شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
هات حقيبتك ولنتوغّل في الغابة... مغربيات عاشقات للترحال

هات حقيبتك ولنتوغّل في الغابة... مغربيات عاشقات للترحال

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رود تريب

الثلاثاء 28 فبراير 202306:52 م

كان يُعتقد لزمن طويل، ظُلماً ربّما، أنّ الذّهاب في رحلات إلى الطّبيعة مهمّة ذكوريّة بحتة، تستدعي قدراً من القوّة البدنية والشّجاعة النفسيّة، لكنّ آثار الأقدام 'الموشومة' على سطح الجبال والواحات والصحاري، صارت تتضمّن توقيعاً أنثويّاً جديراً بالاعتراف في عوالم الترحال.

ييدو أنّ المغربيّات الممارسات للرياضة عازماتٌ على رفع التحدّي، وهو ما تبيّنه "الفورة الرقميّة" التي أتاحت لهؤلاء النّساء مُشاركة تجربتهنّ في اختراق المُتواري والمَخفي والمُمتنع داخل أكوان الطّبيعة من غابات ووديان وصحاري وجبال في المملكة.

لكن ما الذي تخفيه الطبيعة للإناث المغربيّات وغيرهنّ؟ وهل صار المغربُ بلداً آمناً تستطيع الأنثى الانتشاء بذاتها كليّاً فيه وهي تتوغّل في فضاءات خصبة؟

الطّبيعة بألسن "نسويّة"

حين نتحدث مع الرحّالة إكرام كوحل (24 سنةً)، المتحدّرة من مدينة أكادير المغربيّة، تشدّد منذ البداية على نقطة تكتسي أهميةً بالغةً بالنسبة إليها، وهي أنّ "الترحال ساهم بشكل كبير في تقوية شخصيّتها نظراً إلى ما يتضمنه من اعتماد مباشر على النّفس".

توضّح كوحل، في حديثها إلى رصيف22، أنّها تمارس التّرحال منذ أكثر من خمس سنوات، قائلةً: في البداية، وجدتُ صعوبات جمّةً في إقناع العائلة بأن أسافر وحيدةً، وأن أكون في مأوى أو فندق، بل في عراء الطبيعة أفترشُ خيمةً وأتخذ منها غطاءً. كان الأمر عبارةً عن معركة ماحقة خضتها مع العائلة لأقنعهم بالفكرة، لكني نجحتُ في النهاية.

ما الذي تخفيه الطبيعة للإناث المغربيّات وغيرهنّ؟ وهل صار المغربُ بلداً آمناً تستطيع الأنثى الانتشاء بذاتها كليّاً فيه وهي تتوغّل في فضاءات خصبة مترحلة بين الغابات والوديان والجبال والصحارى؟

لكن ما هي حكاية التّجربة الأولى؟ تجيبنا إكرام بأنّها كانت "عبارةً عن شرود تام، وتلك طبيعة المرّات الأولى في كل شيء، بيد أني تعلّمتُ من خلالها كيف أحكي القصص، وكيف أتحدّث مع الناس الذين يرافقونني في الرّحلة. كما عرفت أيضاً تفاصيل صغيرةً، منها أنه ليس كلّ من في الرحلة أهلاً لعمليّة تبادل حديث ممكنة".

فاطمة الزهراء الوادي

الترحال، وفق المتحدثة، "يُعلّم الفتاة كيف تُخضع طقوسها لحالة من الصفاء. هذا يجعل الرحلة نظيفةً، هادئةً وآمنةً".  وتضيف: "هناك من يحاول أن يستولي على طعامك أو ليترات الماء العذب التي معك بالحيلة. وبما أنّك في الخلاء، فذلك معناه التضوّر جوعاً أو الموت عطشاً، لو سلمت ما لديك من مؤونة. الترحال علّمني مواجهة ذلك، وكيف أقول 'لا'، بصدر رحب، وبلا أيّ إمكانية للتفاوض".

تجربة تلو الأخرى، تلقّنت ابنة أكادير فنّ التّعامل مع الأخطاء، و"صارت المخاوف تذوب. حينها يحصل التّعرف على الذات تلقائيّاً. تصبح في النهاية شخصاً لا يُهادن الحقيقة، وصريحاً بشكل إستراتيجيّ حمايةً لنفسك، ولمصالحك أولاً".

مغامرة الترحال داخل أفق نسائي أكثر تعبيراً، لأنها تجربة ليست متاحةً للكلّ، فليست كلّ امرأة مثلنا مستعدّةً لعيش جُنون المغامرة

وأمّا الرحالة إيمان العيماني (22 سنةً)، من الدار البيضاء، فتعود بالزمن إلى الوراء، وتقول إنها ذهبت إلى منطقة شماعلة في الشمال مرّةً، ثمّ إلى منطقة الجبهة وبادس نواحي الحسيمة مرّةً أخرى. كان عمرها 20 سنةً، حين عاشت أول تجربة لها مع الترحال، أي قبل سنتين.

تعود إيمان إلى تفاصيل تجربتها الأولى، ثمّ تخلص قائلةً في حديثها إلى رصيف22: كانت تجربةً رائعةً واستثنائيةً جداً. تمشّينا لكيلومترات عديدة محمّلين بالعديد من الكيلوغرامات فوق ظهورنا. أشعرني ذلك بقوّتي كأنثى، وبمدى قدرتي على التحمّل والصبر، وجعلني أتغلّب على ثلّة من الصّور النمطيّة العالقة. راجعت نفسي في كلّ رحلة، وخرجت منها منتصرةً على كلّ خساراتي. المغامرة داخل أفق نسائي أكثر تعبيراً، لأنها تجربة ليست متاحةً للكلّ، فليست كلّ امرأة مثلنا مستعدّةً لعيش جُنون المغامرة.

إيمان التي تصرّ على أن تستحضرّ كل ما يعتمل في جوفها من شعور، لا تفوّت الحديث عن قيمة النوم داخل الخيمة، الذي علّمها معنى المأوى ومعنى السكن ومعنى العمران، بحيث تصبح في الطبيعة أكثر حيويةً وديناميةً، بما أنها مطالَبة بطهي طعامها وجلب الخشب ومختلف الأنشطة المتعبة بدنيّاً في الطبيعة.

هواجس الأمن والترحال

قد نتساءل ببراءة: هل يمكن للفتاة أن تمارس الترحال في أمان كلّي؟ أو هل نضج المجتمع بما يكفي ليفهم قرارات هذه الأنثى، ولئلا يُخضع اختياراتها للتّنميط؟

تجيبنا إيمان العيماني، قائلةً: تُنصحُ كل فتاة شغوفة بذلك بأنّ تجرّب، لكنّ ثمّة عدّة ضرورية وجب التسلّح بها قبل التفكير في الأمر، وهي الثقة بالمرافقين، ولا يُستحسن حاليّاً أن تذهب فتاة مع ولد وحدهما أو تذهب فتاتان وحدهما أو حتى شابان معاً فقط، لأن الأمر ما زال يشكّل خطورةً معروفةً. الوجهات آمنة كليّاً، بيد أن ما شجعني أكثر هو أنني غالباً ما أكون بصحبة أخي في كل رحلة، ووالداي قَبِلا بذهابي بارتياح شديد لهذا السبب".

فاطمة الزهراء الوادي

"هي مغامرة مبهرة تسكن فيك دائماً. ولا أشعر بأي خوف كلّما جرّبتها"؛ هكذا تصف إيمان تجربتها، مبيّنةً أنّ "التجارب تختلف من فتاة إلى أخرى، فهناك نوع من البنات قد لا تستطيع الواحدة منه أن تغفو مثلاً في خلاءات الطّبيعة، لكن التجارب تختلف والأصل أنه ينبغي أن نتغلّب على ذلك الضعف الكامن فينا. الآن لديّ تصور آخر عن الترحال، فأنا أفضّله بعربة رباعية الدفع، وأن أنصب خيمةً فوقها. لديّ شغف لتجريب ذلك، وسأجرّبه يوماً ما بكلّ تأكيد".

الرحالة المغربيّة فاطمة الزهراء الوادي (28 سنةً)، من الرباط، ترى أنّ "التريب" (Trip)، ليس فعلاً آمناً تماماً بالنسبة للنساء المغربيّات، خصوصًا أنّه في السنوات الأخيرة تغيّرت روح الترحال. كما أنّ الفتاة يمكنُ أن تتعرّض للتحرش من طرف المرافقين أو حتى التّنمر والسّخرية.

الترحال يعلمك أن من على وجهه علامات جرح غائر مثلاً ليس بالضرورة مجرماً أو شخصاً خطراً، وأن الذين يدخّنون ويشربون ليسوا أناساً سيئين بالمطلق"

لهذا تعود الرحّالة إكرام كوحل، لتوضّح أنّ "الفتاة لا يجب أن تذهب إلى الطّبيعة وحدها، وعليها أن تختار الصديق قبل خوض غمار الطريق. على المجموعة التي تودّ الذهاب معها أن تكون غاصّةً بالأشخاص المستعدّين لعيش تجربة الترحال في الطبيعة، وليس شيئاً آخر، أقصد أن يكون الجميع متّسمين بالاحترام والتقدير، ومسألة أن تفرض الفتاة شخصيّتها خلال الرحلة، ليست مزحةً بل ضرورة تكتيكيّة ملحّة.

كوحل تفيد بأنّه "ليس هناك أمان مطلقٌ في الترحال، فالعديد من الأمور المرعبة حدثت، بشكل قد دفع العديدات ممّن أعرف للعدول تماماً عن فكرة التّرحال. هناك بعض الدَّوَاوِير (القرى)، التي توجد بالقرب من بعض نقاط الترحال المهمة، يهجم فيها السكان على الذين يبيتون في خيامهم ليلاً". تواصل المتحدثة قائلةً: "هذا خلق أزمةً نفسيّة للعديد من الفتيات، ومنهن من تعرّضت لنوبات خوف قاسية جراء ذلك. البعض يأتي بدافع السرقة، والبعض لأسباب ثقافية محضة، منها رفض تواجد الاختلاط بين الذكور والإناث في فضاء واحد، وداخل خيمة واحدة".

