شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
تصدُّع الوقت والنفس والأرض في الزلزلة

تصدُّع الوقت والنفس والأرض في الزلزلة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مضت أيام على الزلزلة "العظيمة" التي هزّت، في السادس من شباط/ فبراير، الجنوب الغربي من تركيا، والشمال والشمال الغربي من سوريا، وروّعت لبنانيين كثيرين من غير أن توقع فيهم جزءاً ضئيلاً من النكبات التي أوقعتها في أرواح الأتراك والسوريين، وفي عمرانهم. وما عَلِمه واحدنا، نحن اللبنانيين، من الكوارث التي نزلت بجيراننا في الشرق والشمال، ومن ترويع وهلع أصابانا وأصابا أهل بلدنا، تخلف علمه عن الحادثة.

والأيام المنقضية تؤرّخ لأمر صغير وتافه يُذكر، في هذا المعرض، لعلاقته بالواقعة الجلل. فهو يحصي عدد الأيام التي تفصل بين النازلة، على مقلبها اللبناني والوحيد المعلوم حين نزولها، وبين الكتابة أو القول فيها، أي هذا الذي تقع عليه عين قارئ، إذا قُيّض له أن يُقرأ. وانقضاء مثل هذا العدد من الأيام على وقوع حادثة ينوي الكاتب، المحترف أو الممتهن، أن يكتب فيها حين وقوعها، ثم مبادرته إلى الكتابة فعلاً، لا يستحق التنويه ولا الملاحظة، وبالأحرى الكتابة فيه.

الهلع والوقت

والحق أن الموضوع، أي ما أضع عليه قولي، ليس الأيام نفسها، ولا إرجاء الكتابة، ولا علاقة الكتابة بالحادثة على وجه السبب والسبق. فالروع أو الهلع الذي دبّ فيَّ وأنا أخرج من نومي وغفلتي عمّا يحدث (بدا، من بعد، أنه يحدث)، ولم أسمِّه بعد باسمه، إلى يقظتي وانتباهي إلى حقيقته، المتأخرة والمتلعثمة، هذا الهلع جمَّد الزمن على لحظة من صنف غير صنف لحظات الزمن "العادي". وهي في صيغة الجمع على الدوام.

فلحظة الزمن العادي سائلة، لا تكاد تهلّ من أفق الآتي القريب حتى تيمّم، في إهلالها، صوب أفق مديد وخلفي تحتشد فيه "عصائب" اللحظات السابقة على شاكلة سحب ذائبة، على تفاوت في الذوبان والإضاءة والارتسام. ولا تكاد اللحظة القادمة تطل أو تقبل، وتستقر على قرارها الخاص بها، ووسمها الذي لا تتشاركه مع وسم (لحظة) آخر، وتلتمع في سماء الوقت الغامضة، حتى تخبو مخلّفة وراءها خيطاً من ضوء ذاوٍ يقتصر أثره على لون عتمة في قلب العتمة.

أما لحظة الزلزلة فليست من الوقت الإنساني، ولا من تَعَاقُبِه وأخذ بعضه بتلابيب بعضه الآخر، ولا من قلقه، على معنى حركته وخروجه من استغراقه في نفسه. فهي فجوة في سلسلة الأوقات أو اللحظات. وهذه الفجوة، لا موضع لها ولا محل من الوقت. وإدراكها، أو وعيها، على خلاف الإدراك والوعي المعروفين والعاديين، لا يُخرجان المدرِك أو "الواعي" من مجرى الحوادث والأشياء، ولا يرفعان رأسه فوق المياه التي تشدّه إلى القاع، وتطبق على أنفاسه، وتدعوه إلى الاستسلام.

وهذه الفجوة المعتمة تدور على نفسها، وتُمعن في دورانها من غير تحوّل أو انتقال، ومن غير امتقاع مرئي أو محسوس. فتجمع سكوناً مخيفاً، يجمّد أو يحجِّر العالم على نفسه، وينتزعه من تفاوته واضطرابه وكثرته، إلى ما يشبه الرقص على ذرى الحمم الثائرة والخارجة من فم البركان المزبد والمرعد، أو قمم الموج الهائج.

وحين جلستُ على طرف السرير- بعد وقت قصير، حسبته قصيراً، تراءى لي في أثنائه أن الصوت الصلب والمكتوم الذي أسمعه، غريباً، وهو صوت الستارة الخشبية التي أخرجها انفجار الرابع من آب/ أغسطس 2020، في مرفأ بيروت، من سكّتيها الجانبيّتين، وترفعها الريح الخفيفة حين تهب وتهوي بها على حائط الشرفة الخارجي، وتقاذفتني جدران الحجرة وسقفها وأرضها وهي تخرج عن طورها، وملأ الفضاء اصطكاك جوف الأرض ودمدمته الأسيرة، (حينها) بدا لي أن ما يتقدم الأمور الملحّة الأخرى، مثل الهرب والاحتماء تحت عقود الأبواب أو سقوف الحمامات، هو ألا أسمّي الحادثة، الزلزلة، باسمها.

ذواء العالم

وكيف يسمّى ما لا وقت يدرجه في (مجرى) زمن البشر؟ فكأن السكوت عن التسمية ينفي المسمّى من الحدوث، ويحول بينه وبين أن يكون. واجتمع العالم، كوكب الأرض والعمران والناس والحوادث، وتكوّر في كتلة واحدة ملساء، لا نتوء فيها ولا فرق، وفي الفجوة المعتمة التي ابتلعت الزمن وبدّدته. واحتميتُ في الكتلة والفجوة هاتين، وبهما، من مرِّ الوقت.

فإذا أنا غادرت اللحظة وهولها، واستبقتها إلى اللحظات التي تلحق بها وتتبعها، وتشق طريقاً إلى استقبال الآتي، ألزمني ذلك بتوقّع ما يترتب على الزلزلة وهي تزلزل، وهو ذواء العالم في كتلة العدم وفجوته الهائلة. وحاولتُ، من غير إرادة ولا قصد، العودة في الزمن إلى أوقات مضت، وأفترض أنها آمنة ولا تتهدّدني بما لا أعلمُ ولا أخشى.

"على مثال الزلزلة، ينتاب الواحد المنصرف إلى حياته العادية يقين لئيم بأن ‘الأرض’، وما عليها وما تحتها، تُبيّت غدراً وشيكاً، بل فات وقتُ البيات وباشرت الأرض فعلتها، والناس لا يدرون"

وسرعان ما انتبهتُ إلى أن ما حسبته من أيسر الأمور- وهو دعوة واقعة مضت، وينبغي أن "تقيم" فكرتها في ذهني أو فكري، وطوع هذا الفكر الذي لا حد يقيّد سيادتي عليه، على ما نظن في أحوالنا العادية والسويّة- ما حسبته في ميسوري عصى رغبتي على نحو موارب. فلم توصد ذاكرتي الباب على تذكّري أو ذكرياتي، ولكنها استحضرت من هذه أقلها أو أضعفها دلالة ومعنى. واقتصرت على مشهد طريق أو شاطئ، من هنا، وعلى صورة وجه كئيب من هناك.

فتركني الاستحضار والاقتصار هذان فقيراً إلى ماضٍ أتعلّق به، ويشدّني إلى ناسٍ وأوقاتٍ وأحوال أعرِّف بهم (وبها) نفسي، وأعرِّفهم (وأعرفها) من طريقي. وأدركتُ أن الزلزلة واقعة أو حادثة من صنف يمحو، من غير بقية، كل أثر قد يُحمل على نسب، أو تاريخ، أو رابطة اجتماع وتعارف. فهي لا تتوّج مساراً، ولا تختم عملاً، ولا تجزي شراً أو خيراً، ولا تخاطب مخاطباً.

أصل وفصل

فعلى خلاف محن الحروب التي تمتحننا منذ نحو نصف قرن، أكانت حروبنا "البينية"، على قول الاقتصاديين، أم حروب "مخرجات" الغير و"توريد" (هم)، لا يسع مَن وقعت عليه الزلزلة، ولو طوال ثوانٍ قليلة انتهت "على خير" (إنْ جاز مثل هذا الكلام)، تعليل مصابه في الثواني هذه. فالنازل إلى ملجأ المبنى الذي يقيم فيه هرباً من تقاصف عُصْبتين من أهل الحي أو الحيَّين الجارين أو المنطقتين المتقابلتين، ومن قنص الواحدة "ناس" الأخرى، هذا النازل الهارب واللاجئ لا يعدم تفسيراً مفهوماً ومشتركاً لحاله. فهو يقيم حيث يقصف، أو يقنص، أو يحاصر، أو يداهم، أو يخطف... لعلل كثيرة هي أصله وفصله و"ما قد فعل"، على قول الشاعر ابن الوردي الواعظ ("لا تقل أصلي وفصلي أبداً...").

ولا تبيح الزلزلة استدعاء العلل من أي صنف كانت هذه العلل. ويقطع خبراء العلم أي أمل في التعليل. فيردّدون، من غير كلل ولا شفقة، أن علم الزلازل لا يَعلم أين تزلزل الأرض زلزالها، ولا متى، ولا لماذا في هذا الوقت، وفي هذا المحل، وعلى هذه القوّة والدرجة والعُشر من الدرجة، 7.7 أو 7.8 المروّعتين، أو 4.6، الرحيمة ربما- وفي أعقاب الواقعة. ويقتصر خبرهم على تسمية الفالق بين طبقتين توصفان، في طبعهما، بالحركة المدمّرة. وهذا لا يقي من أضعف الشر، و"لا ينتطح فيه عنزان"، على قول ينسب إلى نبي الإسلام.

"لحظة الزلزلة ليست من الوقت الإنساني، ولا من تَعَاقُبِه وأخذ بعضه بتلابيب بعضه الآخر، ولا من قلقه، على معنى حركته وخروجه من استغراقه في نفسه. فهي فجوة في سلسلة الأوقات أو اللحظات"

والحق أن ما أكتبه في انقطاع التذكّر، وسدّ بابه، قد لا يصدق في حال ذاكرة الزلازل. وهذا ذروة السخرية المريرة. فأنا، حين انتبهتُ من حسباني الصوت الموقّع، والصادر عن سرير الشرفة، واصطدامه ببلاط الغرفة، صادراً عن ستارة الخشب على الشرفة، وأدركتُ، أو أدركت أعصابي وعضلاتي وفقراتي، أن السرير وجدران الغرفة والطبقة الثامنة والمبنى والمباني، حوله وجلد المدينة، وقشرة الأرض بين عريش مصر جنوباً وأرضروم شمالاً والبوكمال شرقاً- تصطك كلها في وقت واحد، كان إدراكي هذا صدى متأخراً 66 عاماً لزلزلة تعود إلى سنة 1956.

التعرُّف

يومها، أو ليلتها، في أواخر شتاء هذا العام أو أوائل ربيعه، كنتُ نائماً في صالة منامة مدرسة داخلية، في بلدة على سفح جبل صنين، ولم ينقضِ على نوم معظم التلامذة، في الساعة التاسعة المقررة، إلا نحو الساعة. واستيقظتُ على سريري المعدني الضيّق، وعلى ارتجاف جاف وعصبي يهز السرير طولياً، ويصدم الرأس باللوح الذي يتصدّر السرير.

وحسبتُ أن أحد التلامذة، وهو عائد من المرحاض على الأرجح، يلاعبني وربما يلاعب غيري وهو يمر بين صفّي الأسرّة. وعلت جلبة الاهتزاز المعدنية، وملأت المنامة. وتمايَلَ جناح المنامة كله تَمَايُلَ سفينة تتخبّط في عاصفة هوجاء، وعلى ظهرِ موجٍ متلاطم، فلاحَ من نوافذ الصالة، وجهاتها الثلاث المطلة على السماء وعلى البحر، صدى ضوء بعيد قبل أن يغور الضوء في لجّة الموجة ووراء جدارها الشاهق والمفترس.

ولم يحل تصدّع جدار الكنيسة الأمامي، في جوار الجرس الضخم تحت قبّته- حين دُعي تلامذة القسم الداخلي إلى ارتداء ثياب دافئة فوق لباس النوم، وانتعال أحذيتهم، وإلى الخروج إلى الملعب المبلل بمطر قليل صفاً واحداً وهادئاً- (لم يحُل) بيننا وبين قضاء الساعتين التاليتين، ونحن ننتظر الارتدادات وانقضاءها، في لعب نهاري صاخب وممتع. وينبغي أن يشبه هذا اللعب يومذاك، لعب الأولاد السوريين بين الحطام المتراكم والمتخلّف عن التأديب، والحرب على الإرهاب "الكوني"، والتهجير، والتهدئة، والمصالحات، معاً.

"أدركتُ أن الزلزلة واقعة أو حادثة من صنف يمحو، من غير بقية، كل أثر قد يُحمل على نسب، أو تاريخ، أو رابطة اجتماع وتعارف. فهي لا تتوّج مساراً، ولا تختم عملاً، ولا تجزي شراً أو خيراً، ولا تخاطب مخاطباً"

فما لا يختبره الأولاد، أو معظمهم، هو التصدُّع الذي يصيب الجدران والسقوف والشرفات والسلالم، طبعاً ومن غير شك، ولكنه يصيب الوقت وعمارته. فانفكاك اللحظة الحاضرة من الآتية ومن الماضية المنصرمة، وانقطاعها من التالية، المتوقّعة والمعلّقة على وقت يتمسك بكمونه وانقباضه، وانزواء الأوقات التي سبقت وانصرمت في صور باهتة ربما خوف الإقرار بثراء الحياة واستحالة الإقرار بمضض تركها الماثل- هذه كلها قد لا يعرفها الأولاد، أو هم يحتمون منها بتفرّق أوقاتهم وضعف اتصالها ولحمتها.

"الواقع" المميت

واللعب الذي يخلف المحنة بعد بعض الوقت، غالباً، قد يدل على سلامة الوقت وشفائه من عدوى التصدُّع ومصابه. فالتحجّر على اللحظة، ودوران هذه على فجوتها، ينقضيان وينطويان ظاهراً، مع عودة الأرض إلى سكونها الظاهر، وتنفيس الحمّى التي اعترتها. ولا يلبث مَن أصابه الهلع، على النحو الذي تقدّم وصفه، أن ينتبه إلى دوام شعوره المتقطّع ربما بعمل الصدع في كيانه ووقته. وعلى مثال الزلزلة، ينتاب الواحد المنصرف إلى حياته العادية يقين لئيم بأن "الأرض"، وما عليها وما تحتها، تُبيّت غدراً وشيكاً، بل فات وقتُ البيات وباشرت الأرض فعلتها، والناس لا يدرون.

ويخرج اليقين بالعودة، المخيفة، من أي سياق متماسك. فكأنه، شأن الوسواس أو الرُّهاب، وشأن الهذيان، يحيا حياةً خاصة وعلى حدة. ولكن هذه الحياة تزور، فجأة من غير مقدّمة، حياة المرء المشتركة، وتحلّ ضيفة عليها، وتربض عنوة على حيّز منها. وفي هذه الأوقات يبرز "واقع" لا يشبه الواقع المجتمِع من روافد حياة الواحد السائلة، وحياة أو حيوات الناس، السائلة بدورها، والنازعة على الدوام إلى الآتي الذي تستقبله، والمقيمة في نزوعها هذا.

فـ"واقع" التصدُّع (وعدواه) عارٍ عُريَ لحظة الزلزلة المتحجّرة على حاضرها المتحجّر أو المترمّد، على قول جان تارديو، الشاعر الفرنسي (1903- 1995). ومثل هذا "الواقع" لا حيلة لمَن هو بإزائه إلا الصدوع أو القبول المميت به. وهو مميت لأنه منفي من النزوع إلى الآتي واستقباله، وجهاً لوجه، ومنقطع من الماضي الذي ينسب الواحد إلى "أجداد" و"آباء" يصنعهم على شاكلته، ويفبرك منهم هويّته. ومن يحدّق في "واقع" مثل هذا كالناظر إلى وجه الغورغون، شبه الإلهة اليونانية، يتحول إلى حجر.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

منبر الشجعان والشجاعات

تكثُر التابوهات التي حُيِّدت جانباً في عالمنا العربي، ومُنعنا طويلاً من تناولها. هذا الواقع هو الذي جعل أصوات كثرٍ منّا، تتهاوى على حافّة اليأس.

هنا تأتي مهمّة رصيف22، التّي نحملها في قلوبنا ونأخذها على عاتقنا، وهي التشكيك في المفاهيم المتهالكة، وإبراز التناقضات التي تكمن في صلبها، ومشاركة تجارب الشجعان والشجاعات، وتخبّطاتهم/ نّ، ورحلة سعيهم/ نّ إلى تغيير النمط السائد والفاسد أحياناً.

علّنا نجعل الملايين يرون عوالمهم/ نّ ونضالاتهم/ نّ وحيواتهم/ نّ، تنبض في صميم أعمالنا، ويشعرون بأنّنا منبرٌ لصوتهم/ نّ المسموع، برغم أنف الذين يحاولون قمعه.

Website by WhiteBeard
Popup Image