لا يختلف اثنان داخل تونس أو خارجها على أن كثرة الصدامات بين السلطة السياسية والمنظمة النقابية الأكبر في البلاد، قد عقّدت الأزمة إلى حد استعصاء كل المحاولات لحلها. ومما زاد الطين بلّةً، محاولات الرئيس التونسي قيس سعيّد للتفرد بالسلطة والتضييق على كل من يخالفه ومن ضمنهم النقابة وحلفاؤها. ولعل أبرز هذه المواقف طرد ممثلة الاتحاد الأوروبي للنقابات، التي كانت في زيارة إلى تونس للتضامن مع زملائها. أمر أثار حفيظة المنظمة النقابية التي تحركت للهجوم ضده في خطوة تسعى من خلالها إلى فرض تكتيك جديد على الأرض يحصنها من أي مخاطر، ودعت إلى إضرابات. حرب النقابة والرئيس مستمرة منذ أشهر، وقد تؤدي إلى احتقان جديد في المجتمع السياسي والمجتمعي التونسي.
الطبوبي... من المهادنة إلى الهجوم الحذر
لاقت التصريحات التي أدلى بها رئيس الجمهورية قيس سعيّد، مؤخراً من ثكنة العوينة للحرس الوطني، تنديداً واسعاً من قبل الاتحاد العام التونسي للشغل الذي اتهم أمينه نور الدين الطبوبي، الرئيس بترهيب وتخويف التونسيين ودعوتهم إلى الاقتتال والتحارب من جهة، وممارسة تضييق غير مشروع على العمل النقابي من جهة أخرى، في مسعى منه -حسب محللين ومتابعين للشأن التونسي- للتغطية على فشله، خاصةً بعد نتائج التصويت في الانتخابات التشريعية وضعف نسب المشاركة فيها.
قال الطبوبي، خلال افتتاحه أشغال الهيئة الإدارية لاتحاد الشغل، إن الرئيس يودّ أن يبرهن من خلال مخاطبته للشعب من مقر وزارة الداخلية وثكنات البلاد أن القوات الأمنية والعسكرية في صفّه وتساند خياراته، منبّهاً إلى أن دورها الحقيقي يتمحور حول حماية الوطن من أي اختراقات أو تدخل أجنبي وليس التدخل في العمل السياسي.
من الجوار الحذر إلى المواجهة الشاملة. علاقة اتحاد الشغل التونسي بالرئيس قيس سعيّد، تحولت إلى إحدى مراكز الاحتقان في تونس في ظل حكم سعيّد
كما نبّه الطبوبي إلى لغة الوعيد والتهديد التي تحملها مواقف الرئيس بين طيّاتها، عادّاً إياها "أمراً خطيراً"، وشدد على أن الأخطر من ذلك هو أن يتحدث رئيس للبلاد عن معركة تحرير وطني وتطهير، متسائلاً: من هو المقصود من هذا التحرير والتطهير... هل هو الشعب فعلاً؟ وهل يمكن أن يحرَّرَ بلدٌ ما من شعبه؟
"تصعيد مبرر"
في هذا السياق، أكد الكاتب في جريدة الشعب الناطقة باسم اتحاد الشغل التونسي، صبري الزغيدي، لرصيف22، أن "تصعيد أمين عام أعرق منظمة نقابية في تاريخ تونس، جاء على خلفية خطاب رئيس الجمهورية الأخير الذي صنّفه في خانة التخويف والدعوة للاقتتال نظراً إلى رمزيته العسكرية وتزامنه مع اعتقال كاتب عام نقابة شركة تونس للطرقات السيارة أنيس الكعبي، بتهمة الإضراب الذي خاضه الأعوان للمناداة ببعض المطالب المهنية ومنها زيادة الأجور. وهو ما يعدّ ضرباً للحق النقابي الذي يكفله الدستور والمعاهدات الدولية".
ورأى الصحافي أن "تصريحات الرئيس سعيّد تُعدّ ضرباً ومساساً بهوية هذه المنظمة خصوصاً بعد ظهور اختلافات عديدة في وجهات النظر حيال المسار السياسي لـ25 تموز/ يوليو، إبان إصدار رئيس الدولة المرسوم 17 الذي وضع فيه كافة السلطات بين يديه، وأيضاً بعد التعاطي غير المقبول مع المؤسسة القضائية إلى جانب صياغة الدستور الجديد وقانون الاقتراع من دون إشراك مؤسسات المجتمع المدني ومن بينها اتحاد الشغل".
"تصريحات الرئيس سعيّد تُعدّ ضرباً ومساساً بهوية هذه المنظمة خصوصاً بعد ظهور اختلافات عديدة في وجهات النظر حيال المسار السياسي لـ25 تموز/ يوليو"
من جانبه، أفاد الناطق باسم اتحاد الشغل سامي الطاهري، في تصريح لرصيف22، أن "الاتحاد قرر خوض جملة من التحركات على مستوى فروع الاتحاد في مختلف المحافظات والقطاعات، إذ سيتم تحديد رزنامة كل تحرك احتجاجي في موعدها"، مؤكداً أن الاتحاد متمسك بدوره الوطني، ولا مجال لحصره في مربع مطلبي نقابي فقط لأنه منظمة وطنية لعبت أدواراً كبيرةً منذ الاستعمار وإلى حدود بناء الدولة الوطنية، ولن ينزلق اليوم وراء ردود الفعل المتشنجة إذ تعامل مع تصريحات رئيس الدولة ومع الحكومة التي انقلبت على الاتفاقات التي أبرمتها مع الاتحاد وتنكّرا لها.
مبادرة الإنقاذ مهددة بالرفض
يرى متابعون أن اتحاد الشغل بدا الوحيد القادر على استفزاز سعيّد وإخراجه عن طوره، إلى حدّ إطلاق الأخير جملةً من التضييقات والتهديدات بدت أقرب إلى تصريح بنيّة الرئيس نقْل الصراع إلى مربّع جديد، عنوانه استخدام المؤسّسات الأمنية والعسكرية بمواجهة اتحاد الشغل غير آبه بالأثمان التي يمكن أن تستتبعها، على الرغم من حرص الاتحاد التونسي للشغل على عدم الدخول في أي مواجهة مباشرة مع الرئيس وحكومته، متخذاً من سياسة الحوار ومساندة إجراءات 25 تموز/ يوليو منهجاً لحل الأزمات العاصفة في البلاد.
إلا أن الدعم النقابي لمسار الرئيس لم يكن شيكاً على بياض لأن الاتحاد، وفق صبري الزغيدي، "قد ملّ التضييق ومحاولات إخراجه من بوتقة العمل السياسي ما حذا به برفقة ثلاث منظمات وطنية أخرى، هي رابطة حقوق الإنسان ومنتدى الحقوق الاجتماعية والاقتصادية والهيئة الوطنية للمحامين، إلى العزم على إطلاق مبادرة إنقاذ وطني للإصلاح الاقتصادي والسياسي والاجتماعي".
"يُعدّ اتحاد الشغل سليل الحركة الوطنية، وذا مكانة اعتبارية في نفوس التونسيين وله دور تاريخي في حل الأزمات إلا أنه وللأسف لم يلتقط إشارات استعداد الرئيس قيس سعيّد لشن هذا الهجوم"
توقع الزغيدي، أن "رئيس الدولة وكأنه بتصريحه في ثكنة العوينة وتجريمه للعمل النقابي قدّم إجابةً لهذا الرباعي تلخص موقفه الرافض للمبادرة قبل أن تبدأ"، أو حتى تُرسم ملامحها بشكل واضح، إذ لا زالت تلامس بعض الأفكار إلى حد الآن، إذ كوّن اتحاد الشغل لجاناً للتفكير في علاقة بالهيئات الموجودة في الدستور الجديد، ومطب المنظومة الانتخابية إلى جانب لجان أخرى ستشتغل على الإصلاحات الاقتصادية العاجلة التي تتطلبها البلاد على المستوى المتوسط بالتعاون مع عشرات الخبراء في ميادين القانون الدستوري والاقتصاد والبيئة.
ودعا الزغيدي رئيس الجمهورية إلى التحلّي بالرصانة والمسؤولية والإيمان بمبدأ المشاركة في إصلاح البلاد وللخروج من تأثيرات سبعين سنةً من المشكلات التي عمّقتها العشرية الأخيرة بقيادة حركة النهضة، وما رافقها من ضعف سياسي واقتصادي واجتماعي لن يمكننا من الذهاب إلى عملية إصلاح حقيقية إلا عبر مقاربة تشاركية وتوافقية وأفقية.
اتهامات متبادلة
في موقف معارض لما يقوم به اتحاد الشغل من ممارسات، أوضح العضو في حراك "25 جويلية" أحمد الركروكي، لرصيف22، أن "منظمة الشغِّيلة قد حادت عن دورها التاريخي في إنعاش الاقتصاد الوطني"، مستنكراً ما أسماه بـ"تملصها من وظيفتها الاقتصادية والتدخل في مسائل سياسية لا تعنيها"، وداعياً إياها إلى "الابتعاد عن سياسة الإضرابات التي بقدر ما تمثّل حلاً للضغط من أجل إرضاخ الخصوم إلا أنها لن تنتهي بالبلاد إلى الانهيار والدمار". ويقدّر المتحدث عدد الإضرابات التي قام بها الاتحاد منذ توليه مهمته النقابية بستين ألف إضراب.
من جانبه، قال المحلل السياسي التونسي باسل ترجمان، إن تصريحات قيادات اتحاد الشغل غير متوازنة ويشوبها التناقض، متسائلاً عن المغزى من دعوة رئيس البلاد إلى قبول مبادرة لم يتم طرحها بعد، ويهددون بالتصعيد في حال رفضها، كما يعتقد محدثنا أن أسلوب التهديد يعكس عدم قدرة المنظمة الشغيلة على التعاطي مع الوضع السياسي العام في تونس.
نادى أحمد الركروكي، المنخرطين في الاتحاد إلى العدول عن التحركات الاحتجاجية التي يعتزم الاتحاد تنفيذها قريباً لأنها تنمّ عن وطنية غير متزنة لم تفد البلاد بشيء طوال العشرية المنقضية سوى الإضرابات لأنه، وفق تعبيره، "يعيش من هذه الممارسات ويتحايل على المؤسسات العمومية ويقتات من المال العام"، وتالياً "على هذه المنظمة أن تقوم بدورها الوطني وتقدّم حلولاً وبدائل"، كما يرى المتحدث.
صراع مفتوح... وليس مفاجئاً
انتقد رئيس جبهة الخلاص الوطني أحمد نجيب الشابي، في حديثه إلى رصيف22، "ما يجري الآن من صراع مفتوح بين الاتحاد والسلطة السياسية" عادّاً أنه "ليس مفاجئاً. فبرغم كون الاتحاد يُعدّ سليل الحركة الوطنية، وذا مكانة اعتبارية في نفوس التونسيين وله دور تاريخي في حل الأزمات إلا أنه وللأسف لم يلتقط إشارات استعداد الرئيس قيس سعيّد لشن هذا الهجوم".
يرى أحمد نجيب الشابي، أن كلاً من اتحاد الشغل ورئيس الجمهورية في مركب واحد، فإما الغرق أو الوصول إلى اليابسة جميعاً، داعياً رئيس البلاد إلى التخلي عن النظرة التي تقسم البلاد والمجتمع المدني والوقوف صفاً واحداً إلى جانب المنظمة الشغيلة، وإلى وضع نفسه في إطار التغيير الذي يقتضي الذهاب مباشرةً إلى انتخابات رئاسية مبكّرة، لأن استمرار الوضع على هذا الحال لن يولّد إلا الدمار الشعبي والاقتصادي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
أحمد لمحضر -
منذ يوملم يخرج المقال عن سرديات الفقه الموروث رغم أنه يناقش قاعدة تمييزية عنصرية ظالمة هي من صلب و جوهر...
نُور السيبانِيّ -
منذ 3 أيامالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ 4 أياموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري