بحكم إقامتي في اللاذقية، وردتني العديد من رسائل الاطمئنان من أصدقاء في الخارج في الأيام التالية لحدوث الزلزال. كنت أتجنّب الردّ بصراحة، وأحاول الإيحاء بأننا بخير، لكن كل شيء حولي كان يذكّرني بأننا لسنا بخير، حتى ذلك السؤال المختصر اللطيف البسيط: " أنتو بخير؟".
هناك مقولة شعبية نتداولها نحن السوريين بكثرة في السنوات الأخيرة، تقول: "اللي بيشوف مصيبة غيرو بتهون عليه مصيبتو".
هناك مقولة شعبية نتداولها نحن السوريين بكثرة في السنوات الأخيرة، تقول: "اللي بيشوف مصيبة غيرو بتهون عليه مصيبتو". أكره هذه المقولة.
أكره تلك المقولة، وفي داخلي أمقت قائليها. أجدها محاولة رخيصة للتطبيع مع أنانيتنا، وجعنا، ذلّنا وقلّة حيلتنا، نحن الذين نتشارك المصيبة والكارثة، ولو بنسب متفاوتة. صحيح أننا لا نتقاسم تلك الكوارث بالتساوي، لكنها تمرّ علينا جميعاً، توجعنا جميعاً، فتجهز على بعضنا، وتترك الباقين منّا لجولات لاحقة.
أوليست كل نكبة مُضافة، وكل قصة في زلزال أو حرب، همّاً جديداً يُثقل أرواحنا؟! أولسنا جميعاً منكوبين ومقهورين بشكل أو بآخر؟! ماذا يختلف لجوء عن آخر أو كارثة عن أخرى؟! وهل تختلف نكبتنا من غضب الطبيعة عن نكبتنا من غضبنا وأحقادنا وانقساماتنا منذ عقد ونيّف؟!
في ليلة الزلزال المشؤومة تلك، غفوت على حماسة الدخول في عمل جديد وتجربة جديدة، وصحوت على شقتنا تهتزّ بنا كعلبة ثقاب أو مكعب ألعاب في يد طفل صغير. هكذا نحن السوريين، فرحتنا قصيرة كندف الثلج، لا تلبث أن تظهر حتى تختفي. نعيش أيامنا كبهلوان يمشي على خيط رفيع، أو جندي يسير في حقل من الألغام، وما بين لغم وآخر، تمرّ أيامنا.
أنذكّر جيداً كيف استيقظت هلعة في فجر ذلك اليوم، أنا وشقيقتي، وركضنا نحو غرفة والديّ، وصرخت بنبرة حاولت أن تكون هادئة: "غطوا راسكن بسرعة باللحاف والمخدة".
أو ليست كل نكبة مُضافة، وكل قصة في زلزال أو حرب، همّاً جديداً يُثقل أرواحنا؟! أولسنا جميعاً منكوبين ومقهورين بشكل أو بآخر؟! ماذا يختلف لجوء عن آخر أو كارثة عن أخرى؟!
بدت تلك الثواني لي كساعات، كان كل شيء يهتّز من حولي، أضواء "اللدات" التي تملأ بيتنا تعود وتختفي، استشعرت إمكانية انهيار المبنى في أي لحظة في حال استمر الزلزال لبضعة ثوانٍ أخرى. مقاومةً إحساسي بالدوار، أمسكت بالجدار الفاصل بين غرفتنا وغرفة والديّ، ونظرت بعيني شقيقتي بخوف، وقلت لها بنبرة استسلام: "طوّل كتير! يارب بقا يوقّف".
أمسكت هاتفي وحاولت الاتصال بشقيقي الذي يقيم مع عائلته الصغيرة على بعد مئات الأمتار. لم يكتمل الاتصال، فاعتقدت أن مكروهاً قد أصابهم. لقد نسيت وسط تلك المخاوف انتهاء رصيد جوالي.
بدأت أسمع أصوات الباكين في الخارج، واستطعت تمييز صوت جارتنا، من الطابق الثالث، وبكاءها الهيستيري، خلال محاولتها الهرب مع عائلتها.
كعائلة لأبٍ نصف مُقعد، وفي شقة في الطابق الرابع، لم يكن الهرب خياراً ممكناً لأيٍّ منّا. بعد مرور دقائق قليلة على حدوث الزلزال، أقنعت أبي بصعوبة أن يرافقنا إلى الأسفل، خوفاً من أن يكون ذلك مقدمة لزلزال أكبر.
استند والدي بيده اليمني على كتفي و باليُسرى على عُكازه. كان الزلزال يهدّد حياتنا في الداخل، وعاصفة مطرية تُحاصرنا في الخارج، وكأن غضب الأرض والسماء حلّ علينا.
عندما بدأت الهزّات الارتدادية الخفيفة، عدنا إلى المنزل آملين بانتهاء تلك التجربة المرعبة عند هذا الحدّ.
في تلك اللحظة، بدأت أصوات سيارات الإسعاف تدوّي في الخارج. كان بوسعنا توقّع بعض ما سنشاهده على محطات التلفزة ووسائل التواصل الاجتماعي بعد ساعات قليلة. ففي بلد نسمع فيه دورياً عن انهيار المباني، بفعل الفساد والمخالفات وسوء التنفيذ، بوسعك توقّع عدد الأسر التي سترقد تحت الأنقاض إثر زلزال كهذا.
بعد جولات الحرب و الفقر والموت اليومي، نجونا. بعد الزلزال الأول والثاني، نجونا. ماذا تحضّر لنا البلاد من جولات قاتلة أخرى؟ لا أعلم. لكننا أحياء. نحن أحياء، كما تقول لوائح الضحايا.
في الصباح، بدأنا نعي حجم الكارثة أكثر. لقد أيقظت رؤية آلاف البيوت المُنهارة على رؤوس أصحابها لدينا خوفاً لم نستشعره حتى في دقيقة الزلزال الطويلة تلك. وعندما بدأنا باستيعاب هول ما جرى، أخبرت أمي بأنني سأبقى برفقة أبي، وأنّه علينا التصرّف بعقلانية أكبر في حال تكرّر ما جرى، حتى لا نخسر حياتنا جميعاً.
" أنا من ستبقى معه"، اعترضت شقيقتي على اقتراحي. رحتُ بعدها أفكّر بسيناريو الزلزال المُقبل، وكيف سأحاول إنقاذ حياة أبي وحياتي في حال بقينا.
في الظهيرة، تكرّر الزلزال بشدة توازي تقريباً شدة الزلزال الأول، لكن مدّته هذه المرّة لم تتجاوز الثلاثين ثانية. قرّرنا الخروج من المنزل، والبقاء في السيارة، واختبرنا لأول مرة الإحساس المُرّ بأن يصير بيت الإنسان وملجأه خطراً محدقاً على حياته.
لا أعلم. لكننا أحياء. نحن أحياء، كما تقول لوائح الضحايا.
في طريقنا إلى الريف، قاصدين منزل أحد أقاربنا، شاهدت اللاذقية كما لم أشاهدها من قبل: وجوه خائفة، أناس يفترشون الحدائق والشوارع صغاراً وكبار، أصوات سيارات الإسعاف تملأ المكان، ازدحام كبير وحركة نزوح جماعي من المدينة إلى الريف، مشهد ذكّرني بأفلام ومسلسلات الزومبي، الذي ما إن يهبط على مدينة، حتى يحوّلها إلى مدينة أشباح.
وكمن يستعيد شريط حياته سريعاً، فكّرت بمتلازمة الموت والنزوح التي تُلاحقنا، مرةً بفعل الإنسان ومطامعه، ومرةً بفعل الطبيعة. فكّرت بذلك الإحساس العميق بالظُلم والقهر الذي نعيشه نحن السوريين منذ عقود، حتى صار النفس الذي نأخذه كثيراً علينا. فكّرت بتلك الثواني القصيرة الفاصلة بين بقاء منزلنا واحتمالية انهياره.
في بلاد لا تمنحك رفاهية البداية من الصفر، فكّرت بأفضلية الموت أو الحياة من الصفر. هل نجونا حقاً، أم أننا قطعنا مرحلة في حياة أشبه ما تكون بألعاب الفيديو، في نهاية كل مرحلة وحش أو خطر أو موت يتربص بنا؟ فكرت بمن قضوا تحت أنقاض منازلهم، وتركوا من خلفهم يتامى وأرامل ومكلومين. فكّرت بمن صارت منازلهم مهددة بالسقوط في مدينة باتت أسعار عقاراتها تناطح أسعار الشقق في ضواحي باريس.
لقد اختبرنا تلك اللحظات المرعبة، وعشنا مخاوف أن نصير صورةً بملابس نوم ممزقة تحت أنقاض منزلنا، أو تتعفّن جثثنا تحت أكوام الحديد والبيتون الباردة، أوننتهي أيتاماً وجائعين في مركز للإيواء، بعدما سقطنا سهواً من صورة عائلية سعيدة على حائط منزلنا.
بعد جولات الحرب و الفقر والموت اليومي، نجونا. بعد الزلزال الأول والثاني، نجونا. ماذا تحضّر لنا البلاد من جولات قاتلة أخرى؟
لا أعلم. لكننا أحياء. نحن أحياء، كما تقول لوائح الضحايا.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع