شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
الاقتصاد مقابل الديمقراطية؟... مستقبل العلاقات المدنية-العسكرية في مصر

الاقتصاد مقابل الديمقراطية؟... مستقبل العلاقات المدنية-العسكرية في مصر

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الأربعاء 14 يوليو 202109:50 ص

في ظل تصاعد قبضة الجيش على مقاليد السياسة وتوسعه في النشاط الاقتصادي في مصر، يبدو الحديث عن علاقات مدنية-عسكرية سليمة في المستقبل القريب أمراً في غاية الصعوبة. لكن، بالرغم من ذلك، قد يشكل الاقتصاد العسكري فرصة سانحة لنخب مدنية للتفاوض مع مؤسسة عسكرية نافذة على انتقال ديمقراطي، والتعامل معها بمنطق الاحتواء بدلاً من الصدام، في مسار طريق طويل نحو إخضاع الجيش واقتصاداته لسيطرة المدنيين.

فرضية حدوث انتقال ديمقراطي في مصر في المستقبل، بما يتضمنه من إنهاء لنظام سلطوي وإقامة بديل مدني ديمقراطي، تطرح تحدي إمكانية تعامل السلطات المدنية مع الاقتصاد العسكري، وإلى أي مدى يمكن النظر إلى هذا الاقتصاد باعتباره بطاقة يمكن التفاوض عليها مع مؤسسة عسكرية متطلعة إلى إبقاء صوت مسموع لها في السياسة.

والتعامل مع هذه التحديات ضروري في طريق الحوكمة الديمقراطية، وإخضاع الجيش للسيطرة المدنية، أو حتى الوصول إلى صيغة حكم بتوازن مدني-عسكري كما كان عليه الحال قبل 25 كانون الثاني/ يناير.

إمبراطورية الجيش

مع عودة الجيش إلى صدارة المشهد السياسي في مصر بعد يناير 2011، ومرة ثانية بشكل أكبر بعد تموز/ يوليو 2013، انفتحت شهيته الاقتصادية وتسارعت مشروعاته، لينشئ إمبراطورية اقتصادية صارت اليوم واضحة وبارزة للعيان، ويتأثر بها رجل الأعمال ورجال الشارع على السواء.

وجرى ذلك في ظل إشكاليات ميّزت هذا الاقتصاد مثل عدم الشفافية ونقص المعلومات الكافية، والتداخل بين طبيعة القطاع العام والخاص، وعدم وضوح القواعد القانونية والإدارية الحاكمة، والخلط بين الأدوار التنظيمية والتجارية والأمنية، خاصة في ما يتعلق بسيطرة الجيش على مساحات شاسعة من الأراضي الصحراوية.

يعمل في الاقتصاد العسكري المصري اليوم ما لا يقل عن خمسة ملايين مواطن مدني، أي ما يقارب عدد موظفي القطاع العام، في ما يزيد عن ألفي مشروع تحت إشراف الجيش، بالاتفاق مع شركات مدنية، في مجالات عدة على رأسها الإنشاءات، إضافة إلى قطاعات أخرى مثل إنتاج الإسمنت، والخدمات الفندقية والأمن، وصولاً إلى إنتاج وبيع المواد الاستهلاكية، الأمر الذي يضمن مداخيل واسعة للمؤسسة العسكرية، بعيداً عن الموازنة العامة، ويساعد في توليد امتيازات ومصالح أكبر لدوائرها من ضباط وجنرالات متقاعدين.

أدى وجود الجيش في صدارة المشهد السياسي إلى قيامه بتوظيف جزء كبير من اقتصاده سياسياً، لدعم النظام الحالي والسعي إلى مساعدته على تحقيق إنجاز اقتصادي وتنموي.

يظهر ذلك في بيع السلع وتقديم خدمات للمواطنين بهامش ربح قد يبدو متواضعاً نسبياً، لكنه يُظهر الجيش في دور المحارب لجشع التجار.

لكن مع الوقت، ومع اضطراره إلى إدارة شبكة واسعة من العمليات والشركات والمدنيين والمجندين في قطاعات اقتصادية مختلفة، ومزاحمة القطاع الخاص، بدأ الجيش بتلقي اتهامات من بينها الممارسات الاحتكارية أو حتى الفساد المالي، وهي اتهامات من المحتمل أن تؤدي إلى اهتزاز صورته وصور قياداته، وهو ما أكده الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بإعلانه خوفه على "الجيش والضباط الصغيرين من إنهم يهتزوا"، كما قال في رده على حديث المقاول ومدير إحدى شركات المقاولات محمد علي الذي شكل حديثه عن الفساد عاملاً مهماً في التظاهرات التي خرجت ضد النظام في أيلول/ سبتمبر 2019، وأعطت مؤشراً على أن التكلفة السياسية للاقتصاد العسكري قد تكون أعلى مستقبلاً.

بين العسكريين والمدنيين

أغلب الظن أن أي تحول سياسي قادم في مصر، في ظل هذا القدر من النفوذ السياسي والاقتصادي الواسع للمؤسسة العسكرية ودوائرها، سينزع إمكانية بسط السيطرة المدنية الكاملة على البلاد، ويفرض في أحسن الأحوال ضرورة إيجاد صيغة تفاهمية بين النخب السياسية المدنية والمؤسسة العسكرية، والتأكيد على أن هذا التحول لن يشكل تهديداً على الجيش أو على مصالحه، خاصة في ما يتعلق بوصايته على الحكم، ولن يمسّ بامتيازات واستحقاقات الجنرالات الاقتصادية، ويضمن أمانهم.

"أقرب نموذج ممكن لمستقبل العلاقات المدنية-العسكرية في مصر، بحال حدوث انتقال ديمقراطي، يمكن تصوّره عبر قراءة نماذج بعض دول أمريكا اللاتينية، وخاصة النموذج التشيلي بعد أوغستو بينوشيه"

ومن الناحية المقابلة، يمكن للسلطات المدنية أن تهدف من هذه الصيغة إلى ربح الوقت لترسيخ سلطتها ومشروعيتها السياسية، بدون دفع الجيش إلى القيام بأعمال انقلابية ضدها، وبدون عمل البعض على تحريك احتجاجات شعبية ضد السلطة المدنية الوليدة.

قد يكون نموذج مبارك-طنطاوي هو الصيغة الأقرب لمستقبل علاقات مدنية عسكرية واقعية في مصر، وهو النموذج الذي استطاع فيه نظام الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك السياسي، منذ الثمانينيات، إيجاد صيغة توازن مع الجيش، مضمونها مقايضته على عدم تدخله في السياسة، في مقابل السماح له بخلق وضعية مستقلة وضمان مصالحه وامتيازاته الاقتصادية، وهي مصالح وامتيازات توسعت بشكل كبير تحت قيادة وزير الدفاع الهادئ وغير المحب للظهور محمد طنطاوي.

سخّر طنطاوي الاقتصاد العسكري لتحقيق الاكتفاء الذاتي للجيش وسد احتياجات وامتيازات "دولة الضباط" السكنية والصحية والترفيهية، لكن بما لا يتعارض مع رأسمالية نخبة الدولة وتوجه الحكومة والحزب السياسي الحاكم نحو اقتصاد السوق.

هذا السيناريو يبدو وردياً اليوم، في ظل تعاظم أدوار المؤسسة العسكرية في المشهد السياسي وجموحها الاقتصادي، ووضعها الوصائي على الدولة المؤكد بالتعديلات الدستورية في نيسان/ أبريل 2019، بالإضافة إلى استمرار الدعم الدولي والإقليمي، خاصة الخليجي، للنظام السياسي، لتصديره نفسه باعتباره حامياً من الأخطار الأمنية المحيقة بالمنطقة كالإرهاب والفوضى الإقليمية، وفي ظل استمرار ضعف وانقسام النخب المدنية وتآكل هامش مناوراتها السياسية لأسباب عدّة على رأسها القمع السلطوي لها.

هل يفسح الجيش الطريق؟

قد تؤثر مروحة واسعة من العوامل على قيام الجيش بإفساح الطريق جزئياً أمام إصلاحات ديمقراطية تنفّذها مؤسسات مدنية، من بينها عوامل تتعلق بالمشهد السياسي مثل ارتفاع موجة السخط والتحركات الجماهيرية ووجود رغبة شعبية عارمة بالتغيير وحدوث توافق سياسي واسع على رفض الحكم العسكري وعلى ضرورة تقليص نفوذ الجيش السياسي أو الاقتصادي والاستياء من مهامه غير الملائمة خاصة في الأنشطة الاقتصادية...

"يبدو الحديث عن علاقات مدنية-عسكرية سليمة في المستقبل القريب في مصر أمراً في غاية الصعوبة. لكن، بالرغم من ذلك، قد يشكل الاقتصاد العسكري فرصة سانحة لنخب مدنية للتفاوض مع مؤسسة عسكرية نافذة على انتقال ديمقراطي"

وهنالك عوامل أخرى تتعلق بالجيش نفسه مثل الخوف من تهديد الهيبة العسكرية وتماسك الجيش الداخلي، وحدوث تغيّر في رؤية قادة الجيش لشرعية النظام، أو تهديد الأوضاع المادية ورفاهية أفراد الجيش، أو الفشل في تحقيق نجاح سياسي عسكري أو اقتصادي...

وأيضاً هنالك عوامل خارجية مثل تغير الأولويات الإقليمية والدولية وخارطة اللاعبين الرئيسيين، وانخفاض حدة التهديدات الخارجية والداخلية.

ويكون مقدار التحكم المدني في إدارة العلاقات المدنية-العسكرية هنا مرتهناً بعمق هذه العوامل ومدى ما للمؤسسة العسكرية من نفوذ سياسي وتماسك داخلي ودعم دولي وإقليمي متبقٍّ، وهذا سيجعل مواقف السلطات الجديدة تتراوح بين المناورة والتفاوض وبين عدم رؤية ضرورة تقديم تنازلات للمؤسسة العسكرية وتفضيل إخضاعها للتحكم المدني فوراً.

بين مصر ودول أمريكا اللاتينية

بالنظر إلى معطيات النفوذ السياسي والاقتصادي للمؤسسة العسكرية المصرية المتضخم حالياً، فإن أقرب نموذج ممكن لمستقبل العلاقات المدنية-العسكرية في مصر، بحال حدوث انتقال ديمقراطي، يمكن تصوّره عبر قراءة نماذج بعض دول أمريكا اللاتينية، وخاصة النموذج التشيلي بعد أوغستو بينوشيه، والذي كان الجيش فيه نافذاً، يراكم سلطات سياسية هائلة، ومتماسك داخلياً ومدعوم بشكل معقول مجتمعياً، بالإضافة إلى مأسسته المرتفعة، فضلاً عن وضعيته الخاصة في الدستور وغابة القوانين التي تفرض وصايته على الحكم.

هذه العوامل جعلت من الانتقال الديمقراطي في تشيلي خلال عقد التسعينيات عملية طويلة وبطيئة. ويُعَدّ أبرز دليل على ذلك استمرار بيونشيه بعد رحيله عن الرئاسة في منصب قائد الجيش ثم كعضو في مجلس الشيوخ حتى عام 2002.

ويرجع البعض هذه الصعوبة إلى استطاعة الحكم العسكري تنفيذ سياسات اقتصادية صديقة للتنمية وتحقق معدلات استثمار عالية، الأمر الذي ساعده على المحافظة على قدر من السلطة والنفوذ والامتيازات في مواجهة السلطات المدنية المتعاقبة بعده، والتي ظلت تتعامل طويلاً بحذر وبسياسة النَفَس الطويل مع هذه الصلاحيات، للتأكد من عدم تهديدها للمؤسسة العسكرية، وللسعي إلى بقاء النظام السياسي الجديد لفترة أطول.

وظهر ذلك في تعامل السلطة المدنية بعد عام 2000 مع قانون النحاس الذي كان يتيح ريعاً غير محدود للجيش من مبيعات شركة النحاس الوطنية. فبدلاً من إلغاء السلطة المدنية لهذا القانون والمخاطرة بتهديد الهدوء النسبي في العلاقات المدنية-العسكرية، قامت بتعديل القانون فقط، وتثبيت حد أقصى من أرباح المبيعات المخصصة لميزانية الدفاع.

وعلى عكس ذلك، كان النموذج الأرجنتيني في الانتقال الديمقراطي قائماً على تضاؤل نفوذ الجيش السياسي بشكل ملحوظ، وذلك على أثر سوء إدارة الزمرة العسكرية للاقتصاد وما سببته من ارتفاع للدين الخارجي، بالإضافة إلى تخبط سياساتها الخارجية والهزيمة في حرب الفوكلاند، الأمر الذي مكّن النخب المدنية من عدم تقديم أية تنازلات للنخبة العسكرية ورفض الشروط التي وضعتها الأخيرة للتحول الديمقراطي وتقليص الإنفاق العسكري بشكل حاد.

بين الاحتواء والمضي قدماً في الدمقرطة دون تهديد صلاحيات ومصالح الجيش ومنها الاقتصادية كالنموذج التشيلي، والصدام والعمل على فرض الرقابة المدنية وشفافية الميزانيات العسكرية كالنموذج الأرجنتيني، تتراوح مساحات المناورة والتفاوض التي تمتلكها السلطة المدنية.

ويرتبط الأمر بمدى النفوذ والتماسك والدعم الذي يحظى به الجيش في لحظات الانتقال الديمقراطي، وهو ما قد يؤدي إلى ترك بعض الأدوار الاقتصادية له لطمأنة المؤسسة والجنرالات، وصولاً إلى السماح له بالمساهمة في التنمية الاجتماعية والاقتصادية، أو المشاركة في مساعدة الدولة في شق الطرق أو الكوارث الطبيعية واحتواء تفشي الأوبئة لكن تحت إدارة وتخطيط المؤسسات المدنية.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image