شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
العلويون كجمهور

العلويون كجمهور "ذي روح مشتركة" بناه الأسد الأب... ثم دمّره الابن وهرب

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة نحن والتاريخ

الجمعة 10 يناير 202511:18 ص

من يدرس بدقة تاريخ العلويين في سوريا خلال القرن الأخير، يجد أنهم نادراً ما شكّلوا جمهوراً ذا "روح مشتركة"، كما يصف غوستاف لوبون، المجتمعات ذات الهوية المشتركة في كتابه "سيكولوجيا الجماهير".

فمنذ أزيد من قرن مضى، حين دخلت فرنسا أرض الساحل السوري، انقسم العلويون بين من دعا إلى حمل السلاح، ومن هادن، ومن سعى بقوة إلى الدخول إلى الجهاز البيروقراطي الذي شكلته فرنسا المنتدبة. هذا الانقسام بدا جلياً مرةً أخرى عام 1936، بين من نادى بالوحدة السورية، ومن طالب بالاستقلال عن سوريا.

الأمر تكرر بُعيد الاستقلال عام 1946، ثم خلال فترة الانقلابات والحكم الديمقراطي. علويون كثر انتسبوا إلى الأحزاب التقليدية (الوطنية)، كبدوي الجبل، ومثلهم شارك أيضاً ضبّاط في الانقلابات العسكرية، بدءاً من انقلاب حسني الزعيم، كالعقيد علم الدين قواص. وحتى حين بدأت موجة الأحزاب الأيديولوجية تظهر في سوريا، وفي الساحل خاصةً، انقسموا مجدداً بين قومي سوري، وشيوعي، بما يحمله هذان الحزبان من تفريعات جانبية.

حزب البعث لم يدخل كحالة شعبية إلا متأخراً، وليس من باب قيادته التاريخية ذات البعد القومي العربي التقليدي التي وصلت فقط إلى المدن الكبرى كاللاذقية، بل من خلال الزعيم الكاريزمي أكرم حوراني، الذي أعطى اندماجه مع البعث، روحاً اشتراكيةً شعبيةً كانت محبّبةً إلى الفقراء من الفلاحين، ولا أدلّ على ذلك من انتشار اسم أكرم بين أبناء الفلاحين في ذاك الوقت.
بالمختصر، كان العلويون متفاعلين مع الحياة السياسية السورية دون أن يكونوا كتلةً صماء أو شبه صماء، تصبّ أصواتها لصالح هذا التوجه أو ذاك، برغم أن الحكم المركزي لطالما عاملهم من خلال الحصص والتعيينات كمجموعة واحدة، وهذا قد يكون مفهوماً في بلد وليد يحبو بصعوبة نحو الديمقراطية.
لم يكن وصول حافظ الأسد إلى الحكم طائفياً، بل على العكس، كان كرهاً للمنافس الذي فاحت منه روائح وبهلوانيات لم ترُق للطائفة الأم الكبرى في سوريا. وحتى هذه اللحظة، ومنذ بداية سبعينيات القرن الماضي، لا يمكن وصف العلويين بالجمهور ذي الهوية المميزة، بل تسبح فيه كل التيارات السياسية السورية؛ باستثناء الإخوان المسلمين
حتى مع الزعيم العربي الأكثر شعبيةً، جمال عبد الناصر، نظر البعض منهم إليه بعين الشك، ورآه البعض الأمل المرتجى. وكذلك خلال فترة الانفصال، فقد علا نجم اللواء عزيز عبد الكريم، وكاد يُرفع إلى رتبة فريق قائداً عاماً للجيش ووزيراً للدفاع، ثم تمّت مراضاته بوزارة الداخلية.

البعث

من المؤكد أن حزب البعث حين وصل إلى السلطة عام 1963، كان عدد منتسبيه بالمئات فقط، وحتماً شارك عدد من الضباط العلويين الشباب في ذلك الانقلاب، ثم عادوا وانقسموا مع غيرهم ضمن الحزب إلى اشتراكي وبراغماتي، ثم تهاوشوا على السلطة إلى أن ظفر بها الأقلّ كاريزما وحضوراً؛ حافظ الأسد.
دُعم حافظ الأسد بعيد وصوله إلى السلطة من أغلب الضباط السنّة الحانقين على تيار صلاح جديد، والذين وجدوا أنه اتخذ التوجهات التقليدية (المعادية للثورة والحزب)، لأبناء المدن الكبرى، خاصةً دمشق (الضبّاط الشوام)، ذريعةً لتسريحهم من الجيش، لصالح أبناء الريف عامةً، لا سيما أبناء الطوائف الصغيرة، خاصةً العلويين.
كذلك فعلت النخب الاقتصادية في الحواضر الكبرى، والتي أنهكتها القوانين والتشريعات الاشتراكية المتشددة، فضلاً عن رجال الدين السنّة الذين سرعان ما رحّب بعضهم بالأسد، كالمفتي كفتارو، وعبد الستار السيد، أول وزير للأوقاف، بصفته الرجل المعتدل البعيد عن صبيانية اليسار.

الأسد الأب

لم يكن وصول حافظ الأسد إلى الحكم طائفياً، بل على العكس، كان كرهاً للمنافس الذي فاحت منه روائح وبهلوانيات لم ترُق للطائفة الأم الكبرى في سوريا. وحتى هذه اللحظة، ومنذ بداية سبعينيات القرن الماضي، لا يمكن وصف العلويين بالجمهور ذي الهوية المميزة، بل تسبح فيه كل التيارات السياسية السورية؛ طبعاً باستثناء الإخوان المسلمين بطبيعة الحال.

غالباً لم يطّلع الأسد الأب، على كتاب "سيكولوجيا الجماهير" المترجم عام 1991. ربما سمع ملخصاً عنه من أحد مستشاريه أو مترجميه. فقد كان محاطاً بفريق من المستشارين الحاذقين، كمترجمه الخاص أسعد كامل الياس، صاحب ترجمة كتاب "سلام ما بعده سلام"، والدكتور جورج جبور وجبران كورية، عكس وريثه صاحب المستشارتين المشهود لهما بقلّة الحيلة والثقافة. وطبعاً ليس من الضروري أن يكون الأسد قد سمع به، فأستاذ علم نفس الجماهير، برأي الكاتب، كان شخصاً وُلد ومات قبل نشر الكتاب -يقصد نابليون- والذي فهم سيكولوجيا الجماهير في لا وعيه. هذا الكتاب جعلت منه النازية والفاشية نبراساً يهتدى به، ما أساء إلى سمعة الكاتب والكتاب معاً.

تشكيل جمهور "ذي روح مشتركة"

من المؤكد أنّ الأسد الأب، حاول جرّ العلويين إلى صفّه، مستعملاً العصا والجزرة؛ الجزرة هي الحاجة إلى الوظائف والمال للعيش، فقد حرص على جرّ أعداد كبيرة منهم إلى الجيش وإسكان أغلبية المتطوعين قريباً منه في العاصمة لحمايته، مع كل ما سيجرّه ذلك عليهم من حلاوة السلطة والفساد في نظام يعتمد الولاء مقياساً رئيساً للترقي.

لذلك، وعلى طول مدة حكمه الطويلة، حرص على منع أي استغناء حقيقي لأبناء الساحل عن الدولة، خاصةً الجيش، مستغلّاً فقرهم وعدم وجود نخب اقتصادية حقيقية في الساحل قادرة على ابتلاع طلبات العمل المتزايدة. حتى في الزراعة، عومل فلاح الساحل بإهمال شديد فلم تُبنَ معامل صناعات_ غذائية تستفيد من زراعات الساحل، كالتبغ والحمضيات والزيتون.

أما العصا، فقد كانت عصوَين لا عصا واحدة؛ الأولى عصاه المباشرة، أي أجهزة الأمن والقمع المسلطة على جميع السوريين، والثانية، وهي خاصة بالعلويين وربما تمتد إلى الطوائف الصغيرة الأخرى وصولاً إلى علمانيي المدن، عصا التخويف من الإسلام السياسي، مستخدماً الموروث الشعبي، ونشر الشائعات الاستخباراتية، وطبعاً أخطاءً بل خطايا أعدائه في بعض الجرائم ذات البعد الطائفي كأحداث الثمانينيات.

الأسد الأب، حاول جرّ العلويين إلى صفّه، مستعملاً العصا والجزرة؛ الجزرة هي الحاجة إلى الوظائف والمال للعيش، فقد حرص على جرّ أعداد كبيرة منهم إلى الجيش وإسكان أغلبية المتطوعين قريباً منه في العاصمة.

يمكن القول إنه ومنذ أواخر السبعينيات، ومع تصاعد حركة الإخوان المسلمين، استطاع الأسد فعلاً، تشكيل مجتمع علوي يدور في فلكه، بكل مواصفات المجتمع ذي الروح الجماعية الذي تذوب فيه قدرة الفرد على التحليل المنطقي لصالح رؤية الجماعة محدودة التفكير، لكن القادرة دوماً على تقديم التضحيات بكرم لصالح المحرّك القائد لخيالها.

طبعاً مجتمع ذو روح مشتركة لا يعني عدم وجود أفراد كثر خارجه، بل على العكس دخل مثقفون علويون كثر سجون الأسد وبعضهم لم يخرج منها، والأمثلة أكثر من العدّ. لكن كما جميع البلدان القمعية لا يوجد رأي عام يصعد ويهبط بسرعة، بل مزاج عام ينزاح ببطء شديد وصعوبة، والأسباب واضحة؛ إلغاء الحياة السياسية والسيطرة على وسائل الإعلام، وطبعاً العصا لمن عصى.

حاول الأسد الأب، أن يقول: "أنا أبوكم... ربما أكون قاسياً وبخيلاً وأحياناً متوحشاً معكم، لكن عليكم تحمّلي؛ فإما أنا أو الفناء... فالطوفان من بعدي". حتماً نجح في ذلك كنجاحه في حكم سوريا ديكتاتوراً يسعى إلى توريث ابنه. فقد بدت سوريا منذ التسعينيات مملكةً متوحشةً غير دستورية واضحة المعالم، فصوره وأصنامه وكذلك أسرته تملأ البلد، خاصةً بعد مقتل نجله الأكبر في حادث مريب.

لم يمتلك الأسد كاريزميات الخطابة كهتلر وناصر، ولا أيديولوجيا محببة شعبية، فالبعث كحركة شعبية حيوية مات يوم وصل هو –أي الأسد- إلى الحكم، بل ربما منذ أعلن الحزب حلّ نفسه عام 1958. الملايين الكثيرة التي دخلت الحزب في العقود الأخيرة، كانت بين باحث عن وظيفة أو متسلّق يعرف هدفه وفي أحسن الأحوال شخص يتحاشى السلطة. حاول الأسد ترقيع النقص في شخصيته وفي الأيديولوجيا البعثية مستخدماً القضية الفلسطينية، فهو الرئيس الذي لم يوقّع، ثم أخيراً مات مورثاً حكماً عضوضاً لنجله الثاني.

بشار الأسد

ورث الابن حكماً قوي الأركان في بلد مهترئ. عملياً خشي من أي تغيير حقيقي، فحافظ على أدوات الحكم القديمة. حاول أحياناً وضع مكياج -غالباً قبيح- دون أي مساس بجذور النظام الأمني. طبعاً إذا كان الأسد الأب تنقصه كاريزما القائد، فإن الوريث قدّم بإصرار نموذجاً رقيعاً للمتفلسف الذي يعرف كل شيء، من دون أن يكون بالضرورة يعرف أي شيء.
لكن للأمانة، عاشت الطائفة العلوية في السنوات العشر الأولى من حكم بشار فترةً ذهبيةً، فقد بدأت السيارات الرخيصة، خاصةً الكورية والصينية بالظهور في مناطقهم، وانتشر شراء وبناء البيوت والشقق، وتطور الوضع المعيشي بشكل واضح، وكل هذا يعود للتحسن المطّرد في الرواتب مع ثبات سعر الليرة مقابل الدولار. ازداد الفساد بحدّة مقارنةً بأيام الأب، لكن الوفرة المادية -لم تكن وفرةً بمعنى الغنى بل اليسر فقط- غطّت وكظمت الغيظ. كذلك تحسنت الكهرباء والخدمات في سوريا عموماً.
الأحاديث عن موجات الجفاف، وأحزمة الفقر المستجدة، كانت بعيدةً عنه. وهذا ما يفسر الحنين الدائم للعودة إلى ما قبل 2011، وكذلك الالتفاف الذي حظي به النظام عند بدء الثورة.
عاشت الطائفة العلوية في السنوات العشر الأولى من حكم بشار فترةً ذهبيةً، فقد بدأت السيارات الرخيصة، خاصةً الكورية والصينية بالظهور في مناطقهم، وانتشر شراء وبناء البيوت والشقق، وتطور الوضع المعيشي بشكل واضح، وكل هذا يعود للتحسن المطّرد في الرواتب مع ثبات سعر الليرة مقابل الدولار. ازداد الفساد بحدّة مقارنةً بأيام الأب

الثورة السورية

لحظة انطلاق الثورة السورية، وربما قبيل ذلك، ظهرت سمات "الروح المشتركة" بأشدّ درجاتها: نكران احتمالية انتقال التظاهرات إلى سورية، فالنظام قويّ جداً وغير عميل كما أُريد أن يُشاع.

بدأت حفلة الجنون حين انطلقت الثورة التي صاحبتها رواية السلطة، والقناعة بأن الأمر زوبعة في فنجان (نحن مو متل غيرنا). حالة الجنون الجماهرية ليست بالضرورة فعلاً سلبياً. فعل الثورة ضد نظام مجرم متمكّن هو أيضاً حالة جنون. الاتّساق مع رواية النظام في الساحل امتد أحياناً إلى معارضين حقيقيين بعضهم قضى زهرة شبابه في سجون الأسد الأب! حتى الرجال الذين ظهروا في الأعوام الفائتة يعلنون معارضتهم للأسد في خطوة شجاعة شبه انتحارية، كان بعضهم عام 2011 موالياً.

بقي هذا الرابط مع السلطة قوياً حتى أواسط 2012. وقتها، بدأ المجتمع يسمع للمعارضون المنبوذين. فعلاً المعركة طويلة؛ السلطات فعلاً ترسل الجنود كالخرفان إلى الموت، وربما أرخص؛ الفساد زاد بشكل مروع خاصةً في الجيش، والوضع الاقتصادي، أي العملة والخدمات، في انهيار بل في حالة سقوط حرّ.

تدريجياً، بدأت الأسوار التي تحمي صورة الرئيس بالتآكل. ففي سوريا الأسد، لم يكن فقط الأسد وعائلته فوق النقد، بل كامل الجهاز البيروقراطي والحزبي والعسكري. تخلى النظام أولاً عن حماية المسّ بسمعة الجهاز البيروقراطي من النقد، كمجلسَي الوزراء والشعب المحافظَين، وكبار المسؤولين المدنيين، كنوع من التنفيس، وكمحاولة للتأكيد على أنّ "الرئيس كويس بس الي حواليه فاسدين". أسلوب التنفيس كان ممكناً لو توقف تدهور الأمور عند نقطة معينة.

إحساس الأسد بأنه لم يعد بحاجة إلى الشعب، وتالياً الجيش، بدأ مع دخول ميليشيا حزب الله والحرس الثوري عام 2013، ثم تكرس مع الدخول الروسي 2015.

تدمير المجتمع ذي الروح الجماعية

إحساس الأسد بأنه لم يعد بحاجة إلى الشعب، وتالياً الجيش، بدأ مع دخول ميليشيا حزب الله والحرس الثوري عام 2013، ثم تكرس مع الدخول الروسي 2015. وقتها، شعر بأنه في حلّ من أي تعاقد مع الشعب، وبأنّ كرسيه بات آمناً بفضل حلفائه، ولعب "البيضة والحجر" مع أشباه الخصوم وأشباه الحلفاء. كل ما كان يشبه النصر من لقاءات خارجية وفتح سفارات للنظام وعودة إلى الجامعة العربية، يُترجَم فوراً مزيداً من القهر والتجويع.

بات جلياً أن الأسد لم يعد يعامل البلد كمزرعة، كأبيه، بل كمقلع أو منجم يُخرج ما يستطيع منه ثم يتركه، بل ربما كمكبّ للنفايات عليه استخراج ما قد ينفعه منه ثم يحرقه. النفايات كانت برأيه الشعب بما فيه الجيش! الشعب الذي نزل إلى الساحات يهتف باسمه، وجَدَه الأسد عبئاً.

فساد زوجة الرئيس الهارب وشقيقه، فاق التصور. شراهتهما وجرأتهما تجاوزت أي حد، من حواجز الرابعة إلى أسعار الهواتف المجنونة. إلى ذلك، الأحاديث عن تجارة الكبتاغون بات علنياً.
احتقار الجيش لم يكن جديداً على آل الأسد: أخبرني مرةً صديق خدم كمجند في ثلاثة قصور رئاسية في العاصمة دمشق واللاذقية، مطلع الألفية، أي خلال فترة "العزّ والأمان"، أنه كان محرّماً على الجنود التزوّد بماء "الفيجة"، أي ماء الدولة من الصنابير، بل كان عليهم أن يأخذوا حاجتهم من صهاريج الدفاع المدني القذرة، والتي قد تصل إلى مرحلة الغليان في فصل الصيف. لا يمكن تفسير الأمر إلا باحتقار الأسد للجيش حتى حرسه، فمن المؤكد أنه لا يشرب ماء الصنبور بل مياهاً معدنيةً مستوردةً.

فرص مهدورة

حظي الأسد بعدد قياسي من الفرص، سواء من الداخل والخارج، لإصلاح الأمور، لكنه رفضها كلها. شعبياً، آخر "انتخابات رئاسية"، وبغضّ النظر عن أنها عملية شكلية، ظهرت فعلاً كآخر محاولة بائسة من مؤيدي الأسد ليقولوا: "نحن معك انظر إلى حالنا، أصلح البلد". نزلت أعداد كبيرة من المغسولة أدمغتهم تقول: علّ وعسى يشعر بحالنا.

النظام التقط الفكرة وبدأ بحملة التسويف؛ ستتحسن الأمور بعد خطاب القسم، عفواً بعد تشكيل الحكومة، أو انتظروا شهرين لتبدأ القرارات. القرارات كانت لكائن يعيش في كوكب آخر، والأفعال كانت مستفزّةً، كالصور العائلية الأشبه بصور عائلة ملكية تعيش في الجزيرة الإسكندنافية.
بالتدريج، وعلى مدى أكثر من عقد على انطلاق الثورة، تهاوى هذا المجتمع ذو الروح الجماعية. لم يبقَ سوى الأسديين المستفيدين فعلاً من النظام، وقلة نادرة ما أن تفتح فاها حتى تسمع الشتائم والسخرية في تبادل أدوار مدهش مع القلة المعارضة بداية الأحداث.
احتقار الجيش لم يكن جديداً على آل الأسد: أخبرني مرةً صديق خدم كمجند في ثلاثة قصور رئاسية في العاصمة دمشق واللاذقية، مطلع الألفية، أي خلال فترة "العزّ والأمان"، أنه كان محرّماً على الجنود التزوّد بماء "الفيجة"، أي ماء الدولة من الصنابير، بل كان عليهم أن يأخذوا حاجتهم من صهاريج الدفاع المدني القذرة

المعركة الأخيرة

آخر مرة ظهر فيها "الهبل العام"، كانت بُعيد تحرير حلب، وقبل معركة حماة الفاصلة. وقتها سرت شائعة مفادها أن الأمر خدعة ليس من النظام فقط بل من العالم أجمع، لإخراج المسلّحين (الإرهابيين) من إدلب والقضاء عليهم بسهولة، بل قد يشارك حلف الناتو في المعركة.

