الشعب السوري مشتت شظايا قابلة للاشتعال. في البيت الواحد، الابن هارب من التجنيد إلى البلد الأقرب، لبنان، والبنت متزوّجة من عامل في غازي عنتاب، والبنت الأصغر في السكن الجامعي بحلب. الشعب مبعثر بين شمال حلب، وريف دمشق، والتنظيمات والتقسيمات في حماة. وبين البطاقة الذكيّة والبكالوريا المُنصفة، ودروس الإنجليزية المتقدّمة.
الشعب حرفيّاً شظايا.
كلنا ظننّا أن ليس هنالك أسوأ من الشتات ولا أفظع مما شهدناه في الاثنتي عشرة سنة الأخيرة. كلنا ظننّا أنّ الكيان فينا، سواء العائلة أو العشيرة أو الفرد، قد تشتّت وانكمش وتقلّص وذاب لأصغر كائن بشري حيوي. وحين ضرب الزلزال فرطت بقايا الكيانات الملمومة أصلاً من بقايا حرب، وفرط الواحد فينا حتى صار ركاماً.
الثابت الوحيد أنّنا عالقون جسديّاً تحت الأنقاض، تحت سطوة الهيئات المسلحة والميليشيات. وبالنسبة لروحيّة النّاس، فالبعض فعلاً لم ينجُ، وما بقي هو مجرد جثّة أو تلّة ركام قد تنفع في إعادة الإعمار وقد لا تنفع
الأضلع صارت أنقاضاً، أو قفصاً، أو سجناً. لك أن تختار أي مادّة حادة شئت. والقلب بعد ما كان شظايا، صار عالقاً تحت هذه الأنقاض.
أوجه التشابه بيننا وبين المواد الصلبة
ما لفت نظري هو أوجه التشابه بيننا وبين المواد الصلبة حولنا. يُخيّل لنا في البدء أن التشابه واقع في الشكل لا في الجوهر، تؤول المقاربات في الأول لمجرّد تماثل الأحوال. إنّما بالحقيقة، التماثل هو تماثل جوهر بشكل. لو نفسيتي محطّمة، لو نفسيتي فتات، لو نفسيتي مبعثرة، هل نفسيتي منفصلة عنّي أم أنّ جوهري شيء ما في أعماقي متغيّر، غير أصله، غير ما يجب أن يكون عليه؟ وهنا يظهر الانفصال بيني وبيني، والانفصال بيني وبين الشعور، وهنا يبدأ الإنكار والعجز عن التعبير وعن الاقتراب من الحل.
لنعد لموضوع التشابه أو التماثل بتعبير أدق بعد الزلزال الأخير. تماثُلُنا مع الحطام وارد أن يكون تشابهاً، حالنا بحال الحجر في البلاد. أعني الحجر تزلزل والقلب ماثله في الحال، وصار أقرب تعبير عن الوضع النفسي هو التحطّم، أو الركام، أو الاحتراق، أو الانهيار.
لكن لماذا التماثل بالانهيار؟ لماذا لم أتشابه مع المادة الصلبة يوم سلامها أو لم أكن مثل الحجر بصلابته؟ لماذا لم يعنِ لي شيئاً الحجر يوم عمرانه أصلاً؟ هنا الانفصال من نوع آخر. لكن انفصالي عن الحجر يوم عمرانه هو انسلاخ وشرخ وغربة. ما وددت توضيحه هو أنّ واقعنا لا يبخل علينا بمشاهد عينيّة توازي الشتات والركام في كل واحد فينا. هذا التوازي قد يكسر شعور اللا انتماء ويقصّر الوحشة التي تؤنس رحلاتنا.
عندي فضول تجاه شكل اللغة والمحيط بعد عامين أو أكثر. هل نتماثل في المستقبل مع مواد مرنة أكثر ومواد أرقّ؟ هل فعلاً الخيمة أسلم؟ هل المنزل المستعار أو المنزل المتنقل آمن؟
لكن اللغة لا تقصّر في إمدادنا بالمصطلحات التوصيفيّة الباهرة. في البدء كانت النفس شظايا، اليوم صارت أنقاضاً.
التأقلم مع المصطلحات الجديدة
صديقة لي، إعلامية سورية في فرنسا، ومن الفاعلات في الشأن السوري، كانت قد نشرت عن موضوع التأقلم مع المصطلحات الجديدة، وذكرت كيف أنّها أكثر من مرة استخدمت مصطلح قصف عندما كانت تقصد الزلزال، أو كيف استخدمت شظايا وكان قصدها الركام.
كرم اللغة لم يقتصر في التماثل مع أحوالنا. نعمة اللغة أنّها كانت قادرة على احتواء ما نمرّ به على قسوته، تصف الضلع وتصف الروح وتصف الجدار وتصف السقف وتصف الخيمة وتصف القلب وتصف الشظيّة وتصف الموقد، كلٌّ بانهياره وبقيامه، باشتعاله وبانطفائه، بروحه وبغيابه. ما حولنا يشبهنا. ونحن ما نحكيه.
الثابت الوحيد أنّنا عالقون جسديّاً تحت الأنقاض، تحت سطوة الهيئات المسلحة والميليشيات على اختلاف مذاهبها وتسمياتها. وبالنسبة لروحيّة النّاس، فالبعض فعلاً لم ينجُ، وما بقي هو مجرد جثّة أو تلّة ركام قد تنفع في إعادة الإعمار وقد لا تنفع، عاجزة بذاتها، ضائعة ومشتّتة ومعكّرة، فيها أجسام غريبة وبقايا فساد لا بدّ أن تُغربل.
فقط عندي فضول تجاه شكل اللغة والمحيط بعد عامين أو أكثر: هل نتماثل في المستقبل مع مواد مرنة أكثر ومواد أرقّ؟ هل فعلاً الخيمة أسلم؟ هل المنزل المستعار أو المنزل المتنقل آمن؟ أين نأوي؟
نحن شظايا قابلة للانفجار في أي مكان نلوذ به.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون