تتقاطع اليوميات مع الكثير من الأنشطة الفنية وغير الفنية الأخرى كفن الترسل أو العمود الصحفي، غير أن المتأمل في مدونة فن اليوميات عبر التاريخ وفي كل الأصقاع، سيكتشف صلة وثيقة بينه وبين أدب الرحلة، باعتبارهما تسجيلاً يومياً للتجربة الذاتية. وارتبطت أنشطة الرحالة بحراً وبراً بحمل الدفاتر، أوما سمي بكورديلو المسافر ودفاتر الطريق. غير أن الرحالة اختلفوا في كتابة تلك الرحلات وتلك التجارب، فبعضها جاء على نحو سردي استذكاري، خاضعة عناوين فصوله لتيمة التدوين، واتخذ بعضها الآخر شكل اليوميات، عندما اختار الرحالة تسجيل تجاربهم يوماً بيوم.
وقد تنوعت تلك الأعمال باختلاف دوافع الرحلة، فبعضها كانت دوافعه مهمات دبلوماسية سياسية، وبعضها استكشافية علمية، وبعضها ما كانت دوافعه سياحية، وبعضها الآخر حجّ إلى بقاع مقدسة، وبعضها إكراه كالنفي. وفي معظم هذه اليوميات/الرحلات يهيمن الجانب الجغرافي والطوبوغرافي والأنثروبولوجي عليها، حيث ينقل لنا الرحالة مشاهداتهم وملاحظاتهم عن الطبيعة والتضاريس والطقس والإنسان والحيوان، ضاربين موعداً مع الغريب والعجيب أحياناً، دون إهمالهم اكتشاف ذواتهم عبر تلك التجارب في الترحال الاختياري أو القسري.
وما يعنينا من هذه التجارب في مدونة الرحلة هي الرحلات التي جاءت على شكل يوميات أو اليوميات التي كتبت أثناء السفر. تَكتب صوفي بيجا ونيكولا مالاي في تقديمهما للقسم المتعلق بالأسفار في كتابهما الفني اليوميات الحميمة، رواية الحياة (2021): "يمكن أن تكون اليوميات أيضاً رفيقاً للمغامرة. في صفحاتها، مثل دفتر السجل، يروي البحارة أو المستكشفون، من منظور الحميمي، تفاصيل اكتشافاتهم. المسافر يضع ملاحظات حول طريقه، ومواجهاته، وتطوراته؛ لنفسه ولأقرانه، ولكن أيضاً للأجيال القادمة، خاصة إذا كان يعلم أنه قد لا يعود".
هاجس البحث عن الذات ومحاولة تطويرها والهرب من الفقر والحرب والمسؤوليات... كمال الرياحي يكتب عن يوميات الترحال وأدب الرحلة ودفاتر الطريق
السفر والترحال وتجديد الذات
يعتبر الروائي والمفكر الفرنسي جاك أتالي في كتابه الإنسان البدوي (2005) أن تاريخ الحياة برمته هو تاريخ بدوي قبل تاريخ الإنسان بفترة طويلة، وأن "الإنسان ولد من السفر. يتشكل كل من جسده وعقله من البدو. فما يميز الإنسان أولاً وقبل كل شيء هو الجري وأنه ذو قدمين". غير أن عبارة الترحال، حسب رأيه، انحرفت فـ"الكلمة صارت عصرية اليوم، وتستخدم بشكل خاطئ لوصف البشر الأكثر تنوعاً: الشعوب الأولى، جامعو الأشياء، الصيادون، الرعاة، المزارعون المتجولون، الفرسان، المستوطنون، البحارة، الحُجّاج، المشعوذون، التروبادور، الصحابة، القراصنة، المتسوّلون، المنفيون، المهمّشون، التجار، المستكشفون، العمال الموسميون، المشرّدون، البقر والأولاد والعمال المهاجرون واللاجئون السياسيون والدعاة والمسافرون والفنانون والهيبيون والمديرون التنفيذيون العصريون وحتى السياح وعشاق ألعاب الفيديو والهواتف المحمولة ومستخدمي الإنترنت. إنهم ليسوا جميعاً من البدو الرحل: فهم لا يسافرون دائماً بجميع ممتلكاتهم. لكن الجميع يتشاركون في الأخلاق والثقافة البدوية: السفر هو جوهر وجودهم".
واعتبر صاحب معجم القرن الحادي والعشرين أننا مع قرن الترحال بامتياز فـ"نحن سندخل عالم سيشهد أكثر فأكثر حياة الترحال. بحيث سيكون في أعلى الهرم بعض عشرات الملايين من الأغنياء، سيعيشون حياة الترحال للتمتع بالذهاب أين ما شاؤوا في العالم. وفي أسفل الهرم بعض مليارات من البشر سيعيشون حياة البدو الرحل بحثاً عن الطعام، بالتنقل من الريف إلى المدينة، ومن مدينة إلى أخرى، وأغلب هذه التنقلات ستكون داخل بلدان الجنوب، ومن الجنوب إلى الشمال كذلك.
وفي وسط الهرم طبقة متوسطة ستكون محدودة أكثر، والتي ستعيش حياة الترحال الافتراضية على أمل اللحاق بأعلى الهرم وعيش حياة ترحال الأغنياء، وخوفاً من السقوط أسفل الهرم وعيش حياة ترحال الفقراء، وكل هذا الترحال الافتراضي ستعيشه هذه الطبقة المتوسطة من خلال الشبكات الاجتماعية (فيسبوك وغيره) التي ستعرض فيها مشاهد لحياة ترحال الأغنياء في أعلى الهرم، وحياة ترحال الفقراء في أسفل الهرم".
وتوسع جاك أتالي في أنماط البداوة، من المتشردين والمهاجرين والهائمين على وجوههم والمبدعين المغامرين والكفاءات العلمية والفنية والرياضيين والسياح، إلى اللاجئين حتى البدوي الرقمي أو الافتراضي الذي عوض الجمال والخيام بمواقع التواصل الاجتماعي. كل هؤلاء أيضاً سجلوا ومازالوا يسجلون تجاربهم أينما ولوا وجوههم، إما في دفاتر أو في حواسيبهم أو عبر المساحات التي تطرحها وسائل التواصل الاجتماعي، فيسبوك وتويتر وانستغرام... إما بالكتابة أو بالصورة الفوتوغرافية الثابتة والسيلفي والستوري أو عبر الفيديوهات.
إن هذا الجنون بالترحال دافعه هاجس البحث عن الذات ومحاولة تطويرها أو الهرب من الفقر أو من الحرب أو من المسؤوليات. وهي مغامرات مهما كانت درجة استغراقها الزمني هي محاولة للتجدد. ذلك التجدد الذي ربطه الناقد المغربي عبد الفتاح كيليطو، بالغروب والتغرّب، عندما قال في كتابه الأدب والغرابة (1997): "إذا أراد المرء أن يتجدد فما عليه إلا أن يغرب، أن يبدل مقامه، أن يغرب كما تغرب الشمس. على أن غروب الشمس ليس ضياعها وانعدامها: إنها تشرق على قوم آخرين يُسرّون بمقدمها عليهم، ثم تعود من جديد إلى القوم الذين غربت عنهم. المغترب يتجدّد بانتقاله إلى مكان غير مألوف لأنه في هذه الحالة يستعير ثوباً جديداً يجعله يبدو في منظر غير معهود. فالثوب يُبلى من كثرة لبوسه وما على المرء إلا أن يبادر إلى تبديله بثوب آخر.".
يذكرنا الناقدان فيليب لوجون وكاترين بوغارت أن الرحلة هي واحدة من أكثر الأمور إغواءً وانفتاحاً، وتكاد الكتابة تصاحب هذه الفترات المحفزة المحدودة في الزمان والمكان، والتي تبدو أكثر أهمية من الحياة اليومية العابرة. ويشيران إلى ما اعتبراه "آثاراً" لتلك الرحلات، فنحن نشرك أقاربنا في تجربة السفر من خلال الرسائل والبطاقات البريدية، الرسومات، الصور الفوتوغرافية والأفلام. فنحن دون أن نعلم نسجل يومياتنا في تجربة السفر عبر تلك الأنشطة والمشاركات ونقلها للآخر.
رحلة أندريه جيد إلى شمال أفريقيا 1896
زار الكاتب الفرنسي أندريه جيد شمال أفريقيا مرات كثيرة، بعضها صحبة صديقه بول ألبرت لورينز، ومرة مع زوجته مادلين، حيث قضى شهر العسل 1895-1896. كانت أول رحلة سنة 1893، غير أن رحلة 1896 مثلت رحلة استثنائية كان لها كبير الأثر على حياة جيد النفسية والأدبية، ورغم أنه سجلها في هذه الرحلة، فإنه عاد إليها أكثر من مرة في يوميات الأخرى.
وقد رصد فيها أندريه جيد عالم الأصوات والموسيقى والمسارح الشعبية وحال المدن وتغيرها وأنواع الأطعمة المغاربية، وقد توقف كثيراً عند عالم الصحراء من خلال تجربته مع الصحراء الجزائرية وحياة البدو.
ويعتبر جيد رحالة كبير وخاصة في أفريقيا، حتى أن أحد الباحثين وضع بحثاً جامعياً بعنوان "جيد الأفريقي" تقصى فيه رحلات جيد نحو الكونجو والتشاد. غير الرحالة أنه هام بمحبة تونس وسحر بجمالها ليستمر في زيارتها حتى آخر حياته.
أهدت لنا الحركة الدبلوماسية للسفراء والبعثات مدونة كبيرة من اليوميات... كمال الرياحي يكتب عن يوميات السفر والترحال وتجديد الذات
أندريه جيد وحب تونس
يكتب مرسال تورنياي: "قبل أن يستقر في سيدي بو سعيد، كتب أندريه جيد على الصفحة العلوية لنسخة من (رحلة إلى الكونغو) هذا الاعتراف:
كانت تونس هي المكان الذي أجريت فيه أول اتصال مع الأرض الأفريقية. قبل خمسين عاماً. لقد جذبتني القارة الشاسعة المليئة بالغموض والوحشية منذ شبابي. كان بول ألبرت لورنس، الرفيق الأخوي لنوع من التنشئة، كان له تأثير عميق علي. لقد عدت إلى تونس بعد ذلك في أغلب الأحيان، ولم أتخيل أنني أستطيع أن أجد في أي بلد أكثر جمالاً أو أكثر إغراءً؛ حريص على إحياء ذكرياتي الأولى ودعوة الآخرين لمشاركة سعادتي. هكذا، بمجرد أن تزوجت، أخذت زوجتي هناك؛ ثم مع كل رحلة جديدة لأفريقيا، كنت أطوع رفيقاً:
غويون، جيفت لاست، اليزابيث هاربارت، بيار هاربارت، مارك أليغريت. مع هذا الأخير، مارك أليغرت قمت برحلة إلى الكونغو، وهنا سردها الأمين.
أجد نفسي في تونس اليوم، ويسعدني أن أرسم هذه الخطوط على هذا المجلد، والذي آمل أن يكون تعبيراً عن امتناني لتونس نفسها وللأصدقاء الساحرين الذين يتآمرون لإسعادي هناك". تونس، يونيو 1942.
في هذه الرحلة إلى شمال أفريقيا، لم يكن حضور تونس إلا في صفحات عند بداية الرحلة وعند العودة، بينما استحوذت الجزائر على الرحلة كلها؛ بسكرة والبليدة وتُقرْت والجزائر العاصمة، مسيلة، بوسعادة، غير أن النصوص القليلة التي كتبها عن تونس كانت مهمة جداً في رصد التحوّلات الطوبوغرافية وحياة الناس. وكانت الأيام التي قضاها بين مارس وأبريل 1896 ممتعة وثرية في رصد علاقة التونسيين ببعضهم وعلاقتهم بالأجانب في المحلات والأحياء الشعبية، كحي الحلفاوين و"رحبة الغنم" ونهج "المر". واستوقفت أندريه جيد طقوس شهر رمضان في تونس وظاهرة الكاراكوز، وهو نوع من العروض الكوميدية الشعبية الساخرة، يقدم للأطفال كما الكبار، لكنه قد يحمل أيضا شحنات سياسية لذلك تحظره السلطة. فيحضر بعض عروضه، ويسأل عن أصوله وشيوعه في تونس ويخصص له يوم 7 مارس الذي يكتب فيه:
"أطفال صغار يشاهدون ذلك، يضحكون، يرددون حركات الكاراكوز البذيئة. إنها رياضة ذهنية صعبة: أن يمرنوا أنفسهم حتى يغدو ذلك طبيعياً. جمهور الأطفال، فقط الأطفال، معظمهم صغار جداً، ما رأيكم؟
الفرنسيون لا يذهبون إلى هناك. لا يعرفون كيف يصلون إلى هناك. إنها دكاكين صغيرة بلا طابع مميز؛ نتسلل إليها عبر باب واطئ. يذهب الفرنسيون بانتظام إلى الأماكن الفاخرة القريبة، المزدحمة للغاية والتي لا تجذب سوى السياح؛ يعرف العرب ما يفعلون، إنها أشياء بسيطة حقاً، فهذا حصان من كرتون، يرقص، وهذا جمل مصنوع من الخشب والنسيج، يرقص أيضاً، مضحك جداً حقاً، لكن بطريقة سوقية جداً. قريباً من هنا يوجد محل للكاراكوز تقليدي، كلاسيكي، بسيط، لا يمكن أن تجد محلاً أبسط منه، ينتج تعاقداً مسرحياً رائعاً، حيث يختبئ كاراكوز في منتصف المسرح، بينما اثنان من رجال الشرطة يبحثان عنه، هو لا يراهما ببساطة لأنه يخفض رأسه، فيتقبل الأطفال ذلك، يفهمون ويضحكون".
ما كتبه أندريه جيد في حب تونس يعدّ من أعظم اليوميات في التاريخ الأدبي... ينعطف على ذاته مصغياً لها ولنبض دواخله وحميمياته، مؤكدًا لنا أنّ داخل كل رحالة مهما اختلفت دوافع رحلته/خت، ابن بطوطة صغير، فضولي واستكشافي، يحلم بأرض جديدة
ثم ينطلق أندريه جيد في تعريفنا بالكاراكوز وأنواعه، بداية بالفضاء الذي يعرض فيه وأجواء العرض والجمهور الذي يستهدفه والطقوس الجماهيرية التي ترافقه، والتعليق عليها. يكتب: "كاراكوز – قاعة صغيرة طويلة، حانوت صغير خلال النهار، وفي المساء شعلة نشاط؛ خشبة صغيرة، مع ستارة قماشية شفافة، يتم إعدادها في الخلف من أجل إحداث الظلال. مقعدان على طول الجدران. هذه مقاعد الامتياز. يمتلئ وسط الغرفة بالأطفال الصغار جداً الذين يجلسون على الأرض متدافعين. نأكل نحن، كميات من بذور البطيخ المجففة بالملح، وهي طعام شهي استفزازي لدرجة أن جيبي يفرغ كل مساء، وقد ملأته في الصباح لشخصين. صحيح أنني أعطي منها للأطفال.
الشيء المضحك هنا هو هذه الأعشاش في الجدار، نوع من الأسرّة المزعجة للغاية، كأعشاش خطاف البحر، حيث تتسلق فقط بقوة ذراعيك والتي لا تنزل منها، من حيث تسقط، والتي يتم تأجيرها فقط طوال المساء للهواة الشباب. لقد عدت هنا في أمسيات كثيرة. كان، تقريباً، نفس الجمهور في نفس الأماكن، يستمعون إلى نفس الأغاني، ويضحكون في نفس الوضع مثلي.
كاراكوز – دكان آخر. سوداني. أين هم السودانيون. العرب لا يذهبون طوعاً. لذلك نرى هنا الأفارقة فقط. ولكني وجدت هذا المساء أيضاً صديقي ر ( فيدرو رزونبارغ).
لم يبدأ العرض بعد. (دائماً ما تكون فترات الاستراحة أطول بكثير من العرض؛ فالأخير لا يستمر ربع ساعة) يتلوى أفريقي أمام ر؛ يكاد يجلس عند أقدامنا، يغني مرتجلاً أغنية مأساوية رتيبة، يُقول فيها، بقدر ما أستطيع أن أفهم، أنه فقير جداً، وأن ر غني جداً وأن الأفارقة يحتاجون دائماً إلى المال. ولأنه بدا عنيفاً قليلاً، ولأن العرب يزعمون أنه لا يمكن الثقة طويلاً لا بالجمل ولا الأفريقي ولا الصحراء، فلم ننتظر طويلاً لنكون من المتصدّقين.
كاراكوز - محل آخر. هنا العرض ليس سوى ذريعة للقاءات. دائماً نفس العادات، ليلة بعد ليلة، تحت العين الخيرية للمالك. طفل بوسامة غريبة يعزف على مزمار القربة: يتجمع الناس حوله. الآخرون يتغزلون به. يعزف آخر على هذه الطبلة الغريبة على شكل مزهرية، قاعها مصنوع من جلد الحمير.
هو، عازف القربة، من يجلب الحظ للمقهى، ويبدو أنه يبتسم للجميع ولا يخص بابتسامته أحداً. ومنهم من يتلو عليه أبياتاً من الشعر فيغنيها، ويقترب، ولكن كل شيء محدود، على ما أعتقد، إلى عدد قليل من الهراء أمام الجميع؛ هذا المحل ليس ماخوراً بل ساحة حب. أحياناً ينهض أحدهم ويرقص، أحياناً اثنان؛ ثم تصبح الرقصة نوعاً من الإيماء الحر إلى حد ما".
ثم يأخذ أندريه جيد في رحلة للمعرفة والبحث عن أصول الظاهرة، فلا يكتفي الكاتب بالمشاهدة والملاحظة بل تتحول المشاهدات إلى محفزات للسؤال وفضول للاكتشاف والفهم فيكتب:
"يظل العرض، في الخارج كما هنا، دائماً فاحشاً تقريباً. أود أن أعرف تاريخ كاراكوز. لابد أنه قديم جداً. قيل لي إنه جاء من القسطنطينية وأن الشرطة تمنعه من صعود المسرح في أي مكان آخر غير القسطنطينية وتونس؛ لا يُشاهد إلا في أوقات رمضان".
وتعيده تلك الأجواء إلى خصوصية شهر رمضان بتونس، كيف يعيش أهلها هذا الشهر المقدس، فيكتب: "يستمر الصوم طيلة أربعين يوماً، من الشروق حتى المساء. صوم كامل، لا طعام، ولا شراب ولا تبغ ولا عطور ولا نساء. كل الحواس، حرمان بالنهار والليل، انتقام، ونحن نستمتع بقدر ما نستطيع. هناك أيضاً عرب متدينون جداً يقضون ليلة رمضان، بعد وجبة متقشفة جداً، في التأمل والصلاة. كما أن هناك آخرين يواصلون تسلية أنفسهم حتى في النهار؛ لكن هذا لا يحدث إلا في المدن الكبرى التي أفسدها الروم؛ غالبية العرب، تقريباً، يمارسون شعائرهم الدينية".
وتظل عين الرحالة المستكشف تطرح السؤال منطلقة من الأحداث والوقائع اليومية والظواهر، لتذهب إلى ما هو أعمق، كالتساؤل حول حقيقة مشاعر التونسيين اليوم من الفرنسيين باعتبارهم غزاة، بعد أن لفتت انتباهه تلك الموسيقى العسكرية الفرنسية التي مرت أمامه. إن طرح تلك الأسئلة تكتسب مشروعيته من خلال حداثة الاستعمار الفرنسي الذي لم تمر عليه سوى خمسة عشر سنة.
"في الليلة الماضية أردت أن أرى مرة أخرى، قبل أن أغادر، كل ما أظهرته لي تونس نادراً وغريباً. أتذكر أنني اتبعت هذه الموسيقى العسكرية لفترة طويلة حتى عادت إلى ثكنتها - مُطربة جداً ومتوازنة وجميلة وظافرة – بـ[...]. نادراً ما يبتعد بعض العرب من طريقها. بينما استمرت الموسيقى الصاخبة في مقاهيهم. يتذكر الكثيرون، على ما أعتقد، اليوم الذي دخلت فيه هذه الموسيقى، في انتصار، إلى مدينتهم المحتلة لأول مرة. كنت قلقاً لمعرفة ما إذا كانت أفكارهم لا تزال تحمل أي شيء آخر غير الكراهية للفرنسيين.
بحثت عن المتعة في شارع (المر). لكن تحسّرت على مقهى حيّ الحلفاوين، وهو مقهى عربي رحب جداً، وجميل جداً، لكنهم لا يقبلونا فيه إلا على مضض. الفرنسيون لا يأتون إلى هناك أبداً. صخب حيّ الحلفاوين يجذبهم: الأحياء الأخرى تبقى صامتة. بدأ أفريقي عجوز يرقص بشكل غريب على أنغام مزمار القربة، وإيقاع الطبل.
عدت إلى الحلفاوين عبر الجادات المظلمة. ليس هناك حشود كبيرة، لا شيء استثنائي. حوالي نهاية المساء، وجدت ر في نفس دكان الكاراكوز حيث اصطحبته في اليوم الأول. لقد أدرك أيضاً أهمية العودة بانتظام إلى نفس الفضاءات، لا لتعلم المزيد من الحيل، بل لإتقانها جيداً، وليس فقط لمشاهدة الناس وهم يمرون. العرب يعتادون عليك، فتبدو أقل غرابة عليهم، وعلى عاداتهم التي تبدو في البداية مضطربة".
يرتكز هذا المثال لليومية في يوميات السفر أساساً على المشاهدة، فهي يومية تستحوذ فيها العين على كل شيء، بنقلها لكل ما عاشته في الخارج، وفي المقابل ينحسر الصوت الداخلي ولا يكاد يظهر، فنحن مع راو يروي لنا وقائع يومه وليله، ونادراً ما يعود ليصف شأنه النفسي الداخلي، لأن غرابة الفضاء الجديد وحركيته لا تدع مجالاً للتأمل، إلا بقسط صغير يظهر في شكل تعليقات صغيرة عن الأحداث والمشاهد أو أسئلة فضولية.
عالم الرحلات زاخر بالعجيب والغريب والتلفيق أيضاً
ولأن عالم الرحلات زاخر بالعجيب والغريب والتلفيق أيضاً يمكننا أن نرصد بعض الأخطاء التي دوّنها أندريه جيد، مثل أن المسلمين يصومون أربعين يوماً في رمضان، حيث الشهر ثلاثين يوماً، وهنا نحسب أن أندريه جيد يخلط بين الصوم عند المسيحيين والصوم عند المسلمين، وتأتي هذه الأخطاء من تناقل المعلومة بشكل شفوي وعجز الذاكرة عن تسجيلها بدقة.
أما فيما يخص الكاراكوز فرغم محاولة أندريه جيد البحث عن أصول هذا الفن، إلا أنه لم يوله اهتماماً كبيراً أثناء متابعة العروض، ولم يخرج بنتائج رغم أن عروض الكاراكوز عادة لا تشترط لغة الكلام، بل تعتمد على الإيماءات وعلى الإشارات والحركات وردات الفعل الجسدي. والمرجح من وصفه لمشهد واحد من العرض أنه كان بمغازٍ سياسية من خلال شخصيتي الجندرمة في مواجهة الكاراكوز.
غير أن هذا لا يمكن أن يخفي عنا رغبة أندريه جيد في الانغماس مع الناس، بعيداً عن الفرنسيين أو القادمين من فرنسا للسياحة. وقد ظل أندريه جيد، في رحلته، وفياً لهذا القرب من أصحاب الأرض، سواء من التونسيين أو الجزائريين، مصراً على مجالستهم ومشاركتهم تقاليدهم وأكلهم وشرابهم وارتياد أماكنهم الخاصة، دكاكين وأحياء وحواري وساحات، على الرغم مما قد يشكّله ذلك القرب من خطر عليه.
كان أندريه جيد يحتفل بالإنساني في رحلته، ملمّحاً كل مرة إلى الطابع الاستعماري للتواجد الفرنسي وأثره على التونسيين والجزائريين، وكان مأخوذاً ببساطة الناس من ناحية، وبالطبيعة الأخاذة من ناحية أخرى. حتى نشأت عنده رغبة لترحيل تلك الطبيعة الرائعة، استعارياً، إلى مكان إقامته بفرنسا، لذلك حرص عند عودته إلى تونس من رحلته إلى الجزائر على البحث عن بعض النباتات والأزهار التي أراد أن يزرعها في حديقته.
يكتب يوم 28 ديسمبر: "لقد بحثنا عبثا، فوق تلة البلفيدير، عن السوسنات القصيرات، ذات اللون الأزرق الضارب بعذوبة إلى البنفسجي التي كانت أمس، بين قسنطينة وتونس، تصطف بكثرة على الطريق في بعض الأماكن. تلك السوسنات التي لا تستطيع قطافها!
كنت أرغب في أن أستنبت أحد جذورها في حديقتي، كما فعلت بهذا البصل الغريب الذي أحضرته من س والذي منذ سنتين وهو يعاند، ولم يدفع إلا بالأرواق".
ظلّ أندريه جيد في رحلته وفيّاً للقرب من أصحاب الأرض، سواء من التونسيين أو الجزائريين، كان يحتفل بالإنسان، ملمّحاً كل مرة إلى الطابع الاستعماري للتواجد الفرنسي وأثره عليهم
بدا أندريه جيد يفرّق جيداً بين اليومية في الرحلة واليومية في اليوميات، وهو الذي كتب أعظم اليوميات في التاريخ الأدبي. ففي اليوميات ينعطف على ذاته مصغياً لها ولنبض دواخله، جسده وقلبه وعقله وحميمياته، بينما في يومية الرحلة يطلق العنان للملاحظة وللعين الشبيهة بالكاميرا، التي تحاول أن تقبض على كل إيماءة من الآخر، الإنسان والحيوان والنبات والجماد. ونحسب أن إصرار أندريه جيد على اصطحاب الرسامين والمصورين والمخرجين السينمائيين معه في رحلاته ليس اختياراً اعتباطياً. تؤكد يوميات أندريه جيد أن داخل كل رحالة، مهما اختلفت دوافع رحلته، كريستوف كولومبس صغير، فضولي واستكشافي ويحلم بأرض جديدة.
إن هذه اليوميات الخاصة من دفاتر السفر مثلت مادة مهمة للمؤرخين وعلماء الأنثروبولوجيا والاجتماع ومؤرخي الأدب والجغرافيين وعلماء الفلك، كما مثلت مادة أساسية في كتابة سير الأعلام والمشاهير. وكانت وثائق أساسية للأعمال السينمائية والوثائقيات حول الأمصار والبلدان والشخصيات التاريخية.
ومن هنا تكتسب تلك اليوميات أهميتها باعتبارها مادة شاهدة على الحياة والانفعالات سجلت في لحظتها وإن شابتها بعض المبالغات والاختلاقات.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون