لطالما كان طائر الحسّون، بصوته العذب وألوانه الجميلة، لافتاً لأنظار الباحثين عن الجمال، خاصّةً في الضفة الغربية. فقد لجأ التجار الفلسطينيون في السنوات الأخيرة إلى تهريب طائر الحسون من الأردن إلى الضفة الغربية عبر معبر الكرامة، كنوعٍ من التجارة المُربحة التي تُدرّ أموالاً طائلةً على أصحابها. نظراً لنُدرة هذا الطائر في فلسطين وانقراضه بسبب الصيد الجائر والقيود التي تفرضها سلطات الاحتلال الإسرائيلي على استيراده. إذ يُعتبر هذا الطائر محميّاً بموجب القانون في المناطق التي يسيطر عليها الاحتلال، وتُفرض غرامات مالية ضخمة على من يحاول اصطياده، وقد تصل إلى السجن في بعض الأحيان. وفي الآونة الأخيرة قلّت أعداد طائر الحسون بشكلٍ ملحوظٍ حدَّ الانقراض على مستوى الداخل الفلسطيني والضفة الغربية.
بحسب المادة رقم 41 من الفصل الخامس في قانون البيئة رقم 7 لسنة 1999، الخاص بحماية الطبيعة والمناطق الأثرية والتاريخية، يعاقب مرتكبي الصيد الجائر في الضفة الغربية بغرامة مالية لا تزيد على مائتي دينار (500 دولار) أو الحبس مدة لا تقل عن ثلاثة أيام، ولا تزيد على أسبوعين. (العقوبات عند الجانب الإسرائيلي تختلف، غالباً ما تكون أشدّ وغراماتها أكبر). لكن على الرّغم من هذه التشديدات، ستبدو رغبة الشاري والمهرّب أكبر بكثير من الانصياع لها.
تجارة من ذهب
من الجدير بالذكر أن أسعار طائر الحسون تختلف باختلاف الحجم والشكل والصوت أو اللغة الغنائية الخاصة به، وكذلك باختلاف المواسم التي يتم شراؤه فيها. إذ ترتفع أسعاره في فصل الرَّبيع لأنَّه موسم التزاوج، وتنخفض في فصل الصيف لأنَّ الطائر وقتذاك يكون فرخًا صغيراً.
يقول مهيب (40 عاماً) لرصيف22، وهو تاجر عمل لسنوات في تهريب طائر الحسون من الأردن إلى الضفة الغربية: "هناك أنواع معروفة يتم تهريبها إلى الضفة مثل الحسون الأبيض والحسون الأوكراني (نسبة إلى موطنه أوكرانيا). يمكنني القول بأنَّ الحسون الأوكراني هو الأكثر طلباً، وهذا النوع يمكن توفيره بسهولة في الخارج. مثلاً نحن نشتريه من الأردن بحوالي 8 دنانير (4 دولار). ويُباع في الضفة الغربية بمبلغ ما بين 300 و400 شيكل (90-120 دولار)".
ويضيف: "كذلك الأمر بالنسبة إلى الحسون الأبيض فهو يأتي من روسيا، ويُعتبر نادراً. لكنَّه يباع بمبالغ مالية ضخمة، فهو غالٍ في موطنه، وغالٍ في الضفة الغربية أيضاً. نحن نتحدث عن 4000 إلى 5000 شيكل (ألف حتى 1500 دولار) للعصفور الواحد. وإذا كنا سنحصل على زوجين اثنين، بمعنى ذكر وأنثى، فإن السعر يصل إلى 20 ألف شيكل تقريباً (6 الآف دولار). عادةً ما يكون الأوكراني جميل الشكل، أما الأبيض فهو يمتاز بقدرته على تعلُّم لغة غنائية، وهذا ما يصنع الفجوة في الأسعار بينهما".
يلجأ التجار الفلسطينيون إلى تهريب الحسون من الأردن إلى الضفة الغربية، كنوعٍ من التجارة المُربحة التي تُدرّ أموالاً طائلةً على أصحابها. نظراً لنُدرة هذا الطائر في فلسطين وانقراضه بسبب الصيد الجائر والقيود التي تفرضها سلطات الاحتلال على استيراده
طالب نجيب في الغناء
ويتابع مهيب: "تُعتبر تجارة مربحة جداً لأنَّ الإقبال عليها كبير من قبل المواطنين، وسبب شراء هذا الطائر يكون في أغلب الأحيان للتربية بشكل فردي أو وضعه في أماكن خاصة للتزاوج والتجارة لاحقاً. فيما يشتريه آخرون فقط للاستماع إلى صوته العذب. فهناك أنواع معينة من هذا الطائر يمكن تعليمها الغناء بطريقة معينة ويكون صوتها مطرّب، هل تعرفين عبد الحليم؟ بهذا التشبيه المبسَّط أقول بأنَّ الحسّون قادر على إنتاج نغمة موسيقية مبهرة بذات القدر. نحن نسمّيه حسّون الطرب، وهذا لقب واحد من بين ألقابه الكثيرة".
وفي الحديث عن طريقة تعليم طائر الحسون للنغمة الغنائية، يقول مهيب: "يوضع الطائر والقفص في مكان مغلق كالغرفة (دون تغطية القفص نفسه بالقماش لأنَّ هذا يستنزف قوته ويشعره بالضيق وقد يؤدي لاحقاً إلى موته). يتم تعليمه اللَّحن الغنائي عن طريق قرص مضغوط، يشغَّل على مدار 24 ساعة لمدّة 6 شهور تقريباً حتى يحفظ النغمة. أما إذا بدأ الطائر بالتعلّم منذ كونه فرخًا، فسيكفي تشغيل القرص لمدة تتراوح بين 3 إلى 4 ساعات، صباحاً ومساء، وتقل تدريجياً مع نموّه".
من الجدير بالذكر أنّه كلما كان الطائر صغيراً كان من السهل تعلّمه للغة الغنائية، حسب تجربة مهيب، لأنَّ الحسون عندما يكبر على لغة موسيقية معينة يصبح من الصعب بل المستحيل إلغاء تلك اللغة الموسيقية منه، وتعليمه أخرى. "كما يُنصح بتعليم الصغار الغناء من عمر 6 إلى 10 أيام تقريباً. مع الفصل بينهم في أماكن التعليم؛ لأنه لا يمكن تعليمهم الغناء في مكان واحد، فهذا يؤدي إلى خلل في اللغة التي يتعلَّمها ويجعله عرضة للأخطاء"، يقول مهيب.
السلطات تشتكي من تجارتها، وماذا عن البطالة؟
أما عمر (اسم مستعار 47 عاماً) وهو تاجر ومهرِّب، فيقول لرصيف22: "من طرق التهريب التي نتبعها هي وضع الطائر داخل الملابس والأحذية، أو عن طريق وضعه بداخل "زنّار" أو قطعة قماشية توضع تحت الصدر وعند البطن. ويتم ذلك بمساعدة منوِّم خاص للعصافير تجنباً لإحداث الضجيج. طبعاً يتم التهريب على شكل مجموعات لهذا الطائر، وأقل عدد في كلّ مجموعة يتراوح بين 15 إلى 20 عصفوراً. والنساء يحملن 30 لأنهنّ يضعنه داخل الزنّار. وهي تجارة مربحة بشكل كبير وتعتمد بالدرجة الأولى على اللغة الغنائية للطائر، كلما كانت نادرة كان سعره أعلى". ويذكر عمر الأنواع الأكثر شهرة لهذه اللغات الموسيقية، مثل اللغة الشامية، واللغة الفلسطينية ويسمّونها "لغة أبو خليل".
"يتم التهريب بمساعدة منوِّم خاص للعصافير تجنباً لإحداث الضجيج، وكذلك على شكل مجموعات، وأقل عدد في كلّ مجموعة يتراوح بين 15 إلى 20 عصفوراً. والنساء يحملن 30 لأنهنّ يضعنه داخل الزنّار".
ويضيف عمر: "يباع الحسّون في بلادنا بمنطق شطارته؛ فهذا يخطئ بعد تعلّمه وذاك لا يخطئ إلخ. من وجهة نظري، الاستماع إلى صوته يستحقّ عناء تهريبه. بعض الأشخاص يُكتشف أمرهم على معبر الكرامة. وحين يكشف الاحتلال أحدهم يقوم بإطلاق سراح ما بحوزته من طيور ويغرِّمون من قام بتهريبه إلى الضفة بمبلغ ما بين 6000 إلى 7000 آلاف شيقل (1700-2000 دولار)، بالإضافة إلى السجن لمدة ستة شهور".
