من يدرس بدقة تاريخ العلويين في سوريا خلال القرن الأخير، يجد أنهم نادراً ما شكّلوا جمهوراً ذا "روح مشتركة"، كما يصف غوستاف لوبون، المجتمعات ذات الهوية المشتركة في كتابه "سيكولوجيا الجماهير".
فمنذ أزيد من قرن مضى، حين دخلت فرنسا أرض الساحل السوري، انقسم العلويون بين من دعا إلى حمل السلاح، ومن هادن، ومن سعى بقوة إلى الدخول إلى الجهاز البيروقراطي الذي شكلته فرنسا المنتدبة. هذا الانقسام بدا جلياً مرةً أخرى عام 1936، بين من نادى بالوحدة السورية، ومن طالب بالاستقلال عن سوريا.
الأمر تكرر بُعيد الاستقلال عام 1946، ثم خلال فترة الانقلابات والحكم الديمقراطي. علويون كثر انتسبوا إلى الأحزاب التقليدية (الوطنية)، كبدوي الجبل، ومثلهم شارك أيضاً ضبّاط في الانقلابات العسكرية، بدءاً من انقلاب حسني الزعيم، كالعقيد علم الدين قواص. وحتى حين بدأت موجة الأحزاب الأيديولوجية تظهر في سوريا، وفي الساحل خاصةً، انقسموا مجدداً بين قومي سوري، وشيوعي، بما يحمله هذان الحزبان من تفريعات جانبية.
لم يكن وصول حافظ الأسد إلى الحكم طائفياً، بل على العكس، كان كرهاً للمنافس الذي فاحت منه روائح وبهلوانيات لم ترُق للطائفة الأم الكبرى في سوريا. وحتى هذه اللحظة، ومنذ بداية سبعينيات القرن الماضي، لا يمكن وصف العلويين بالجمهور ذي الهوية المميزة، بل تسبح فيه كل التيارات السياسية السورية؛ باستثناء الإخوان المسلمين
البعث
الأسد الأب
غالباً لم يطّلع الأسد الأب، على كتاب "سيكولوجيا الجماهير" المترجم عام 1991. ربما سمع ملخصاً عنه من أحد مستشاريه أو مترجميه. فقد كان محاطاً بفريق من المستشارين الحاذقين، كمترجمه الخاص أسعد كامل الياس، صاحب ترجمة كتاب "سلام ما بعده سلام"، والدكتور جورج جبور وجبران كورية، عكس وريثه صاحب المستشارتين المشهود لهما بقلّة الحيلة والثقافة. وطبعاً ليس من الضروري أن يكون الأسد قد سمع به، فأستاذ علم نفس الجماهير، برأي الكاتب، كان شخصاً وُلد ومات قبل نشر الكتاب -يقصد نابليون- والذي فهم سيكولوجيا الجماهير في لا وعيه. هذا الكتاب جعلت منه النازية والفاشية نبراساً يهتدى به، ما أساء إلى سمعة الكاتب والكتاب معاً.
تشكيل جمهور "ذي روح مشتركة"
لذلك، وعلى طول مدة حكمه الطويلة، حرص على منع أي استغناء حقيقي لأبناء الساحل عن الدولة، خاصةً الجيش، مستغلّاً فقرهم وعدم وجود نخب اقتصادية حقيقية في الساحل قادرة على ابتلاع طلبات العمل المتزايدة. حتى في الزراعة، عومل فلاح الساحل بإهمال شديد فلم تُبنَ معامل صناعات_ غذائية تستفيد من زراعات الساحل، كالتبغ والحمضيات والزيتون.
أما العصا، فقد كانت عصوَين لا عصا واحدة؛ الأولى عصاه المباشرة، أي أجهزة الأمن والقمع المسلطة على جميع السوريين، والثانية، وهي خاصة بالعلويين وربما تمتد إلى الطوائف الصغيرة الأخرى وصولاً إلى علمانيي المدن، عصا التخويف من الإسلام السياسي، مستخدماً الموروث الشعبي، ونشر الشائعات الاستخباراتية، وطبعاً أخطاءً بل خطايا أعدائه في بعض الجرائم ذات البعد الطائفي كأحداث الثمانينيات.
الأسد الأب، حاول جرّ العلويين إلى صفّه، مستعملاً العصا والجزرة؛ الجزرة هي الحاجة إلى الوظائف والمال للعيش، فقد حرص على جرّ أعداد كبيرة منهم إلى الجيش وإسكان أغلبية المتطوعين قريباً منه في العاصمة.
يمكن القول إنه ومنذ أواخر السبعينيات، ومع تصاعد حركة الإخوان المسلمين، استطاع الأسد فعلاً، تشكيل مجتمع علوي يدور في فلكه، بكل مواصفات المجتمع ذي الروح الجماعية الذي تذوب فيه قدرة الفرد على التحليل المنطقي لصالح رؤية الجماعة محدودة التفكير، لكن القادرة دوماً على تقديم التضحيات بكرم لصالح المحرّك القائد لخيالها.
طبعاً مجتمع ذو روح مشتركة لا يعني عدم وجود أفراد كثر خارجه، بل على العكس دخل مثقفون علويون كثر سجون الأسد وبعضهم لم يخرج منها، والأمثلة أكثر من العدّ. لكن كما جميع البلدان القمعية لا يوجد رأي عام يصعد ويهبط بسرعة، بل مزاج عام ينزاح ببطء شديد وصعوبة، والأسباب واضحة؛ إلغاء الحياة السياسية والسيطرة على وسائل الإعلام، وطبعاً العصا لمن عصى.
حاول الأسد الأب، أن يقول: "أنا أبوكم... ربما أكون قاسياً وبخيلاً وأحياناً متوحشاً معكم، لكن عليكم تحمّلي؛ فإما أنا أو الفناء... فالطوفان من بعدي". حتماً نجح في ذلك كنجاحه في حكم سوريا ديكتاتوراً يسعى إلى توريث ابنه. فقد بدت سوريا منذ التسعينيات مملكةً متوحشةً غير دستورية واضحة المعالم، فصوره وأصنامه وكذلك أسرته تملأ البلد، خاصةً بعد مقتل نجله الأكبر في حادث مريب.
بشار الأسد
عاشت الطائفة العلوية في السنوات العشر الأولى من حكم بشار فترةً ذهبيةً، فقد بدأت السيارات الرخيصة، خاصةً الكورية والصينية بالظهور في مناطقهم، وانتشر شراء وبناء البيوت والشقق، وتطور الوضع المعيشي بشكل واضح، وكل هذا يعود للتحسن المطّرد في الرواتب مع ثبات سعر الليرة مقابل الدولار. ازداد الفساد بحدّة مقارنةً بأيام الأب
الثورة السورية
بدأت حفلة الجنون حين انطلقت الثورة التي صاحبتها رواية السلطة، والقناعة بأن الأمر زوبعة في فنجان (نحن مو متل غيرنا). حالة الجنون الجماهرية ليست بالضرورة فعلاً سلبياً. فعل الثورة ضد نظام مجرم متمكّن هو أيضاً حالة جنون. الاتّساق مع رواية النظام في الساحل امتد أحياناً إلى معارضين حقيقيين بعضهم قضى زهرة شبابه في سجون الأسد الأب! حتى الرجال الذين ظهروا في الأعوام الفائتة يعلنون معارضتهم للأسد في خطوة شجاعة شبه انتحارية، كان بعضهم عام 2011 موالياً.
بقي هذا الرابط مع السلطة قوياً حتى أواسط 2012. وقتها، بدأ المجتمع يسمع للمعارضون المنبوذين. فعلاً المعركة طويلة؛ السلطات فعلاً ترسل الجنود كالخرفان إلى الموت، وربما أرخص؛ الفساد زاد بشكل مروع خاصةً في الجيش، والوضع الاقتصادي، أي العملة والخدمات، في انهيار بل في حالة سقوط حرّ.
تدريجياً، بدأت الأسوار التي تحمي صورة الرئيس بالتآكل. ففي سوريا الأسد، لم يكن فقط الأسد وعائلته فوق النقد، بل كامل الجهاز البيروقراطي والحزبي والعسكري. تخلى النظام أولاً عن حماية المسّ بسمعة الجهاز البيروقراطي من النقد، كمجلسَي الوزراء والشعب المحافظَين، وكبار المسؤولين المدنيين، كنوع من التنفيس، وكمحاولة للتأكيد على أنّ "الرئيس كويس بس الي حواليه فاسدين". أسلوب التنفيس كان ممكناً لو توقف تدهور الأمور عند نقطة معينة.
إحساس الأسد بأنه لم يعد بحاجة إلى الشعب، وتالياً الجيش، بدأ مع دخول ميليشيا حزب الله والحرس الثوري عام 2013، ثم تكرس مع الدخول الروسي 2015.
تدمير المجتمع ذي الروح الجماعية
بات جلياً أن الأسد لم يعد يعامل البلد كمزرعة، كأبيه، بل كمقلع أو منجم يُخرج ما يستطيع منه ثم يتركه، بل ربما كمكبّ للنفايات عليه استخراج ما قد ينفعه منه ثم يحرقه. النفايات كانت برأيه الشعب بما فيه الجيش! الشعب الذي نزل إلى الساحات يهتف باسمه، وجَدَه الأسد عبئاً.
فرص مهدورة
حظي الأسد بعدد قياسي من الفرص، سواء من الداخل والخارج، لإصلاح الأمور، لكنه رفضها كلها. شعبياً، آخر "انتخابات رئاسية"، وبغضّ النظر عن أنها عملية شكلية، ظهرت فعلاً كآخر محاولة بائسة من مؤيدي الأسد ليقولوا: "نحن معك انظر إلى حالنا، أصلح البلد". نزلت أعداد كبيرة من المغسولة أدمغتهم تقول: علّ وعسى يشعر بحالنا.
احتقار الجيش لم يكن جديداً على آل الأسد: أخبرني مرةً صديق خدم كمجند في ثلاثة قصور رئاسية في العاصمة دمشق واللاذقية، مطلع الألفية، أي خلال فترة "العزّ والأمان"، أنه كان محرّماً على الجنود التزوّد بماء "الفيجة"، أي ماء الدولة من الصنابير، بل كان عليهم أن يأخذوا حاجتهم من صهاريج الدفاع المدني القذرة
المعركة الأخيرة
آخر مرة ظهر فيها "الهبل العام"، كانت بُعيد تحرير حلب، وقبل معركة حماة الفاصلة. وقتها سرت شائعة مفادها أن الأمر خدعة ليس من النظام فقط بل من العالم أجمع، لإخراج المسلّحين (الإرهابيين) من إدلب والقضاء عليهم بسهولة، بل قد يشارك حلف الناتو في المعركة.
أخبرني عسكري شارك في معركة حماة: "كنت في ثكنة عسكرية قرب قرية خطاب. جاءنا الهجوم عكس المتوقع من الجنوب لا من الشمال. غالباً الأهالي فتحوا الطريق للمسلحين، وبعد اشتباكات عنيفة فوجئنا بحالات فرار كثيرة". توقف ثم تابع: "الجيش مهزوم من الداخل، كل من بقي يقاتل قُتل أو أُسر. هربت والنار من كل صوب باتجاه قرية سوبين وهي قرية سنّية. لم يتعرّض لي أحد، ومنها إلى قرية كفر الطون العلوية، فتلّ السكين".
معركة حماة كانت كسكب صهريج ماء بارد على الرؤوس الحامية. بدأ الفرار من حمص إلى الساحل؛ وصل سعر المقعد في أي سيارة من حمص إلى طرطوس -أقل من تسعين كم- إلى مليون ونصف، أي نحو 100 دولار، وهو راتب خمسة أشهر لموظف في سوريا الأسد.
بعيداً عن الخاتمات الكلاسيكية. هذه شهادة لصديق عاش الأحداث لحظةً لحظة:
أعترف بأنني كنت أقف في الجانب الخطأ من التاريخ، وبأنني كنت ساكتاً عما فعله النظام المأفون الظالم المجرم الذي دمّر بلدي وقتل شعبي، وبأنني كنت ساذجاً إلى درجة أنني تأملت منه أن يصلح أخطاءه أو يصحح مساره أو يقدّم ما فيه الخير لبلدي وشعبي، ولا أجد لنفسي عذراً في أنني لم أشارك ولم أؤيد ولم أرضَ بأي عمل قام به، وبناءً على ذلك فأنا مستعد لقبول العواقب:
- أعترف بكل جرأة بأن إخوتي الثوار ممثلين بعناصر هيئة تحرير الشام، قد حموا أرضنا وحقنوا دماءنا وعاملونا بمنتهي الود والمحبة، وبرغم تصنيفهم على لوائح الإرهاب وتصويرهم بأنهم قادمون من القرون الوسطى، إلا أنهم أكثر رقياً ومدنيةً وحضارةً من جيوش أوروبا وأمريكا.
- أعترف بكل سعادة بأن إخوتي من أنصار الثورة كانوا على أعلى درجة من النبل والمحبة، وسعوا إلى تطميني ومدّوا لي أذرعهم وفتحوا لي قلوبهم وكانوا لي نعم العزوة ونعم الأهل".
الحسنة الوحيدة لبشار، أنه بصلفه وتعنته، دمّر المجتمع ذا الروح المشتركة الذي صنعه والده. فأكثر ما قد يدمّر الدول إنشاء بنى مجتمعية ما قبل الدولة، أو حتى النظر والتعامل مع مجموعة دينية أو إثنية كقطعة واحدة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Sam Dany -
منذ يومانا قرأت كتاب اسمه : جاسوس من أجل لا أحد، ستة عشر عاماً في المخابرات السورية.. وهو جعلني اعيش...
مستخدم مجهول -
منذ يوملماذا حذفتم اسم الاستاذ لؤي العزعزي من الموضوع رغم انه مشترك فيه كما ابلغتنا الاستاذة نهلة المقطري
Apple User -
منذ يومينوحده الغزّي من يعرف شعور هذه الكلمات ، مقال صادق
Oussama ELGH -
منذ 3 أيامالحجاب اقل شيء يدافع عليه انسان فما بالك بحريات اكبر متعلقة بحياة الشخص او موته
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياماهلك ناس شجاعه رفضت نطاعه واستبداد الاغلبيه
رزان عبدالله -
منذ أسبوعمبدع