريع الخضراء ومستشار وزارة البيئة المصرية للتنمية المستدامة، إن التغييرات المناخية أثرت بشكل مباشر على حياة الكائنات الحية بشكل عام، كما تأثرت الحياة البرية والبحرية والزراعية وغيرها، وكذلك موسم هجرة الطيور.
الاستجابة السريعة للإغلاق المؤقت لعنفات الرياح تقلل عدد الوفيات.
ويبيّن أباظة، لرصيف22، أن ريش توربينات الرياح كانت وما زالت تهدد مسار هجرة الطيور الحوامة، خلال العبور فوقها، مؤكداً أن الدول في الماضي لم تكن تأخذ في عين الاعتبار مسار هجرة الطيور عند إقامة مواقع محطات الرياح، وتسبب هذا في وفاة آلاف الطيور من أنماط مختلفة، بينما الآن تتخذ تدابير احترازيةً عدة لتأمين مسارها من أوروبا إلى إفريقيا.
وتتمثل هذه التدابير في وضع العنفات مرتّبةً في صفوف باتجاه عمودي مع اتجاه الرياح، وترك مسافة 1 كم بين الصف والآخر، وتجنّب العنفات ذات الأبراج الشبكية حتى لا تحجز الطيور، وطلاء المراوح لتتم رؤيتها بشكل أفضل مما يقلل من احتمالات الاصطدام بها.
ويشير المتحدث إلى أن ارتفاع التوربينات يتناسب طردياً مع معدل الاصطدام، ويوصى بأن يكون الطول 120 متراً كحد أقصى، كما يجب تجنّب إضاءة التوربينات حتى لا تكون عامل جذب للطيور، وفقاً للدراسة الإستراتيجية لتقييم التأثيرات البيئية والاجتماعية لمحطات توليد الكهرباء من طاقة الرياح في خليج السويس.
وضمن السياق نفسه، يقول المهندس أمجد الحويحي، رئيس قطاع البحوث والدراسات البيئية في NREA، إن هيئة الطاقة الجديدة والمتجددة في مصر تقوم بدور مهم في تقليل عدد وفيات الطيور خلال موسم هجرتها من الشمال والجنوب، إذ تعاقدت مع استشاريين متخصصين في مراقبة الطيور لرصد موسم الهجرة في الخريف والربيع، عبر نقاط مراقبة تبدأ وقت الشروق حتى الغروب.
هجرة الطيور في ظل تفاقم ظاهرة الاحتباس الحراري، وانتشار عنفات الرياح على طول مسار الهجرة، تؤدي إلى موت الطيور الضعيفة التي لا تستطيع تحمل صعوبة الرحلة في ظل الأجواء المتطرفة، فتفقد بسبب ارتفاع درجات الحرارة بوصلتها الداخلية، وتتعرض للموت بالاصطدام
وأضاف لرصيف22: "الاستجابة السريعة للإغلاق المؤقت لعنفات الرياح تقلل عدد الوفيات، وهو ما بدأناه في مصر منذ 2016، وكان معدل الاستجابة لتوقيف العنفات 3 دقائق في العام 2016، حتى وصل إلى 0.25 ثانيةً هذا العام، وساهم في خفض عدد الوفيات إلى حدود 15 طائراً فقط من إجمالي 245 ألف طائر عبروا فوق محطة جبل الزيت.
وأوضح المهندس أن منظومة إنتاج الكهرباء من طاقة الرياح تتأثر ولا شك بسبب تطبيق برنامج الغلق المؤقت للعنفات، وتُقدّر نسبة التأثر بقرابة 1.35% من إجمالي إنتاج الطاقة خلال موسم هجرة الطيور.
حرائق غابات أوروبا
واتساقاً مع ما سبق، يقول المهندس أحمد نادي، مدير عام محطة رياح جبل الزيت، إن الحرائق التي شهدتها غابات أوروبا هذا العام أدت إلى هجرة الطيور من موطنها في وقت سابق لموسم الهجرة الأصلي، لذا كان لزاماً، وبناءً على توجيهات جهاز شؤون البيئة، تقديم موعد استعدادات تأمين عبور الطيور المهاجرة من فوق المحطة.
وأضاف نادي لرصيف22: "كانت حرائق الغابات بمثابة عامل طرد للطيور من أوروبا، وقدّمت موعد موسم هجرتها عن موعده المحدد، وهو ما دفعنا إلى تقديم موعد برنامج المراقبة لتأمين مسارها وتقليل الوفيات".
تعمل محطة رياح جبل الزيت، بحسب مديرها العام، بقدرة 220 ميغاواط، وتضم 13 نقطة مراقبة لمسار هجرة الطيور، بالإضافة إلى جهازي رادار شمال المحطة وجنوبها، يعملان على رصد الطيور قبل دخولها مسار الهجرة فوق موقع المحطة في جبل الزيت على بُعد 12 كيلومتراً.
ويبيّن المهندس طبيعة عمل برنامج الغلق المؤقت خلال موسم هجرة الطيور، قائلاً: "يتم تحديد الطيور ومساراتها بناءً على الرصد، وعندما يتبين اقتراب وصولها، يتم وقف بعض العنفات، الواقعة في مسار الهجرة، لا كلها".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ يومأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ يومحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ 4 أيامtester.whitebeard@gmail.com