أي نفع للفنون، للآداب، للأموال، إذا لم تكن لأجل الإنسان؟ ماذا يفيد إنساناً استحوذ على ثروة، ثم تركها لورثة طيبين أو جاحدين، أو للصوص؟ لا شيء إلا لذة وهمية اسمها الاكتناز. في الفيلم المصري "المشبوه" يصاب اللص بيومي (سعيد صالح) بعيار ناري، فيكبش الأموال الورقية، يشمّها وهو يغالب الموت. يوقن بالنهاية، فيتناول عملة ورقية ويتذوق طعهما. الأموال الورقية في البلاد الفقيرة فقيرة، رائحتها غير طيبة، لإساءة الاستعمال، وإطالة حياتها أكثر من عمرها الافتراضي، لكنها تريح الفقير؛ فيموت وقد اقتنص متعة أخيرة من دنيا يغادرها. لص مسكين أكثر حباً للحياة من بخيل يغنيه الاكتناز. هناك من يكنزون المعارف والنظريات، ولا يعيشون.
أن يترك الإنسان نفسه أحياناً للتجربة، فيأخذه التيار إلى أبعد مما تخيل، أحسن من حياة فاترة، رتيبة، خالية من الشجون والأوجاع، محسوبة بالقلم والمسطرة، مرسومة بدقة على ماكيت. ومباهج الحياة والأديان والفنون جُعلت للإنسان. كلها في خدمة الإنسان السيد ما لم يدخل نفق عبودية مختارة بتسخير نفسه، وإفناء عمره، وإتلاف أعصابه، لأجل أحد أو شيء خارج المتعة والإرادة. لا تستمتع محارة بلؤلؤة هي ثمرة استثارة حبة رمل في عمق الخليج. الحياة حياة، غاية عظمى، تفسدها مراقبة آلية للناس والأشياء؛ بهدف الاستثمار النفعي في أعمال فنية. والفن ليس حياة بديلة إلا للعجزة، كارهي الحياة. أنوفهم لا تشم العطر؛ لانشغال عقولهم بمكوناته.
للفنون قداسة يفترض ألا تؤدي إلى الاستغناء عن الحياة. والحياة، في صعوبتها أو إقبالها، تقتل مواهب كبيرة. هو قتلٌ بالاستحالة أو بالإغراء، وهناك من قرر أن يحيا
للفنون قداسة يفترض ألا تؤدي إلى الاستغناء عن الحياة. والحياة، في صعوبتها أو إقبالها، تقتل مواهب كبيرة. هو قتلٌ بالاستحالة أو بالإغراء، وهناك من قرر أن يحيا. الشاعر الفرنسي آرثر رامبو في سنّ مبكرة نفض يديه من الشعر، واختار أن يهيم بالحياة، رافضاً العودة إلى الشعر، أو إلى بلاده. حالة رامبو اختيار لا اضطرار. وللكاتب أن يختزن مشاهد ومواقف وتفاصيل، وقد يأتي وقت لاستعادتها وتمثّلها، أو لا يأتي. أما أن تذبل روحه، وتنبت له قرون استشعار وكاميرات مراقبة فينال من إنسانيته، ويجعله آلة نفعية في خدمة الكتابة. والكتابة في هذه الحالة هي ثمرة للتلصص والتكلف، تصوير يشبه نقل ظاهر الأشياء.
ماتت زوجة صديق لجوستاف فلوبير، فاشترك في الجنازة، وكتب إلى أحد أصدقائه: "لعلي بذهابي إلى الجنازة سأظفر بشيء يعينني على كتابة رواية مدام بوفاري، وهذا استغلال انساقت إليه نفسي، قد يبدو كريهاً إذا اعترفت به ولكن أي عيب في ذلك".
وفي كتاب "أنشودة للبساطة" يعلق يحيى حقي: "ولكن المولى سبحانه وتعالى انتقم من فلوبير"، ففي الجنازة ألح عليه رجل ثقيل الظل بأسئلة عن رحلته إلى مصر، "وتقهقر حزن الصديق الأرمل إلى مؤخرة المسرح من شدة ملل فلوبير بهذا الرجل السمج". وراسل صديقه: "لا شك أن الخالق سبحانه يحب الرومانسية فهو ولوع بأن يخلط دائماً بين الأنواع، بموقف محزن موقف مضحك".
يحيى حقي ينتقد "التلذذ بالاكتفاء بالمراقبة، وهي لذة في نهاية الأمر عقيم، هي نوع من النرجسية". والمراقبة حين تأتي من سلطة تصير نوعا من السادية. مخرج الفيلم مثلاً سلطة عليا تسيطر على عناصره. آخر من يتكلم آمرا ببدء التصوير، وأول من ينطق فيتوقف التصوير، ويأمر بإعادة المشهد مع إبداء الملاحظات السلبية، أو الانتقال منه؛ فيتنفس فريق العمل. وللمخرج المصري حسين كمال مواقف يتعدى فيها سلطة إدارة الممثل إلى الاستهانة والإهانة. في إحدى القرى بالصعيد، امتد تصوير فيلم "البوسطجي" إلى الأيام الأولى من حزيران/يونيو 1967. في المشهد الأخير الصامت، يطارد الأب سلامة (صلاح منصور) ابنته جميلة (زيزي مصطفى) ويطعنها، ويحمل جثتها.
كان صلاح منصور يضع راديو صغير (ترانزستور)، تحت جلبابه الفضفاض، ليعرف آخر تطورات الحرب. حسين كمال لمح الراديو، فوجئ به فأوقف التصوير، واتجه إلى الممثل. دسّ يده، وأخرج الراديو. رماه وسحقه بقدمه، ونهر الممثل قائلاً بصوت عالٍ أمام فريق العمل وبعض أهالي القرية: "يا أستاذ إحنا بنشتغل، والموقف في الفيلم لا يحتمل، ومش وقت سياسة ولا حروب". فجأة تغير وجه صلاح منصور، ومن الغضب والشعور بالقهر غالبته دموعه الصامتة. قال المخرج: "فقبضت على هذه اللحظة، وقلت بعلو صوتي: دوّر، هنصوّر". ومسح حسين كمال دموع الرجل: "عيب الرجل الصعيدي يبكي، وصوّرنا المشهد فجاء عالمياً، وأشاد بأدائه أكثر من نجم مصري وعالمي".
استثمر المخرج شعور الممثل بالهوان، ولم يحاول صون الضعف البشري، وبسرعة استغل هذا الضعف، وصوره في مشهد يجسد لحظة مرتبكة لرجل يخضع للتقاليد؛ فيقتل ابنته غسلا لعارها، لكنه أب لا يخلو قلبه من حنان وشفقة وأسى. المخرج هنا أناني، نرجسي، أسعده اضطراب ملامح الممثل. ولم يخطط المخرج لهذا الاضطراب. فهل استقرت الواقعة في لا وعي حسين كمال؛ فعمد إلى تكرارها بعد أقل من عامين؟ وفي التكرار تجاوز الاستهانة بمشاعر الممثل القلِق على بلاده التي تواجه العدو، إلى الإهانة. في فيلم "شيء من الخوف" (1969) يتسلح الطاغية عتريس (محمود مرسي) برجاله، ويدخل دار حافظ (محمد توفيق)، لعقد قرانه على فؤادة (شادية).
انتهى تصوير المشهد، فانحنى المخرج معتذراً للفنان الكبير. قال إنه تعمد استفزازه؛ للحصول على درجة الإحساس القصوى. هل الأمر يستحق؟ كم من ممثل، كاتب، موظف، شخص عابر، قتلته كلمة من رئيس سادي؟
حسين كمال أصغر من محمد توفيق بستة وعشرين عاماً. ولد توفيق عام 1908، ودرس التمثيل في القاهرة ولندن، وهناك عمل في هيئة الإذاعة البريطانية. وأخرج للإذاعة المصرية برامج وتمثيليات وللمسرح عروضاً. وعمل أستاذاً للتمثيل في معهد التمثيل بمصر ومعاهد التمثيل في دول عربية. وفي هذا المشهد كان على الأب (توفيق) أن يعقد قران ابنته. البنت رفضت أن توكل صديقيْ أبيها بالأمر، وخاف الصديقان أن يعلنا رفض فؤادة، فطلبا إلى أبيها الاستجابة للطاغية الذي لن يتردد في القتل. وأبدى المخرج سخريته من أداء محمد توفيق: "ده أداء؟ ومن أستااااذ التمثيل!". لم يتورع عن التشكيك في خبرة الممثل وقدراته وجدارته، فارتعد الرجل.
سرت الرعشة في جسد محمد توفيق. انتفضت ملامحه انتفاضة مكتومة، لا يستطيع الاعتراض، ويحبس دموعاً لمح المخرج طيفها؛ فسارع إلى إعادة تصوير المشهد. يد الأب في يد الطاغية، والمأذون ينطق بكلمات العقد ويدعو الأب إلى الترديد، واحتبست الحروف في حلقه، وتهدج صوته، فتناثرت الحروف بحشرجة تجاهد لتأتلف في كلمات وجمل متقطعة. يظن مشاهد الفيلم أن هذا التلعثم سببه الخوف من الطاغية عتريس الذي أجبر الأب على تزويجه من ابنته، على الرغم من رفضها ورفض أبيها. الهلع لم يكن كله تمثيلا يقتضيه الاندماج في المشهد. أربعون ثانية جسّدت رعب الممثل من نفسه، وكأن ما درسه وطبقه ممثلاً ومخرجاً وأستاذاً ذهب سدى.
انتهى تصوير المشهد، فانحنى المخرج معتذراً للفنان الكبير. قال إنه تعمد استفزازه؛ للحصول على درجة الإحساس القصوى. هل الأمر يستحق؟ كم من ممثل، كاتب، موظف، شخص عابر، قتلته كلمة من رئيس سادي؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يوماوجدتي أدلة كثيرة للدفاع عن الشر وتبيانه على انه الوجه الاخر للخير لكن أين الأدلة انه فطري؟ في المثل الاخير الذي أوردته مثلا تم اختزال الشخصيات ببضع معايير اجتماعية تربط عادة بالخير أو بالشر من دون الولوج في الأسباب الاجتماعية والاقتصادية والمستوى التعليمي والثقافي والخبرات الحياتية والأحداث المهمة المؤسسة للشخصيات المذكورة لذلك الحكم من خلال تلك المعايير سطحي ولا يبرهن النقطة الأساسية في المقال.
وبالنسبة ليهوذا هناك تناقض في الطرح. اذا كان شخصية في قصة خيالية فلماذا نأخذ تفصيل انتحاره كحقيقة. ربما كان ضحية وربما كان شريرا حتى العظم ولم ينتحر إنما جاء انتحاره لحثنا على نبذ الخيانة. لا ندري...
الفكرة المفضلة عندي من هذا المقال هي تعريف الخير كرفض للشر حتى لو تسنى للشخص فعل الشر من دون عقاب وسأزيد على ذلك، حتى لو كان فعل الشر هذا يصب في مصلحته.
Mazen Marraj -
منذ يوممبدعة رهام ❤️بالتوفيق دائماً ?
Emad Abu Esamen -
منذ يومينلقد أبدعت يا رؤى فقد قرأت للتو نصاً يمثل حالة ابداع وصفي وتحليل موضوعي عميق , يلامس القلب برفق ممزوج بسلاسة في الطرح , و ربما يراه اخرون كل من زاويته و ربما كان احساسي بالنص مرتبط بكوني عشت تجربة زواج فاشل , برغم وجود حب يصعب وصفه كماً ونوعاً, بإختصار ...... ابدعت يا رؤى حد إذهالي
تامر شاهين -
منذ 3 أيامهذا الابحار الحذر في الذاكرة عميق وأكثر من نستالجيا خفيفة؟
هذه المشاهد غزيرة لكن لا تروي ولا تغلق الباب . ممتع وممتنع هذا النص لكن احتاج كقارئ ان اعرف من أنت واين أنت وهل هذه المشاهد مجاز فعلا؟ ام حصلت؟ او مختلطة؟
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياممن المعيب نشر هذه الماده التي استطاعت فيها زيزي تزوير عدد كبير من اقتباسات الكتاب والسخرية من الشرف ،
كان عيسى يذهب إلى أي عمل "شريف"،
"أن عيسى الذي حصل على ليسانس الحقوق بمساعدة أخيه"
وبذلك قلبت معلومات وردت واضحة بالكتاب ان الشقيق الاصغر هو الذي تكفل بمساعدة اهله ومساعدة اخيه الذي اسكنه معه في غرفه مستأجره في دمشق وتكفل بمساعد ته .
.يدل ذلك ان زيزي لم تقرأ الكتاب وجاءتها المقاله جاهزه لترسلها لكم
غباءا منها أو جهات دفعتها لذلك
واذا افترضنا انها قرأت الكتاب فعدم فهمها ال لا محدود جعلها تنساق وراء تأويلات اغرقتها في مستنقع الثقافة التي تربت عليها ثقافة التهم والتوقيع على الاعترافات المنزوعه بالقوة والتعذيب
وهذه بالتأكيد مسؤولية الناشر موقع (رصيف 22) الذي عودنا على مهنية مشهودة
Kinan Ali -
منذ 3 أيامجميل جدا... كمية التفاصيل مرعبة...