شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
حنان المخرج في نقد الأفلام...

حنان المخرج في نقد الأفلام... "ما وراء الصورة" لهاشم النحاس

ثقافة

الخميس 29 سبتمبر 202212:29 م

لي مع كتاب المخرج هاشم النحاس حكايتان؛ الثانية لم أفعلها مع كتاب آخر، أياً كان موضوعه. اعتدتُ قراءة كلمة الغلاف الخلفي، ويليها الإهداء والفهرس، وتقليب صفحات الكتاب. وأضعه بالقرب مني، في مجال الرؤية واللمس. ثم أوقظه برفق، وأتأمل عناوين فصوله في الفهرس. يطول زمن التعارف أو يقصر، قبل انطلاق الرحلة إذا نما بيننا جسر من الألفة، فأبدأ بالمقدمة، وأمضي بالترتيب الذي أراده المؤلف، حتى أنتهي. وكالعادة قرأت سطورَ غلاف كتاب "ما وراء الصورة" للنحاس، وبحثت في الفهرس عن فيلم روائي محدد، فانصرفت مؤقتاً عن المقدمة، وذهبت مباشرة إلى فيلم آخر عنوانه "سَلَطة بلدي". ولم يكن هو الفيلم الذي أبحث عنه.

أما الحكاية الأولى فترجع إلى ربيع 2017. كنت رئيساً لتحرير مجلة الهلال، ونشرتُ في سلسلة "كتاب الهلال" الشهرية كتابين في النقد السينمائي: "أفلام المخرجات في السينما العربية" لسمير فريد، و"سياسة عادل إمام.. رسائل من الوالي" لأحمد يوسف. ورحّبتُ باقتراح السيدة مرفت رجب نشرَ كتابٍ للمخرج هشام النحاس. وانتظرته، وتأخر وصوله حتى انتهت مهمتي في "الهلال". ربما هو نفسه كتاب "ما وراء الصورة" الذي نشرتْه دار نهضة مصر بالقاهرة. وفي الفهرس بحثت عن فيلم "اللمبي" الذي عرض عام 2002، وتناوله الكثيرون باستخفاف واستعلاء، إلا هاشم النحاس. كتب في صحيفة "الحياة" اللندنية مقالاً يحنو على الفيلم الأكثر تعقيداً من واجهته الكوميدية الخادعة.


الجمهور والنقاد كلاهما يخطئ

أراحني تحليل هاشم النحاس لفيلم "اللمبي". طمأنني على أن عفوية حماسة الجمهور لا يصح تجاهلها، والقفز عليها باستسهال الاتهام الجاهز بتدني الذوق. الجمهور والنقاد كلاهما يخطئ. يُخدَع الجمهور بظواهر أدبية وفنية تستنفد أغراضها وتموت، ثم يصحح الوعي الفطري خطأه. والنقاد يعيدون النظر في أفلام تجاهلوها.

حنوّ هاشم النحاس انطلق من جسارة تتحدى تياراً ثقافياً يستهين بأفلام الكوميديا عموماً، كما استند إلى ابتعاده بمسافة عن السينما الروائية، فتجنّب أن يتخيل نفسه مخرجاً لهذا الفيلم الروائي أو ذاك. وأحد أخطاء النقد السينمائي والأدبي هو تجاهل المنجز الأدبي أو الفيلمي، وانشغال النقاد عنه بما كان يجب على صناعه أن يفعلوه. ينتقدون عملاً متخيّلاً.

أراحني تحليل هاشم النحاس لفيلم "اللمبي". طمأنني على أن عفوية حماسة الجمهور لا يصح تجاهلها، والقفز عليها باستسهال الاتهام الجاهز بتدني الذوق 

أخرج النحاس نحو أربعين فيلماً تسجيلياً، ومن إنجازاته تأسيس مهرجان الإسماعيلية الدولي للأفلام التسجيلية والقصيرة عام 1991. ولعل حساسية الإخراج الوثائقي تنزّه صاحبها عن الغيرة إذا تناول فيلماً روائياً، وتجعله قاضياً صافي الذهن، يتعامل مع الفيلم النهائي، لا عن تخيّله لمشروع الفيلم لو أخرجه. وما يميز فصول/مقالات كتاب "ما وراء الصورة" أنها تُقرأ باعتبارها نصوصاً، ولا تتوجه إلى مشاهدي الأفلام موضع التحليل. وفي المقدمة يسجل المؤلف أن يحيى حقي قال له: "لا تكتب وفي اعتبارك مَن شاهد الفيلم فقط، بل اكتب وفي ذهنك ـ أيضاًـ مَن لم يشاهد الفيلم بعد، وربما لن يشاهده أبداً". فجاءت الثمرة وجبةً معرفية ممتعة.

فيلم "سَلَطة بلدي"

شاهدت فيلم "سَلَطة بلدي" لنادية كامل، عام 2007 ولم أتعاطف معه. فصلتني عنه مسافة نفسية تجاوزها فيلم "انس بغداد" لسمير. كلاهما رحلة للقاء إسرائيليين في فلسطين. سمير تقصّى مصائر مثقفين شيوعيين عراقيين أُجبروا على الرحيل إلى فلسطين عام 1951. ونادية صورت حنين أمِّها نائلة كامل إلى أقاربها اليهود في فلسطين المحتلة. لفيلم "انس بغداد" قضية محددة، ولا يدعي بطولة، ولا يسعى إلى تسويغ زيارة المخرج العراقي المقيم في سويسرا. ويقع "سَلَطة بلدي" في ارتباكات. إذا كان يجادل بلقاء شقيْ العائلة، فهذا يتيحه بلد محايد، إيطاليا مثلاً وفيها بقية العائلة. أما الذهاب إلى إسرائيل، بتصريح خاص من سلطة الاحتلال، فماذا يُسمى؟

الجمهور والنقاد كلاهما يخطئ. يُخدع الجمهور بظواهر أدبية وفنية تستنفد أغراضها وتموت، ثم يصحح الوعي الفطري خطأه، والنقاد يعيدون النظر في أفلام تجاهلوها

أتعاطف مع الأم، وهي تحكي لحفيدها طرفاً من سيرتها. أحبت الشاب "سعد كامل"، وحذرها أهلها المسيحيون من إساءة المسلمين معاملة النساء. وثقت بالشاب وتزوجا. ثم أسلمت، وخاضا نضالاً ضمن الحركة الماركسية. وفي الفيلم بدا سعد كامل مثيراً للشفقة، كأنه لا يعي ما حوله، ولا طبيعة رحلة سيرافق فيها زوجته. كأن تاريخاً يُهدر. كأن الأقارب الإسرائيليين لا يقيمون في بيت أُجبر أصحابه الفلسطينيون على مغادرته، ويرفض الاحتلال "حق العودة". لا كلام عن "فلسطين"، فنكون أمام "سَلَـطة" يدل عليها قول راندا شعث، في الفيلم، إنه لا يهم أن تحمل الدولة المنشودة اسم "بطيخ". تعجّلتْ. ولا أعرف لهذه البلاد اسماً آخر إلا فلسطين.

شبيه بسَلَـطة الفيلم موقفٌ مائع لمحمد البرادعي. هل يحتاج إلى التذكير بإسرائيل كمشروع عنصري استئصالي إحلالي؟ حضر ملتقى "ريشموند" بالولايات المتحدة، في أبريل/نيسان 2017، وفاضت سعادته في صور مع رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إيهود باراك، مجرم الحرب الذي تخفى في زيّ امرأة عام 1973 وقتل ثلاثة من قادة المقاومة في بيروت. البرادعي لا يسمي الأشياء بأسمائها، فلا تكون 1948 نكبة، بل ضلالاً عن أن "نكون عادلين وموضوعيين سبعين سنة". لا إشارة إلى تهجير شعب، واستنبات جيش ينسف القرى، لاستقدام "شعب" لا علاقة له بفلسطين، لأنه يهودي. وقال: "الحرب والعنف ليسا حلاً".

أرفض الاتهام المجاني بالتطبيع. لا شيء قاطعاً في فنون تحتمل وجهات نظر، ويتداخل فيها الخطأ والصواب. توجد مساحات من الظلال والضلال، لا شيء قاطعاً  ولا بريئاً. والفنون يعيبها الوعظ وخشونة الأفكار، وتثقلها الرسائل. لكن هذا كلّه موجود، بل إن مصر بجلال قدرها جنّدت صحافيين حكوميين لاغتيال فيلم "ريش"، ولا فرصة لعرضه. كما لا تحتمل فيلم "آخر أيام المدينة"، وتركته نهباً لألاعيب رقابية مراوغة لا تجرؤ على التصريح بعرضه، منذ عام 2016، ولا تصدر قراراً صريحاً يمنع عرضه، بسبب مشهد يتردد في خلفيته هتاف "يسقط حكم العسكر"، في فيلم تدور أحداثه قبل خلع حسني مبارك. فهل يبرأ فيلم من هموم ورسائل؟

أحد أخطاء النقد السينمائي والأدبي هو تجاهل المنجز الأدبي أو الفيلمي، وانشغال النقاد عنه بما كان يجب على صناعه أن يفعلوه. فينتقدون عملا متخيّلا 

للفنان حرية مطلقة في اختيار قضاياه، وشجون الأسرة في فيلم "سَلَطة بلدي" تشبه هموماً عائلية لمخرجين في أفلام منها "الأوديسا العراقية" لسمير الذي تقصّى عائلته في العراق وبريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة ونيوزيلندا وغيرها. ومن زاوية النظر الأسرية هذه لا تحتاج نادية كامل إلى دفاع هاشم النحاس الذي يقول إن هدف الفيلم لم يكن "أن تشغلنا بهموم أسرتها الخاصة الاستثنائية. ولكن الموضوع كشف بقصد أو بدون قصد، عن جانب من جوانب أزمة الوجود الإنساني". وللمخرجة أن تشغلنا بهموم أسرتها، ولا ترجع مشكلة تلقي الفيلم، كما يرى النحاس، إلى ساسة ورجال دين "يمزقون العلاقة بين الإنسان وأخيه الإنسان". الثنائية هنا: محتلٌ وطريد.

مشكلة الفواصل بين البشر

وقبل إنهاء مقاله بصدمة الفيلم لأصحاب "الأفكار المعلبة سابقة التجهيز"، يعيد المؤلف جملته بصيغة مفصلة: "المشكلة هنا ليست مشكلة زيارة أو تطبيع وإنما هي كما تبدو لي من تفاصيل الفيلم، مشكلة الفواصل بين البشر التي يخلقها رجال الدولة ورجال الدين. وهي مشكلة لا حل لها لأنه لا خلاص من الدولة أو من رجال الدين. الفيلم يرصد هذه المشكلة ويشير إلى المأساة الوجودية الإنسانية التي يعاني منها الإنسان ويستحيل الخلاص منها. واختيار الزيارة إلى إسرائيل كان اختياراً نموذجياً حيث يمثل وجود إسرائيل في ذاته نموذجاً لقهر الفرد تحت ضغوط وأوهام السلطة الدينية والسياسية". لم يُصنع الفيلم لتعزية الأسرة. وتجاهُل الاحتلال غفلة.

تبتعد الأفلام عن السياسة فتنجو من المباشرة، وتصير أكثر إنسانية وإخلاصاً للفن. ونقد المخرج للأفلام يعنى بالصورة أكثر من الأفكار. يتوقف النحاس أمام لوحات لا تغادر الذاكرة في فيلم "الخبز الحافي" للجزائري رشيد بلحاج، عن سيرة محمد شكري. تقع قارورة اللبن، ويسجد الصبي محاولاً لعق الحليب؛ فيدمي الزجاج فمه، ويحاول لعقه مرة أخرى في لقطة متوسطة، فيشكل المشهد لوحة تجسّد وخْز الجوع. ومن عمل روائي ينتقل إلى أفلام سعيد مرزوق القصيرة. لا أعرف منها إلا "أغنية الموت" بطولة فاتن حمامة. وسبقه فيلمان عامي 1967 و1969. عناية مرزوق بجماليات االصورة إرهاص بفيلمه الروائي الأول "زوجتي والكلب" (1971). يُحكى بالصور لا الكلمات.

الأفلام التي يحبها النحاس

يكتب النحاس عن الأفلام التي يحبها. وفي المقدمة قال إنه يؤْثر تناول الأعمال التي تثير إعجابه، ويرى فيها جديداً يفيد القراء، ويعمّق وعيهم بالفيلم. وعلى الرغم من شهرته كمخرج تسجيلي، فإنه بدأ مؤلفاً، ونشر كتابه الأول "يوميات فيلم" عام 1967، عن تفاصيل ويوميات إنتاج فيلم "القاهرة 30" الذي أخرجه صلاح أبو سيف عام 1966 عن رواية "القاهرة الجديدة" لمحفوظ. ولعل كتاب النحاس "نجيب محفوظ على الشاشة" عام 1975 أول كتاب عن أفلام محفوظ. وأتبعه النحاس بكتب أخرى منها "نجيب محفوظ في السينما المصرية"، و"نجيب محفوظ.. ضميرنا الباقي". ويتضمن الكتاب الأخير سيناريو وحوار فيلم "نجيب محفوظ ضمير عصره"، ومدته 31 دقيقة.

مصر بجلال قدرها جنّدت صحافيين حكوميين لاغتيال فيلم "ريش"، ولم تحتمل فيلم "آخر أيام المدينة"، وتركته نهباً لألاعيب رقابية مراوغة منذ عام 2016، بسبب مشهد يتردد في خلفيته هتاف "يسقط حكم العسكر"

هذا الفيلم أخرجه النحاس بعد فوز محفوظ بجائزة نوبل عام 1988، والتصوير لمحمود عبد السميع والإنتاج لعلي بدرخان. والنسخة المتاحة غير جيدة، وتحتاج إلى ترميم، وهذا فوق طاقة الأفراد، والدولة رفعت يدها عن الثقافة والفنون منذ سنين. هذا الفيلم سجل ليوميات محفوظ، وجولته على قدميه من بيته إلى مقهى علي بابا التي كانت تطل على ميدان التحرير، وفي صحيفة الأهرام. كما يعد بانوراما لأعماله، على خلفية قراءة الممثل نور الشريف لمقاطع دالة من رواية "أولاد حارتنا". وفي الفيلم سألته صحافية لبنانية عن أحلامه التي لم تتحقق، فقال إنها كثيرة، بداية بأمنيته وهو صغير أن يكون سائق تروماي، "وما أمكنش"، ويضحك.

أنتهي من كتاب "ما وراء الصورة" فيتأكد لي، بعيني مؤلفه، أن وراء الصورة ما وراءها. وأخطط لإعادة مشاهدة الأفلام التي قام بتحليلها، مستبعداً ما أظن أن لحظة الكتابة فرضته من مشاعر شخصية، مثل وصفه وحيد حامد بأنه عميد كتاب السينما المصرية، والربط بين دور محمود عبد العزيز في فيلم "إبراهيم الأبيض" ومارلون براندو في "الأب الروحي".

سأبحث أيضاً عن كتابه "السينما الشابة"، لعلّي أجد فيه دراسته عن فيلم "اللمبي" الذي لم يبخل عليه هنا بجملة، في نهاية مقاله عن فيلم "الفرح"، إذ قوبل الفيلم "بعاصفة من الاستهجان من معظم النقاد بينما رأيتُ فيه من مواطن الإبداع ما كتبتُ عنه وقتها". نقد هاشم النحاس للأفلام هو كتابة مشهدية، هنيئاً لمن يمتلك هذا القدر من المحبة والحنان.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image