الترحال ليس آمناً تماماً بالنسبة للنساء المغربيّات، خصوصًا أنّه في السنوات الأخيرة تغيّرت روح الترحال. كما أنّ الفتاة يمكنُ أن تتعرّض للتحرش من طرف المرافقين أو حتى التّنمر والسّخرية

تنصحُ كوحل في نهاية حديثها كلّ فتاة تودّ الترحال بالذهاب إلى الأماكن المعروفة بالأمان، وهي كثيرة، بحيثُ يجب الذّهاب بدايةً إلى مخفر الشرطة أو الدرك والتّصريح بالصعود إلى الجبل أو النزول إلى "الضّاية" (البحيرة)، لنصب الخيمة لمدّة زمنية محددة. هذا يجعل الرحلة أكثر أماناً وأريحيةً للفتيات. في منطقة أم عزّة، مثلاً، صار معروفاً أنّ الترحال سيحتّم قطع "الضّاية" بالقوارب إلى الجانب الآخر، لأن الجهة المقابلة فيها دوار، وقد يزعجهم وجود رحّالة في تلك النقطة بالتحديد".

مدرسة الترحال

يقال في المجمل إنّ "التريب" مدرسة حقيقيّة في الصبر والتواصل، وهو ما تؤكده معظم الفتيات اللواتي تحدّثنا إليهن، بما أنه يمكن أن يحدث أي شيء في الطبيعة، لذلك الحلّ دائماً هو التّواصل، وهو الصبر، فما كل شيء يتمّ كما جرى التخطيط له حرفيّاً. لهذا يُنصحُ بأن تنتقي الفتاة الأشخاص الذين ستشعر معهم بالأمان، أي الذين سيعدّونها أمانةً نفيسةً.

هذا ما تقوله فاطمة الزهراء الوادي، انطلاقاً من تجربتها الطويلة في الترحال التي خوّلتها تعلم سحر الصّبر: "في كل مرة كنت أشعر بالإرهاق، لكني صرتُ أتغلب عليه مع الوقت، حتى حين يكون الجو ضدّنا، نقاتل لكي نصل إلى وجهتنا. كنا متساوين في ذلك ذكوراً وإناثاً".

لكن الوادي، تشدد على أنّ أكثر ما هي مدينة به للترحال، هو أنه علّمها ألا تصدر أحكاماً على الآخرين، و"أنّ من على وجهه علامات جرح غائر مثلاً ليس بالضرورة مجرماً أو شخصاً خطراً، وأن الذين يدخّنون ويشربون ليسوا أناساً سيئين بالمطلق".

إيمان العيماني

تقول الوادي: "صادفتُ كلّ أصناف النّاس في الرّحلات التي عشتُها. كنت أظن أن المعايير متوقّفة داخل محيطي الصغير، وأنها معايير تسري على الكلّ. لكن في الترحال تعلمت أنّ ما أراه صواباً ليس دائماً كذلك. كانت الطبيعة مُفجراً رائعاً للعديد من التّصورات الجديدة عن الحياة وعن النّاس وعن الذّات. الظروف جمعتني بأناس ليسوا كما قد نظنهم انطلاقاً من مظاهرهم أو سلوكياتهم، النقاشات تُبرز جوهر كلّ واحد ومعدنه".

تُجمل فاطمة الزهراء قصتها مع الترحال، قائلةً: من الصّدمات التي ظلّت عالقةً في ذهني، أننا ذهبنا ذات مرّة إلى أزمور، وتوجّهنا إلى شاطئ بحر "للا عيشة"، ووضعنا أغراضنا. كان ذلك في إطار نشاط منظّم من طرف الرحالة يُطلق عليه "صيف الحبّ" أو "summer love". لكن، فجأةً بعد منتصف اللّيل، داهم رجال الدّرك (قوة أمنية) مخيّمنا وأحرقوا الخيام، وبدأنا نهرُب وتركنا كل أغراضنا هناك. وحده هاتفي ومبلغ من المال ظلّا معي.

لا تنكر المتحدثة أن الخطأ يعود في الأصل إلى المنظمين الذين لم يحصلوا على ترخيص أساساً، لكنها تجد في المقابل أنّه "ليس ثمة مبرر لذلك العنف الفاحش. هناك من تعرض للضرب، وتاه كلّ فريق في اتجاه معيّن. أسعفني مبلغ المال كي أتوجه إلى الرباط في تلك الليلة. لكن منذ ذلك الحين وأنا أشعر بالصّدمة".

في النهاية، يظهرُ أنّ ثمّة إجماع، من طرف الرحّالة أنفسهم، على أنّ الترحال عبارة عن ورشة أصيلة لمحاكاة الطب النفسي من دون حاجة فعليّة إلى مقولات الأطباء، فوحدها الطبيعة كفيلة بعلاج ما أفسدته حياة المدن.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard
Popup Image