تظن أنك وصلت لتلك المرحلة العالية من الوعي، لكنك في الحقيقة تسقط في أعماق نفسك، تحلل باستمرار محاولاً الوصول إلى معطيات جديدة لا تعرفها عن ذاتك. يستمر هذا التحليل طوال الحياة دون نتيجة مؤكدة أو مضمونة.
محاولات للفهم والعبث في دهاليز العقل.
هذا ما تقوله الكاتبة مريم العجمي في روايتها الأولى "صورة مريم" الصادرة عن الهيئة العامة للكتاب في مصر. وكأنها محاولات للفهم والعبث في دهاليز العقل.
تنشغل مريم بالنفس وتحليلها، ترهقها هذه الطفلة العابثة التي تحب الحركة هنا وهناك بينما القيود تشلّ حركتها دون أمل.
هذا ما أظهرته في مجموعتها الأولى "مصفاة هائلة تحملها الملائكة"، لتواصل مريم بعدها الانشغال بالأحلام وتحقيقها، مستمرة في بحثها عن هذا التفرد الضائع.
في "صورة مريم" صعب علي لأول مرة أن أكتب وإن كنت استمتعت بتفكيك النص وفق هواي، فكل من يقرأ هذ النص يستطيع أن يراه كما يريد ويضع له العنوان الذي يناسبه، فهو عمل هلامي قليلاً، ينزلق من بين يديك فلا تستطيع الإحكام عليه.
وربما شأن الرواية في ذلك شأن النفس البشرية التي لا نستطيع فهمها بشكل واضح ودقيق مهما حاولنا.
متى أسترد نفسي؟ شيطان الشفط
هزت الكاتبة بجذع الكلمة فأخرجت لنا روائع وخبايا.
غربة وسط من يشبهوننا قد تكون حكايتها عنها أو عنك أو عني أو عن أي امرأة أخرى ظنت لبعض الوقت أنها متفردة، تملك ما لا تملكه الأخريات، ثم اكتشفت أنها مجرد صورة من نسخ عديدة، منها ولدها المقدّر ولم تهنأ أيّ منهن بنهاية مرضية. لا فوز تولده إلا الكتابة، ولا نجاة إلا في خلق حيوات جديدة من العدم قد تمنحنا الشهيق الأخير.
تعيش حياة تشبه حياتها، وسط كتاب يشبهونها، ولا يفهمها أحد، تبحث عن بر أمان، بين الأسرة والأصدقاء، تحاول أن تفهم، وتتخيل الفهم محاولة عبثية... رواية "صورة مريم"
اختارت الكاتبة لبطلتها حياة ليست سهلة، ولأن الكتابة عمل شاق فقد شربت معها من مشقة الرحلة، ما جعلها تدمي بين الأسطر، وهي تبحث لرفيقتها بين السطور عن منفذ واحد، عن بر أمان تسعى إليه. لم تجده داخل الأسرة، أو بين زملاء لا يفهمون شيطاناً راقداً في عقلها يبث قيها سمومه لتخرج أمامها طوال الوقت.
نفخت الكتابة فيها روحاً جديدة، فحملت في بطنها أحلام الصبا والطفولة والشباب. حملت "مريم" وحدثت معجزتها كما لم يتصور أحد.
هل من السهل أن تكتب نفسك؟
أبداً، خاصة أن حكاياتك هي الأصعب والأكثر قسوة، فلقد عشتها مرات، وخزنتها ذاكرتك سنوات ثم تعيدها إليك في كل مرة بصورة مختلفة.
قد يحدث أن تتواجه مع مشاهدك القديمة، فيصرخ كل منكما من آلامه، وبعد حين تأتي "الطبطبة" ولو كانت زائفة.
قصص وانهيارات وأهوال تجددها الأيام ولا تنتهي، فهي مستمرة بتجدد الألم والتصاقه. سبعة أيام قررت فيها بطلة الحكاية أن تخرج من داخلها أصعب الذكريات. جرحت قلبها وأدمته. لا تريد أن تكتب تلك الكتابة السهلة، فسقطت بين السطور وفتحت الكلمات فاهاً، وابتلعتها دون تردد.
الألم روح الكتابة، كل منهما ملتصق بالآخر. وحتى تأتيها طواعية وقفت "مريم" على بابها ساجدة، عارية، تقدم روحها من أجل أن تفتح لها أبوابها وتتسلق.
" تعريت لأول مرة على الورق.. عرفت طعم القبلة الأولى من الكتاب.. الحب الأول.. الرغبة الأولى والرعشة الأولى، هنا بين السطور راوغت البطلة حبيبها فراوغته معها. اقترب بطلها من وجهها فقربت وجهي من الصفحة، قبل شفتيها، فسال العسل على شفتي، تحسس نهدها المتحفز، قربت الكتاب من صدري، وانتظرت لمسته، استسلمت بطلته فلم أقو على المقاومة، انتفض جسدي ففتحت الكتاب على آخره، مررت سبابتي والوسطى بين الصفحتين، تئنُ البطلة، فتدفق سائل لزج ورطب بين السطور".
ألم التفرد والولادة
بطلة "متفردة" أو هكذا ظنت خلال فترة من طفولتها، فهي "مريم" التي اختصها والدها بهذا الاسم نسبة إلى السيدة "مريم العذراء" لتمتد المعجزة إليها وتنال من بركتها. التفرد كان لها، والاسم يخصها وحدها. فكانت الطفلة تصلي وتركع مع الراكعين، تطير من البهجة وهي تشعر بهذا التوهج يغلفها. حتى اكتشفت أن الخونة سرقوا منها تفردها، ومنحوا الاسم لأطفال سواها. فباتت معجزتها واهية.
مع الكتاب عاشت بهجتها الأنثوية لأول مرة وتعرت لتتيح لقلبها أن يرتعش مع أحاسيس لا تألفها، كتبت: " تعريت لأول مرة على الورق.. عرفت طعم القبلة الأولى من الكتاب.. الحب الأول.. الرغبة الأولى والرعشة الأولى"
ولكن لم يترك شيطان التفرد "مريم" فبحثت لها عن معجزة موازية، وإن كانت حتى بين أجنحة الخيال ففردت له كل السماوات وتركته يتمدد بداخلها ومنحته كل المساحة التي يأملها فاحتلها وبدأت في صنع عالمها الجديد.
منحتها ذكريات الألم الماضية الوقود الذي جعلها تغذي ذاكرة اليوم لتحتل السطور وتكتب بألم موازٍ. تعرت للكتابة كما عرت كل من آلموها سابقاً لتسخر منهم ولو حتى في خيالها، ولكن التعري هذه المرة أثمر عن جمل ذهبية أنارت حياتها، وجعلت لها معنى مختلفاً عن المعنى الجامد لكيانها.
تمكنت الكاتبة بقدرة كبيرة أن توظف رمزية التعري في الرواية بحرفية شديدة. تعرية المشاعر والأحاسيس بلغت مداها في مشاهد عدة. عندما نضجت قبل أوانها بين درفتي كتاب، حينما أفرغت حزنها المكبوت على الآخرين فجردتهم من ملابسهم، وكافأت نفسها بمشهد تخيلي مثير للضحك يشبع قلبها المثقل بالألم.
ألا يحق لنا أن نتمرد، أن نهذب واقعنا كما نريد دون أن نتهم بالجنون؟ ألا يمكن لنا أن نمتطي الخيال لنصنع لنا حيوات موازية تمدنا بالجنة التي نفتقدها في عالمنا؟
مرت مريم بآلام المخاض قبل الأوان.
انتفخ بطنها، وشعرت بالجنين في داخله يتحرك، أرضعته من ثديها، ومع ذوبانها التام بين أحضان وعذوبة الحلم تبخر في لحظة فارقة، وتبدلت الحقائق، ووضعتنا الكاتبة أمام تساؤل دنيوي له العديد من الإجابات: "هل نبدأ أم ننتهي؟" و "هل الحقيقة ما نراها نحن أم يراها غيرنا؟".
"أسمع صراخ الصغير في علبة التليفون، أتتبع الخيط وأصعد إلى السطح، لم يكن الأمر صعباً، بلمح البصر أجدني بالخارج، لم أعد أسمع بكاء الصغير، ترتطم قدمي بمنضدة وسط الظلام، ما الذي أتى بها إلى هنا، أتحسس الظلام حولي، أخطو لا أجد باب غرفة الصغير في مكانه، أمرر يدي على الحائط، أبحث عن زر الكهرباء، أتتبع الجدار غير المألوف الملمس، أصل لزر الكهرباء أخيراً، أضغط، أصرخ، لم تكن شقتي!".
عاشت البطلة أسرارها الخاصة، ولم تجد يداً تساندها إلا الكتابة، لم يكن هناك رفيق إلا القلم الذي كانت تسرقه من وقت إلى آخر من أي زميلة لها. ربما كانت طوال الوقت تصارع حلماً يصعب عليها تحقيقه وسط حالة اللافهم التي تعيشها في محيطها الأسري، ولذلك لم تجد بداً من أن ترسم لها عالماً خاصاً تصبح فيه كل أحلامها حقيقية. مريم الطالبة الصغيرة ولدت وأنجبت وعاشت آلام مخاض كامل، فاحتضنتها الكتابة فصارت أماً لها.
مع الكتابة والخيال فقط تعيش البطلة متعة حقيقية، فمنها أحست "الألم، الانخراط، الحياة"، ومعها ركضت خلف قوس قزح مثل حورية جميلة تعبث مع الطبيعة.
مع الكتاب عاشت بهجتها الأنثوية لأول مرة وتعرت لتتيح لقلبها أن يرتعش مع أحاسيس لا تألفها.
مع الأحاسيس تلقت الصفعات في كل موضع بجسدها فتألمت وأسكبت الدمع فأزهرت كلمات لا مثيل لها.
في سطور قليلة استطاعت الكاتبة مريم العجمي أن تمزق قارئها إلى أشلاء، لم يعد يعرف يمينه من يساره، أيهما خيال وأيهما حقيقة؟ وما الذي نحتاجه حقاً في حياتنا حتى نصل لمرحلة النشوة المبتغاة والتي نعيش نبحث عنها في كل شيء. حين تقرأ تشعر أن اللغة بسيطة حد التعقيد فهي تصف ما بداخل بطلتها بدقة متناهية، ولا تجبرها على شيء. فالبطلة مريم هي القائدة والمتحكمة حتى في خيالها الجامح.
قد يذهب الخيال وينتهي، ويصفعنا الواقع ثانية ويسقطنا أرضاً، ولكن تظل آثار التخيل ملتصقة بكل جزء فينا. يظل هذا الحلم وما عايشناه يعتصر فؤادنا من حين إلى آخر. فرغم صفعة "مريم" ظلت تسمع صوتاً صغيراً يناديها. ثمة حلم بعيد يتوسلها ألا تتخلى عنه.
ظل الإلهام يتساقط من ثدييها أينما حلت حتى عندما كانت بين أناس قلوبهم صماء.
أنهت الكاتبة الرواية بمشهد مهيب عاصف، لا يسعنا سوى أن نسأل "هل نملك حرية التخلي؟"
الكاتبة ربما وجدت أننا لا نستطيع أن نقرر.
ربما جئنا إلى هذا العالم لنظل معلقين بين الحقيقة والخيال، أو ربما نظل معلقين بين الموت والحياة. لا نعرف هل نصعد أم نهبط؟ فما نراه صعوداً قد يكون هبوطاً سيئاً والعكس صحيح. ورغم كل شيء ستظل مريم وسنظل نحن نبحث عن فرصة للسقوط تحررنا. نبحث عن النجاة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...