أخبرني عسكري شارك في معركة حماة: "كنت في ثكنة عسكرية قرب قرية خطاب. جاءنا الهجوم عكس المتوقع من الجنوب لا من الشمال. غالباً الأهالي فتحوا الطريق للمسلحين، وبعد اشتباكات عنيفة فوجئنا بحالات فرار كثيرة". توقف ثم تابع: "الجيش مهزوم من الداخل، كل من بقي يقاتل قُتل أو أُسر. هربت والنار من كل صوب باتجاه قرية سوبين وهي قرية سنّية. لم يتعرّض لي أحد، ومنها إلى قرية كفر الطون العلوية، فتلّ السكين".

معركة حماة كانت كسكب صهريج ماء بارد على الرؤوس الحامية. بدأ الفرار من حمص إلى الساحل؛ وصل سعر المقعد في أي سيارة من حمص إلى طرطوس -أقل من تسعين كم- إلى مليون ونصف، أي نحو 100 دولار، وهو راتب خمسة أشهر لموظف في سوريا الأسد.

الميزة الوحيدة في شخص الأسد الابن، أنّه جبان. جبنه وفراره منعا بركة دم أخيرة في جوار القصر، كان يمكن أن تكبر كثيراً. كذلك منعا ظهور مريدين ولو قلة له، حال صدام حسين والقذافي. ظهر هو وآل الأسد كم هم جبناء؛ وقت السلم يصلون العلويين نار العذاب، ووقت الحرب يختبئون خلفهم، ثم يهربون، وهم يحلمون بمجزرة عظيمة تؤكد سرديتهم. بغض النظر عن قرار كبير ما، أو اختراق استخباراتي عسكري للجيش، فإن ما قامت به الهيئة لحظة سقوط النظام لم يكن متوقعاً خاصة من ناحية القدرة على الحد من النزعة الانتقامية ولو مرحلياً.

بعيداً عن الخاتمات الكلاسيكية. هذه شهادة لصديق عاش الأحداث لحظةً لحظة:

"لا تخافوا ولا تكذبوا فالخائفون لا يبنون وطناً، والكذبة لا تكتب تاريخاً. أنا مواطن سوري عشت في هذا البلد منذ عشرات السنين، ولي فيه منزل وأرض وأب وأم وزوجة وأولاد وأخوات وأصدقاء، وعليّ واجبات ولي حقوق. لم أظلم أحداً في حياتي، ولم آكل قرشاً من حرام، ولم أخن بلدي أو شعبي، وأتحلى بالجرأة الكافية والمسؤولية الأخلاقية والشجاعة لأعترف بملء فمي بما يلي:

أعترف بأنني كنت أقف في الجانب الخطأ من التاريخ، وبأنني كنت ساكتاً عما فعله النظام المأفون الظالم المجرم الذي دمّر بلدي وقتل شعبي، وبأنني كنت ساذجاً إلى درجة أنني تأملت منه أن يصلح أخطاءه أو يصحح مساره أو يقدّم ما فيه الخير لبلدي وشعبي، ولا أجد لنفسي عذراً في أنني لم أشارك ولم أؤيد ولم أرضَ بأي عمل قام به، وبناءً على ذلك فأنا مستعد لقبول العواقب:

- أعترف بكل جرأة بأن إخوتي الثوار ممثلين بعناصر هيئة تحرير الشام، قد حموا أرضنا وحقنوا دماءنا وعاملونا بمنتهي الود والمحبة، وبرغم تصنيفهم على لوائح الإرهاب وتصويرهم بأنهم قادمون من القرون الوسطى، إلا أنهم أكثر رقياً ومدنيةً وحضارةً من جيوش أوروبا وأمريكا.

- أعترف بكل سعادة بأن إخوتي من أنصار الثورة كانوا على أعلى درجة من النبل والمحبة، وسعوا إلى تطميني ومدّوا لي أذرعهم وفتحوا لي قلوبهم وكانوا لي نعم العزوة ونعم الأهل".

الحسنة الوحيدة لبشار، أنه بصلفه وتعنته، دمّر المجتمع ذا الروح المشتركة الذي صنعه والده. فأكثر ما قد يدمّر الدول إنشاء بنى مجتمعية ما قبل الدولة، أو حتى النظر والتعامل مع مجموعة دينية أو إثنية كقطعة واحدة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image