"من اليوم سأقيم في السيارة مع عائلتي، ريثما أجد خيمةً أنصبها، فلم يعد هناك مكان نهرب إليه"؛ كلمات تخرج بأسى من محمد سعيد رحال، ابن مدينة حارم في ريف إدلب الشمالي، تصاحبها تنهيدة تجمع بين الحزن والتعب، فمحمد الذي هُدم بيته بشكل جزئي، في زلزال الإثنين 6 شباط/ فبراير الجاري، ولجأ مع عائلته إلى بيت والده الذي تصدع في زلزال البارحة، يقيم الآن في السيارة ريثما يجد خيمةً في منطقة كان أحد أحلام أهلها قبل أقل من عشرين يوماً التخلص من آخر خيمة فيها.
ولكن عن أي أحلام نتحدث، في بلاد يلفها الموت من كل جانب منذ سنين، حتى صارت ملازمة للنكبات، ولا يتذكرها العالم إلا بأنها البلاد الحزينة التي عايشت أصعب أنواع الحروب والخراب والدمار، وها هي بعد أسبوعين على الزلزال الأوّل، تخوض في الثاني، أو يخوض فيها الثاني، وكأن الرسالة لأهلها لا تقبل القسمة على اثنين: تخرجون من مأساة، وتدخلون في أخرى، ولا رفيق لكم سوى الموت؟
الهروب إلى الخطر
أمس، الإثنين 20 شباط/ فبراير، وبينما كان الظلام يلفّها، فعلياً ومزاجياً، تحوّل المكان الهادئ المزنّر بالخوف إلى مكان ليس فيه سوى الصراخ والهلع، من جديد. زلزال آخر، وهروب آخر، وخوف جديد ومستمر، ونكبة فوق نكبة، ولا وقت للأحلام.
هنا في إدلب، هرع الناس إلى الأراضي الزراعية هرباً من الطبيعة. وهم يهرعون هلعين، كان أحمد أبو علي يركض في الاتجاه المعاكس، يرفع صوته بقراءة القرآن، وهو يصعد درج البناء الذي يسكن فيه، ليجلب صغيره من المنزل بعد أن هربت العائلة كاملةً خوفاً من الزلزال ولكن صغر سنّ طفله يوسف لم يساعده على اللحاق بهم. تنبّه الوالد بعد أن صار في الحقل، وعاد لاهثاً لينقذ صغيره.
"يا خاي الخوف بيقطع الجوف، ربما إن قفزت من الطابق الثاني قد يتحطم شيء من عظامي وذاك أفضل من أن أُدفن تحت أنقاض 5 طوابق من البناء"
بعد عودته وهو يحمل طفله، التقط أنفاسه، وابتسم كأنه فاز بجائزة كُبرى. نظر إلى طفله، وصار يضحك، فهو الذي منذ الزلزال الأوّل يتدرّب على كيفية الهروب، والنجاة بعائلته. يروي كيف حين "هلع، نسي كُل ما حاول أن يتدرّب عليه". أحمد مثله مثل الجميع، تعب من الحياة، لكنّه يتمسّك بها، في مفارقة غريبة، وما أكثر الغرائب في تلك البقعة المسمّاة "محرّرة".
"الخوف بيقطع الجوف"
كان الطبيب يضمّد ساق سعيد كيلاني، عندما بدأ الأخير برواية قصته. هو يتحدث وأنا أقف حائراً، هل أضحك أم أبكي؟ حاولت التخلّي عن مشاعري لأتابع ما يصدر من سعيد. كانت معالمه تتبدل وهو يتحدث. يضحك، ثُم يصمت، ويعود لترتسم علامات الخوف على محيّاه، وهكذا، حتى انتهى.
يقول سعيد الذي يعمل في إحدى المنظمات الإنسانية: "استطعت مع زملائي نيل يوم واحد من الراحة بعد 14 يوماً من العمل المتواصل في الاستجابة لمتضرري الزلزال. دعيت أصدقائي للسهر في منزلي في محاولة بائسة لنسيان القليل من هول الزلزال، وما عشته معهم منذ لحظة حدوث الزلزال الأوّل".
يروي سعيد أنهم بعد وصول أصدقائه إلى منزله، وقبل أن يكملوا شرب فنجان قهوة الـ"أهلاً وسهلاً"، حدثت الهزة التي أثارت رعبهم، ليقفزوا من نافذة الغرفة التي يجلسون فيها بدلاً من الخروج والنزول على الدرج، كونهم سمعوا روايات من ناجين أن الأموات أغلبهم فُقدوا في أثناء نزولهم الأدراج للهرب.
قبل أن أبادره بأي سؤال، قال: "يا خاي الخوف بيقطع الجوف، ربما إن قفزت من الطابق الثاني قد يتحطم شيء من عظامي وذاك أفضل من أن أُدفن تحت أنقاض 5 طوابق من البناء"، لينهي كلامه مع ابتسامة تلتها صرخة ألم نتيجة بدء انتهاء مفعول المخدّر من قدمه المصابة.
"طق مية الراس"
في أثناء جولتي في شوارع إدلب، إثر وقوع الزلزال وأمام أحد مشافي المدينة، وجدت صديقي حسام درويش يمشي في مكانه بالرغم من أنه كان أول من يغادر المدينة خوفاً على زوجته الحامل بعد سنين من انتظار مولوده الأوّل، وهو لا يزال منذ الزلزال الأول، يقيم في مزرعة والده على أطراف مدينة إدلب. سألته ما الذي أتى به إلى المدينة، أجاب: "بسبب الزلزال طقت مية الراس وهي بالشهر السابع"، ثُمّ أجهش بالبكاء. ومصطلح طق مية الرأس هو مصطلح محلّي يعني أن المرأة بدأت بالطلق ويجب أن تضع حملها.
بقيت معه بعض الوقت محاولاً تهدئته. بعد وقت قليل أتاه الخبر بأن زوجته قد أنجبت، وهي والجنين بخير. كان فرحه أكبر من أن يوصف، وكأن دهراً مرّ عليه من دون أن يبتسم. سألته ماذا سيسمّي ابنته؟ قال: "سأسميها سلام، عسى أن نستطيع العيش معها بسلام من دون موت أو دمار ناتج عن الزلازل أو عن القصف الذي كنت أخاف منه عليها في الأشهر الأولى من حمل أمها".
سألته ماذا سيسمّي ابنته؟ قال: "سأسميها سلام، عسى أن نستطيع العيش معها بسلام من دون موت أو دمار ناتج عن الزلازل أو عن القصف"
تركت صديقي لأكمل جولتي في المدينة التي تحولت الشوارع فيها إلى بحر بشري هائج، بعد أن نزل جميع أهاليها إلى الشوارع. كان المشهد مكرراً، ولكن هذه المرة الخوف كان مضاعفاً، فمع كل هزة، صار الأهالي وأنا منهم، يتذكرون المشاهد التي عاشوها في المناطق التي دمرها الزلزال.
كان الخوف هذه المرة مضاعفاً بمرات لدى الناجين. مجدداً باتوا ليلتهم في العراء بين أشجار الزيتون أو في السيارات والحدائق حيث البرد القارص، وانعدام المرافق الحيوية. في الصباح، رفض الأهالي العودة إلى منازلهم وبقوا بين تلك الأشجار. يقولون إنهم لن يغادروها، ولن يعودوا. يكفيهم ما ذاقوه من خوف وموت.
وعاش الملايين من سكان الشمال السوري والجنوب التركي البارحة، ليلةً جديدةً من الرعب إثر تعرّض ولاية هاتاي لزلزالين متلاحقين، بقوّة 6.3 و5.8. الإحساس بالهزّة امتد ليشمل لبنان وفلسطين والأردن ومصر، وأعلن الدفاع المدني السوري عن وقوع 190 إصابةً في مناطق عمله. وتستمر اليوم عمليات تقييم الأضرار وفحص الأبنية المتضررة في كلّ من سوريا وتركيا.
ملاحظة: كُتبت هذه المادة بين أشجار الزيتون في مزارع إدلب الشرقية، كون البناية التي أقطنها لم تسلم هذه المرة، وبدأت تظهر علامات التشقق على جدرانها. صرت كلّما أدخل إلى المنزل أتخيل نفسي في مشهد مأساوي يشبه ما عاينته كصحافي خلال الأسبوعين الماضيين في تغطيتي للزلزال. نحن بشر، نريد الحياة، ولا نمانع بالقليل من الخوف، ما نعيشه لا يُوصف. نستحق أفضل من ذلك.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.