يقضي عبد الرزاق محمد نعيم (11 سنة)، جُلّ يومه في رعي قطيع أسرته المكون من عدة بقرات، بمضارب ولاية شمال كردفان، غربيِّ السودان.
شأنه شأن الملايين، لا يمارس عبد الرازق، المُكنّى بـ"رزقة"، مهنة الرعي بفترات إغلاق المدارس فحسب، إنما هي مهنته التي يمارسها طوال العام منذ بلوغه سن السادسة.
ويجيز القانون السوداني عمل الأطفال بقطاعيّ الرعي والزراعة، وفقاً لاشتراطات "نظرية" تضمن عدم حرمانهم من الدراسة، ولكن ذلك لا يتم عملياً، إذ تشير إحصائيات منظمة الأمم المتحدة للطفولة "يونسيف" إلى وجود قرابة ثلاثة ملايين طفل في السودان منخرطين في العمل لمساعدة ذويهم.
مهنة صعبة وأحلام صغيرة
يتحدث رزقة لرصيف22 عن ظروف عمله، قائلاً إن مهنته هي كل ما يستطيع تقديمه لمساعدة أسرته التي تتكون من أب أقعده المرض عن العمل، بعد بتر رجله اليمنى جراء مضاعفات ناجمة عن السكّري، وأم مستغرقة في تدبير المنزل بإمكانيات شحيحة، بجانب طفلتين أصغر من رزقة (9 و7 سنوات)، لا تستطيع الأم دفع تكاليف مصروفاتهن الدراسية، ولكنها تملك خططاً لتزويجهن مبكراً لتفرح بهن، حسب قولها: "بكرة نعرس لهن، وينسترن في بيوت وليانهن".
تشير إحصائيات اليونسيف إلى وجود قرابة ثلاثة ملايين طفل في السودان منخرطين في العمل.
وأدت ظروف العائل الصحية بجانب توقفه عن العمل، لتوقف الأسرة عن الترحال السنوي مع أهالي قريتهم الواقعة على مقربة من مدينة بارا، بقطعانهم من الأبقار، حتى الحدود مع دولة جنوب السودان في موسم الجدب، برحلة تعرف شعبياً باسم "النشوق".
وعليه، يواصل رزقة إفاداته الهاتفية بالقول إنه يخرج يومياً إلى مضارب القرية القريبة، في رحلةٍ تبدأ مع شروق الشمس وتنتهي عند المغيب، حاملاً زاداً يسيراً من الطعام، مكوناً في الغالب من رغيف يابس وزجاجة حليب أو زبادي منزلي الصنع، ومن ثم قيادة قطيعه المكون من خمس بقرات وكلب، أطلق عليهم جميعاً ألقاباً مضحكة، في ملمح لطفولته المسروقة.
تنحصر أحلام رزقة بحلول موسم أمطار ناجح، وأن يكبر هو، وأن يكبر قطيعه من الأبقار، ويتمكن من الترحال مع قومه جنوباً، حتى ينجح في بيع عدد مقدر من العجول بما يكفي لتوفير الدواء لوالده وتجنيب والدته العمل الشاق.
وتتضمّن أحلام الصغير كذلك، طبقاً للغته البسيطة، تحويل خيمتهم إلى منزل من الطوب الأحمر، وتزويدها ببئر ليتجنب مهمة تحميل المياه على بقراته لأغراض السقاية والاستخدامات المنزلية.
أما مخاوف رزقة فتتمثل كلها في اللصوص والنهّابين الذين سبق وسرقوا إحدى بقراته حين حاول التوغّل جنوباً، ولكنه مطمئن بقرب انتهاء هذا الوضع، إذ وعده والده بالسماح له بحمل بندقية من نوع كلاشينكوف كان يستخدمها للحماية، متى بلغ سن 14 عاماً.
وعما إذا كان يريد الالتحاق بالمدرسة، يقول رزقة إنه يريد أن يصبح تاجراً ثرياً، ولا يريد أن يتحول إلى "أفندي" ينتظر راتبه من الحكومة، الأمر الذي يعكس عدم الوعي بأهمية التعليم في قريته التي لا توجد بها سوى مدرسة وحيدة للمرحلة الأساسية، غرفها من مواد محلية الصنع، ولا يؤمها غالبية الأطفال، جراء عمليات الترحال المستمرة ولعدم قناعة الأهالي بجدوى التعليم.
تنحصر أحلام رزقة بحلول موسم أمطار ناجح، وأن يكبر هو، وأن يكبر قطيعه من الأبقار، ويتمكن من الترحال مع قومه جنوباً، حتى ينجح في بيع عدد مقدر من العجول بما يكفي لتوفير الدواء لوالده وتجنيب والدته العمل الشاق
المؤلم أكثر أن معظم الأطفال الرعاة يعملون عند ذويهم مجاناً، أو مقابل الحصول على غذائهم من المرعى، وفي الحالات القليلة التي يتحصلون فيها على مقابل مادي، فإن الأجر زهيد للغاية، لا يتخطى 300 جنيه في اليوم (أقل من 1 دولار)، علاوة على منح الطفل وجبة من مشتقات الحليب، وعدة أرطال منه في نهاية كل دوام.
القانون في خدمة العرف
الإشكالية الكبرى هنا هي موقف القانون السوداني الذي يشجّع عمالة الأطفال في المرعى والأعمال الزراعية، ولذلك تم استثناء ذلك القطاع بوضوح من قانون الطفل السوداني، المادة 36 التي تحظر عمل الأطفال من هم دون سن 14 عاماً.
مدافعاً عن هذا النص، يقول مسؤول بوزارة العمل بولاية شمال كردفان، تحدّث لرصيف22 شريطة حجب اسمه، بأن القانون ينظّم عمل الأطفال في القطاعات العامة المُشرف عليها من قبل السلطات، وفق اشتراطات تشمل عدم الحرمان من الدراسة أو أن يكون اشتغالهم مؤثراً على صحتهم العامة أو سلوكهم العام.
وأقرّ المسؤول بوجود صعوبات حقيقية في تجريم عمل الأطفال في قطاعي الزراعة والرعي، جراء الأعراف الاجتماعية التي لا تمانع مساعدة الأطفال لذويهم في الرعي والزراعة، وهما أكبر قطاعين للتوظيف بالبلاد. وقال إن إنهاء هذا الأمر يتطلب خطة حكومية كبيرة، تشمل مكافحة الفقر وإعطاء حوافز للأسر لحملها على قبول ذهاب أبنائها للمدارس.
ودعا المتحدث لتعميم نموذج مشروع "الغذاء مقابل التعليم"، الذي يتضمن منح مساعدات للأسر الفقيرة مقابل إرسال أبنائها للدراسة. وقال: "المشروع ساعد كثيراً في خفض عمالة الأطفال وزيادة التحاق الأطفال بالمدارس في شرق السودان، وهو ما نرجو تعميمه اليوم بغرب البلاد، خاصة مع الزيادة الكبيرة في معدلات الفقر، وتردي البيئات التعليمية، والقصور في الوصول بالتعليم إلى الرحل على وجه الخصوص".
الأطفال يدفعون فاتورة الحروب والنزوح
تشكو المدافعة عن حقوق الأطفال، تيسير الباقر، من تعرّض الأطفال السودانيين لسلسلة طويلة من الانتهاكات، تبدأ بتكليفهم بدفع فاتورة الحروب والنزوح ودفعهم للعمل، وصولاً لحرمانهم من الدراسة، في ظل غياب غطاء قانوني يحميهم.
وطالبت، في حديثها مع رصيف22، بإلغاء كافة القوانين التي تجوز عمل الأطفال تحت أي ذرائع، وقالت: "ليت القصور انحصر في هذا النص المعيب الذي يحدد عمر الطفل بأنه أقل من 14 عاماً وليس 18 عاماً، ويجوز عمل الصغار في الرعي والزراعة؛ بيد أنه وبكل أسف يمتدّ للسكوت على عمالة الأطفال في كافة المجالات سواء أكانت هامشية أو خطرة".
وتابعت بلهجة حادة: "من يزور سوقاً في السودان أو تجمّعاً مهنياً سيرى مجموعات مهولة من الأطفال العُمال، في جريمة يندى لها الجبين، خاصة إن قرأنا هذا الوضع مع كونه يتم في العادة أثناء ساعات دوام التلاميذ في المدارس، ما يجعل منه جريمة مركبة".
وحذرت الباقر من تنامي ظاهرة حمل الأطفال مؤخراً على تأدية مهام غير مشروعة، كالتجنيد في المليشيات المسلحة، التسوّل أو التنقيب عن الذهب، في بيئات صحراوية قاسية مع مجموعات من البالغين.
هناك صعوبات حقيقية في تجريم عمل الأطفال في قطاعي الزراعة والرعي، جراء الأعراف الاجتماعية التي لا تمانع مساعدة الأطفال لذويهم في هذين القطاعين، وإنهاء هذا الأمر يتطلب خطة حكومية كبيرة، تشمل مكافحة الفقر وإعطاء حوافز للأسر لحملها على قبول ذهاب أبنائها للمدارس
الكارثة في عمالة الأطفال في السودان إنها تتم في ظل صمت حكومي. هكذا تستهلّ ياسمين نور الدين، وهي محامية متخصصة في قضايا الأسرة والطفل، حديثها لرصيف22، مضيفة: "إن إصلاح قوانين الطفل كفيل بإغلاق كثير من أبواب الشرّ المشرعة حالياً".
المدهش، والحديث ما زال لياسمين، هو أنه "على الرغم من عملي في هذا المجال لأكثر من سبع سنوات، إلا أنني لم أتلق ولو شكوى واحدة ضد أرباب العمل بتهمة توظيف الأطفال، اللهم إلا في حالات تكوين العصابات والأنشطة غير المشروعة"، ولكنها في المقابل تتلقى عشرات القضايا ضد أشخاص يتعرّضون للأطفال في مناطق العمل بالاغتصاب، العنف والسرقة.
معركة تغيير قوانين الطفل
تقود عدة كيانات وشخصيات أهلية وقانونية في السودان، جهوداً لإجراء تعديلات على كافة القوانين السودانية لتكون صديقة للأطفال.
تقول المحامية ياسمين نور الدين، إن تحركاتهم مع جمعيات الأسرة والطفل قد أفضت مؤخراً لإجازة تعديلات سنّها مجلسا السيادة والوزراء الانتقاليان، وتقضي بإلغاء عقوبة الإعدام للأشخاص دون سن الـ 18 عاماً، وتجريم بتر وتشويه الأعضاء التناسلية للنساء "الختان".
وتتابع: "نحتاج لتحركات أكبر لتعديل الفقرات الخاصة بعمالة الأطفال في الرعي والزراعة، وتبديل هذا النص المعيب من الاستثناءات في إباحة العمل إلى التحريم الكامل".
من جانبها، تؤكد الحقوقية تيسير الباقر، أن استمرار حملات الضغط من شأنه ليس فقط إحداث تغييرات على مستوى القانون، وإنما إحداث تغييرات أعمق في السلوك والعادات الاجتماعية. وفي هذا الصدد، ذكّرت بنجاح حملات مثل "سليمة" لمحاربة الختان، في الوصول إلى أهدافها بتجريم ختان النساء بعد 14 عاماً من العمل الدؤوب.
أزمة عمالة الأطفال في السودان أزمة شديدة التعقيد، ويزيدها تعقيداً أنها تحظى بمظلة قانونية تعزّز الواقع الاجتماعي. الحل ممكن إن تم بهدوء وتدرّج على صعيدي تعديل القوانين وتوعية المواطن، لتنتهي جريمة متكاملة الأركان بحق أطفال السودان. فقط مطلوب أن نبدأ اليوم وليس غداً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ 14 ساعةأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ 20 ساعةحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ يومينمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ 4 أيامtester.whitebeard@gmail.com