يؤكد عمر بأنَّ هذا الطائر لم يعد موجوداً في فلسطين كلها، حتى في الداخل المحتلّ. وقبل فترة قامت تركيا برفع قضيّة على إسرائيل بسبب الصيد الجائر للطيور المهاجرة من هذا النوع. لذا يقومون بتزويج طيور الحسون داخل البيوت لانعدام البيئة المناسبة لها.
وعند سؤاله عن أسباب هذه التجارة قال: "تعرَّضت لمضايقات كثيرة من قبل الاحتلال والسلطة على حدّ السواء، وفي مرة من المرات قمت بدفع حوالي 2000 شيكل (600 دولار) كغرامة مالية. لم يسبق لي أن سُجنت ولكنني وقّعت على تعهّدات لم ألتزم بها. هذه مهنتي الوحيدة التي أعتاش منها. لجأت إليها بسبب البطالة وقلة المال، إذا كانت السلطات تشتكي من تجارتنا هذه وتعاقبنا عليها فالأجدر بها أن توفِّر لنا المال، أو فرص العمل كحدٍّ أدنى لنعيش حياةً كريمة. وسنترك الحسون يغرِّد على الأشجار".
يفتّشهم الاحتلال أولاً
يقول المقدَّم إبراهيم عيّاش، مدير العلاقات العامة في الضابطة الجمركية، لرصيف22: "تعمل الضابطة الجمركية على منع أيّ حالة تهريب سواء للطيور أو الحيوانات الأخرى عبر المعابر، وتحديداً معبر الكرامة. ذلك لأن تهريب الطيور انتشر بشكل كبير في السنوات الأخيرة وأصبح تجارة لدى البعض. يتم ضبط حوالي 100 شخص من التجار أو المهرِّبين كل سنة تقريباً. ومن المعيقات التي تقلل من قدرتنا على ضبط هؤلاء التجّار هو الاحتلال وعدم سيطرتنا على المعابر، لأنَّ ترتيبنا هو رقم "ب" بمعنى أنَّ القادم من الخارج يخضع لتفتيش الاحتلال أولاً ومن ثم يأتي دورنا".
ويتابع: "طبعاً الاحتلال يعتمد على آلات التفتيش المتطورة والخاصة التي يمكنها رصد أي تغيير داخلي في بنية أو شكل الشخص. أما نحن فنعتمد بشكل أساسي على جمع المعلومات الاستخبارية من خلال أصدقائنا، أو البلاغات التي نحصل عليها من بعض المسافرين بأنَّ س أو ص من الناس يحمل أو يخفي هذا النوع من الطيور داخل ملابسه أو مع أشخاص آخرين من المسافرين معه. وكذلك أصبح لدينا نوع من الخبرة والمعرفة بهؤلاء المهرِّبين نتيجة معايشتنا الطويلة لهم على المعبر. نحن جهات إنفاذ قانون، بعد ضبط ما بحوزتهم من طيور نقوم باستدعاء جهات الاختصاص في وزارة الزراعة والشرطة، ونقوم بتحويل ملفهم إلى النيابة العامة لمتابعة الإجراءات القانونية، والتي غالباً ما تكون على شكل غرامات مالية أو تعهدات أو حتى السجن، وقد تكون مزيجاً من هذه الإجراءات".
ويروي عيّاش قصة إحدى الملفات اللافتة التي تمَّ ضبطها على المعبر، فيقول: "كان هناك طالب تعتقد عائلته أنه يدرس في إحدى الجامعات وسط الضفة الغربية، بينما كان ذاهباً مع أصدقائه إلى الأردن، وقاموا بتهريب حوالي 75 حسّون. كانوا أربعة أشخاص. تشاركوا في شرائهم بمبالغ جمعوها من بعضهم البعض، نظراً لدنو أسعار الحسون في الأردن. كانت الطيور منوَّمة بمادة مخصصة لهذا النوع من الأمور، قمنا بتحويلهم إلى الجهات المختصّة. وهذه القصة كانت من العلامات الفارقة في عملنا والتي لا يمكنني نسيانها على الصعيد الشخصي".
يؤكِّد عياش أنَّ الضابطة الجمركية شديدة الحرص على ضبط مثل هذه القضايا؛ لما لها من آثار سلبيّة على الصعيدين الصحي والبيئي وحتى الاجتماعي والوطني. لأنَّ هذا التهريب لا يعتمد على شخص واحد، أحياناً كثيرة يكون فيه استغلال لفئات ضعيفة كالطلّاب والنساء. فهذا يسيء بنظرهم إلى سمعة الفلسطيني دولياً، ويعزِّز موقف الاحتلال من المواطن الفلسطيني بأنَّه مهرِّب وضد القانون، ويعتاش على التهريب وتجارة الممنوعات.
على الرغم من المعيقات الكثيرة التي تحول دون وصول أعدادٍ كبيرة من طائر الحسون إلى فلسطين، إلا أنَّ التجار يجلبونه من أوكرانيا وروسيا وأماكن مختلفة من العالم، ليصدح صوته في وطنٍ مُحتلّ. ضاربين بالقوانين التي يفرضها كل من الاحتلال والسلطة الفلسطينية عرض الحائط
الحسون البلدي والحسون المهاجر
هناك نوعان أساسيان وهما: الحسون البلدي والحسون المهاجر. أما عن الفرق بينهما فالحسون البلدي ينحدر من سلالة محلّية (غير مهاجرة). يعيش على شكل مجموعات ونادراً ما يغادر بيئته التي يعيش فيها لأسباب قد تكون طبيعية أو بشرية. كما يمتاز بلغته الغنائية الجميلة وسهولة اعتياده على الجو المحيط. ويمتاز عن الحسون المهاجر بقوة بنيته، وحجمه الكبير، حيث أنّ طوله أكثر من 13 سم. يصلح هذا الحسّون للإنتاج الهجين والطفرات (على مستوى التزاوج مع الأنواع الأخرى). أما الحسون المهاجر فينحدر من سلالة مهاجرة، ويهاجر بشكل موسمي من منطقة إلى أخرى بحثاً عن الغذاء، مرّة في نهاية الصيف وبداية الخريف، ومرّة في نهايات الشتاء وبداية الربيع. يمتاز بلغته الغنائية الرديئة وصعوبة تربيته في بيئة أخرى. على صعيد الهيئة يمتاز برأس أكبر من الحسون البلدي، ويكون ذيله على شكل رقم 7 للمساعدة على التحليق لمسافات طويلة وقت الهجرة.
يقول عبدالخالق، أحد هواة تربية الحسون (27 عاماً)، لرصيف22: "اشتريت طائر حسون قبل سنتين من أحد التجار. أحببت صوته وهيئته، فقد أضفى مزيداً من الحياة إلى بيتنا، ولم أندم على المبلغ الذي دفعته مقابل شرائه. لكنَّ العناية به تتطلَّب جهداً كبيراً وحذراً من نوع خاص، فالحسون طائر يحبّ الهدوء والأماكن المفتوحة، كما من الضروري تعريضه للشمس بشكل دوري. أما على صعيد الأساسيات فتنظيف القفص وتغيير المياه يومياً وتنويع الأطعمة يساعد في بقائه على قيد الحياة، من أفضل الأطعمة التي يمكن وضعها له هي الحبوب الخاصة والخضار والمكسرات وبذور دوار الشمس وبعض الفواكه".
يظلّ الحسون على اختلاف أنواعه وأماكن وجوده طائراً جميلاً يُسرّ المرء برؤية ألوانه، وليس غريباً أن تُدفع مبالغ طائلة لاقتنائه، وللاستماع إلى موسيقاه التي تعزف على أوتار الروح، فيكون لها وقعٌ خاصٌّ في أذن العاشق والمشتاق، كيف لا يتأثر من هزَّه الحنين بصوته وهو الملقَّب بطائر الشوق؟
وعلى الرغم من المعيقات الكثيرة التي تحول دون وصول أعدادٍ كبيرة من طائر الحسون إلى فلسطين، إلا أنَّ التجار يجلبونه من أوكرانيا وروسيا وأماكن مختلفة من العالم، ليصدح صوته في وطنٍ مُحتلّ، ضاربين بالقوانين التي يفرضها كل من الاحتلال والسلطة الفلسطينية عرض الحائط، على أمل أن توفِّر لهم هذه التجارة الخطرة حياةً كريمةً عجزت السلطة لسنواتٍ طويلةٍ عن توفيرها. مؤكدين على أنَّ من يهرِّب الحسون ليس مجرماً؛ فكيف يُجرَّم من يهرِّب الأمل، والجمال، والحياة والصوت العذب إلى شعبٍ محاصر.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
أحمد لمحضر -
منذ يوملم يخرج المقال عن سرديات الفقه الموروث رغم أنه يناقش قاعدة تمييزية عنصرية ظالمة هي من صلب و جوهر...
نُور السيبانِيّ -
منذ 4 أيامالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ 5 أياموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري