"استفدت كثيراً من الترحال "Trekking"، فأنا أعرف اليوم كيف أتدبّر أموري في الطبيعة، حتى من دون التوفر على جميع الأدوات والمعدات اللازمة. صرت أيضاً أتحدى نفسي جيداً من حيث الجوع والعطش وكثرة الحشرات، فلم أعد كثير التطلب في هذه الأمور"، يقول خليل، في حديث إلى رصيف22، واصفاً تجربته مع هذا النمط من السفر، الذي انتشر في السنوات الأخيرة في أوساط الشباب المغربي، ذكوراً وإناثاً.
خليل، الذي يتحدّر من مدينة أكادير، واحد من هؤلاء الشباب الذين يحبون الغوص في عالم الطبيعة الواسع وسبر أغواره بعيداً عن صخب المدن وضوضائها. تراهم يحملون حقائب ثقيلةً منتصبةً كالجبال فوق ظهورهم، تحوي معدات التخييم وزادَهم من المأكل والمشرب. لكن ذلك لا يمنعهم من خوض المغامرات والتحديات، التي تُعدّ شغفهم المشترك، وأسلوب حياتهم.
انفلات من القيود... واكتشاف
السفر ملاذ الكثيرين للتخلص من ضغوط الحياة، وإذا كان بعض الناس يختار سفراً مريحاً نحو مدينة سياحية للاستجمام، فإن ثمّة شباباً يتبنون نمطاً مغايراً وشاقاً يتمثل في الترحال أو ما يسمى "التريب" (Trip)، كما هو متداول، لمعانقة الطبيعة في المناطق المغربية النائية واختراق شرايينها، متحدّين كل الصعوبات والعقبات، فمعظم تنقلاتهم تكون مشياً على الأقدام.
"الترحال بالنسبة لي أسلوب حياة يجعلني أهرب من مجتمع مصطنع إلى عالم طبيعي لم يتدخل في صنعه إنسان، والانتقال من محيط ضيّق إلى عالم فسيح"، يقول توفيق، شاب من مدينة ورززات، في حديثه إلى رصيف22.
"الترحال بالنسبة لي أسلوب حياة يجعلني أهرب من مجتمع مصطنع إلى عالم طبيعي لم يتدخل في صنعه إنسان، والانتقال من محيط ضيّق إلى عالم فسيح"
أضاف توفيق، وهو من هواة الترحال، أن هذا الأخير ينقله من ضوضاء الشوارع إلى سكينة الطبيعة، حيث لا قيود ولا التزامات، مؤكداً: "إنه كوكب آخر بالنسبة لي، وهو الحب الأزلي، ولو بلغ مني الشّيب مبلغه، ومهما تقوّص ظهري، فسأحمل عصاي وأتوكأ عليها، ولن أخلف موعداً بيني وبين الترحال ما دمت أستطيع إليه سبيلاً".
من جهته، صرح خليل الذي يعمل أستاذاً أنه بدأ هذه المغامرة منذ عام 2015، وقال لرصيف22، بأنه يعشق الترحال، وسكون الطبيعة، والانعزال بعيداً عن التجمعات السكانية، وفي نظره، هي محاولة لتغيير نمط العيش الروتيني من أجل تجديد الطاقة، مشيراً في الوقت ذاته إلى أنها تشكل فرصةً لاكتشاف الطبيعة من قرب، والتعرف على نمط عيش سكان الدواوير وثقافتهم.
الأمر نفسه يؤكده نور الدين، إذ قال في حديث إلى رصيف22، إن السفر إلى الطبيعة له انعكاسات إيجابية على نفسيته ويصفّي ذهنه، ويُشعره بنوع من التحرر والاتصال بذاته في جو هادئ.
سفر بأقل التكاليف
عادةً ما يتطلب السفر إلى الوجهات السياحية المعروفة في المغرب، تكاليف ماليةً لا يستهان بها، لذلك يلجأ بعض الشباب إلى الترحال "التريب"، لأنه غير مكلف. في هذا الإطار رأى الشاب نور الدين، في حديثه إلى رصيف22، أن هذا النمط من السفر لا يكون مكلفاً أبداً، لأنهم يذهبون إلى أماكن أكثر بساطةً، وخالية من النشاط التجاري.
رأي يتشاطره خليل الذي يقول إن الرحلة لا تكلّف سوى 20 إلى 30 درهماً يومياً (3 دولارات تقريباً)، لافتاً إلى أنها قد تكلّف أقلّ من ذلك إذا ما عرف الشخص كيف يدبّر أمر مؤونته، خصوصاً إذا ما ساقته الأقدار نحو دواوير كريمة وسخية توفّر له بعض الطعام كنوع من الترحيب بالضيوف.
لا يقتصر الترحال على الشباب الذكور فحسب، بل هناك فتيات استهواهن الترحال أيضاً، ومن بينهن وجدان المتحدّرة من طنجة (شمال)، التي قالت لرصيف22، إنها اقتحمت هذا الميدان بمحض الصدفة وعشقته، و قد مكّنها من اكتشاف ذاتها أكثر وبناء شخصيتها.
وجدان في فترة راحة أمام خيمتها
بدورها، أكدت أن "التريب" مكلف في البداية فقط، إذ يتطلب شراء المعدات والأدوات الضرورية للتخييم قبل التفكير في خوض مغامرتك الأولى، لكن بعد ذلك لن تحتاج إلى الكثير من المال، على النقيض من السفر العادي.
أسّس عدد من هواة "التريب" صفحات ومجموعات خاصةً بهذا النشاط، حيث يتشاركون في ما بينهم تجاربهم ويقدمون نصائح حول المعدات ويقترحون أجمل المناطق، وينبهون بعضهم بعضاً إلى المخاطر المحتملة.
طبيعة مغرية ومتنوعة... ولكن!
يزخر المغرب بعددٍ من المناظر الطبيعية الخلابة والمتنوعة، من شلالات ووديان وجبال، تُعدّ وجهةً مثاليةً تجذب هواة الرحلات الاستكشافية وعشاق الخضرة والماء.
يهرع هؤلاء الرحالة إلى زيارة مجموعة من المناطق، كشلالات أوزود (جهة بني ملال)، أو أقشور (ضواحي شفشاون)، وينصبون خيامهم بمحاذاتها لقضاء أيام ممتعة وسط مجاري المياه والخضرة.
الصمود وتحدّي الذات، والتغلب على المخاوف، فضلاً عن التضحية والتعاون مع الآخرين، واحترام الطبيعة والبيئة، والقناعة وعدم تبذير الماء والطعام بصفة عامة قيم نتعلّمها من العودة إلى الطبيعة بالترحال
في هذا الخصوص، كشفت وجدان في حديثها إلى رصيف22، أن اكتشاف مناطق طبيعية جديدة في المغرب هو ما يجعل من الترحال تجربةً رائعةً وفريدةً.
لكن، في المقابل، لا تخلو هذه المغامرة من مخاطر، فحسب خليل، قد تواجه خلال الترحال أحياناً هجوم الخنازير البرية، أو لسعات العقارب والأفاعي والبعوض، والنمل والبرغوث. واسترسل قائلاً إن مخاطر هذه المغامرة لا تقف هنا، بل يُحتمل أن تسلك مسالك وعرةً قد تخرّب معداتك، وتصيبك بجروح، أو قد تودي بحياتك حتى، إذا لم تتخذ احتياطاتك، وكذلك شحّ الماء خلال المشي في بعض الأماكن.
نور الدين "على الطريق"
بالإضافة إلى ما ذكره خليل، يورد نور الدين، أنه قد يصاب الشخص في أثناء الرحلة بضربة شمس أو بنزلة أو بجروح، مما يستوجب التوفر على العدة الطبية المخصصة لذلك، ناهيك عن "الجريساج"، أي التعرض للسرقة من طرف لصوص، لكون المرتحل يقوم أحياناً بالمشي ليلاً لبلوغ النقطة المراد الوصول إليها لصعوبة الطريق نهاراً بسبب الحرارة المفرطة.
التريب أو الترحال يجعل منك شخصاً متفائلاً جداً يحركه فضول الاكتشاف، بالإضافة إلى لقاء أناس طيبين تتبادل معهم الأفكار
تضيف وجدان، في هذا السياق، أن الفتيات، إلى جانب العقبات وصعوبة الظروف الطبيعة، يتعرضن خلال رحلاتهن للمضايقات والتحرش والتنمر من طرف عدد من الشبان، مشددةً على أن بعض الناس لا يتقبلون فكرة قيام الفتاة برحلة كهذه، نظراً إلى الصور النمطية السائدة داخل المجتمع.
مدرسة للتعلم وفسحة للنقاش
انطلاقاً من تجاربهم، يجمع كل من خليل وتوفيق ونور الدين ووجدان على أن للترحال أو "التريب" فوائد جمةً، وتعلموا منه عدداً من القيم والدروس التي ساهمت في بناء شخصياتهم/ ن وتقويتها.
في هذا الجانب، قال توفيق في حديثه إلى رصيف22، إن الترحال مدرسة ستعلّمك الكثير من أول تجربة ستقرر خوضها بعيداً عن الروتين، الذي اعتدت عليه، كالصبر وقوة التحمّل، وكذا روح التحدي، والتضامن مع الأشخاص الذين سوف تصادفهم في الطريق أو حتى في المكان الذي ستحطّ فيه، مشيراً إلى أنك "ستتعلم أيضاً كيف تجعل من اللا شيء شيئاً".
على المنوال ذاته، تؤكد وجدان في حديثها إلى رصيف22، أنها تعلمت مجموعةً من الأشياء من "التريب" الذي بدأته قبل عامين من الآن، من بينها اكتساب الثقة في النفس وتطوير الذات، وكذا الاعتماد عليها في مواجهة مطبّات الحياة وصعابها من دون الحاجة إلى شخص للاستناد إليه، والاستعداد لمفاجآتها، مضيفةً أنها وجدت ذاتها في هذا النمط من السفر وتعرفت عليها أكثر.
خليل وهو يرتاح من تعب المشي لكيلومترات
الصمود وتحدّي الذات، والتغلب على المخاوف، فضلاً عن التضحية والتعاون مع الآخرين، واحترام الطبيعة والبيئة، والقناعة وعدم تبذير الماء والطعام بصفة عامة، كلها قيم إيجابية استمدّها خليل من تجاربه مع "التريب" وفق تعبيره، غير أنه أشار إلى أن ظروف العمل لا تسمح له بممارسته بشكل دوري، لذا فإنه يستثمر العطل المدرسية لهذا الشغف، خصوصاً العطلة الصيفية.
بدوره، يقول نور الدين، في سياق حديثه إلى رصيف22، إن فوائد "التريب" لا تُعدّ ولا تُحصى، إلا أنه يرى أن من أفضل إيجابياته أنه يجعل منك شخصاً متفائلاً جداً يحركه فضول الاكتشاف، بالإضافة إلى لقاء أناس طيبين تتبادل معهم الأفكار، وتتعرف على تقاليد مدن أخرى وأعرافها، وتنمو لديك ثقافة التعامل مع الناس.
"للحظة نجد أنفسنا مع الطبيعة في ظلمة الليل وصفاء السماء، والنجوم تراقبنا، حيث لا مجال للضجيج، ونناقش مواضيع مختلفةً بعمق، وكل الأذهان والأرواح تتجه صوب الشخص المتحدث، وفي كل تجربة ألتقي بالكثير من الناس والرحالة"، يختتم نور الدين حديثه.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومينمقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Ahmed Adel -
منذ 5 أياممقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ أسبوععزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...
نسرين الحميدي -
منذ اسبوعينلا اعتقد ان القانون وحقوق المرأة هو الحل لحماية المرأة من التعنيف بقدر الدعم النفسي للنساء للدفاع...
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعيناخيرا مقال مهم يمس هموم حقيقيه للإنسان العربي ، شكرا جزيلا للكاتبه.
mohamed amr -
منذ اسبوعينمقالة جميلة أوي