في 20 تشرين الأول/ أكتوبر من العام 1938، نشر الأديب والمفكر المصري توفيق الحكيم في مجلة "آخر ساعة" مقالاً بعنوان "أنا عدو المرأة.. والنظام البرلماني" واصل فيه انتقاده الساخر والغاضب للنظام البرلماني، وشبّه البرلمان بالمرأة على أساس أنهما يشتركان في طبيعة واحدة، هي الثرثرة، ولا يخفى على أحد ما في هذا التشبيه من تنميط للنساء.
المقال كان يمتلئ رغم سخريته اللاذعة بعبارات نارية ضد "الحزبية العمياء والخطب العصماء"، وضد البرلمان وأداء نوابه، من ذلك قوله: "فإذا اتضح لكم أن البرلمان وما ينفق عليه من آلاف الجنيهات سنوياً هو غرم لا غنم فيه، فحولوه في الحال إلى مصنع طائرات تحتشد فيه- بدل جموع الأعيان الموسرين- أفواج العمّال المصريين من أولئك المساكين المتمسكنين العاطلين الذين يلتقطون فتات المقاهي والبارات، حتى يعملوا عملاً شريفاً، ويشيدوا مجداً خالداً".
اقترح المقال تشكيل حكومة كفاءات تعمل بنظام لا يعرف الحزبية، مشترطاً أن يكون ذلك لوقت معلوم. ولم يُخفِ الحكيم انبهاره بالقوة الصناعية التحديثية للدكتاتوريات النازية والفاشية الصاعدة في أوروبا آنذاك، ورأى أن سر قوتها وصعود نجمها يكمن في نبذها للنظام الحزبي البرلماني، وقال إن الفم إذا سكت واليد إذا عملت استطاع الإنسان أن يتقدّم ركضاً.
عندما كتب مقاله هذا، في العام 1938، كانت الحكومة الحزبية القائمة هي وزارة حزب الأحرار الدستوريين الذي كان يُنعت بأنه حزب الأعيان. واعتبرت الحكومة عبارات المقال إهانة لها تستحق تحويل كاتبها، وكان موظفاً حكومياً، للتحقيق تمهيداً لمعاقبته بالطرد من وظيفته. وصدر بالفعل قرار العقوبة في صيغة أمر وزاري بتاريخ 26 تشرين الأول/ أكتوبر 1938، مستنداً إلى المادة 144 من القانون المالي والتي تحظر على الموظفين الحكوميين أن يبدوا علانية ملاحظات أو آراء أو نزعات سياسية.
لكن العقوبة لم تكن الفصل، حسب ما انعقدت عليه نية رئيس الوزراء ورئيس الحزب محمد محمود باشا، بل اقتصرت على "خصم خمسة عشر يوماً من راتب الأستاذ توفيق الحكيم مدير إدارة التحقيقات في وزارة المعارف". وحمل الأمر الوزاري توقيع المفكر المعروف محمد حسين هيكل الذي كان وزيراً للمعارف آنذاك.
لم يكن هيكل وحده مَن عمل على تخفيف العقوبة ضد الكاتب، بل انضم إليه وزير آخر كان كذلك مفكراً معروفاً وعضواً في الحزب الحاكم، هو الشيخ مصطفى عبد الرازق، وكان وزيراً للأوقاف في الحكومة الحزبية.
يلخص الحكيم الواقعة في كتابه "شجرة الحكم السياسي" بقوله: "كان من نتائج الغضب على المقال المذكور أن قرر رئيس الحكومة في ذلك الوقت أن يفصلني، ولكن بعض أعضاء وزارته من الأدباء والمفكرين من أمثال الدكتور هيكل باشا والشيخ مصطفى عبد الرازق استمهلوه رغبة في معالجة الأمر بوسيلة أخرى، فصاح فيهم: أنتم أدباء مع بعض وتريدون المماطلة. ولكن إذا أنتم لم تنهوا الموضوع بعقاب رادع سريع في ظرف أسبوع فلا بد من إجراء حاسم في اجتماع مجلس الوزراء القادم".
ولعل السؤال الأهم في تلك الواقعة يتعلق بالمدى الذي ذهب إليه توفيق الحكيم في خصومته مع النظام البرلماني وما إذا كانت خصومته قد امتدت لتصير خصومة مع الديمقراطية بمجملها.
النظام الصالح والأشخاص الصالحين
"النظام البرلماني في مصر هو الأداة الصالحة لتخريج الحكام غير الصالحين". هكذا كانت خلاصة رأي توفيق الحكيم بالنظام الحزبي الذي عرفته مصر في الفترة ما بين الثورتين، ثورة آذار/ مارس 1919 وثورة تموز/ يوليو 1952، وما بين الحربين العالميتين، وهي المرحلة الليبرالية أو شبه الليبرالية التي عرفها التاريخ المصري في القرن العشرين.
صاحب رواية "عصفور من الشرق"، وهي رواية رائدة في رصد قصة احتكاك مثقف شرقي بأنظمة الحضارة الغربية، ونشرها الحكيم بعد عشر سنوات من عودته إلى مصر من فرنسا، كان يرى أن أزمة النظام السياسي في مصر ليست أزمة تتعلق بمكونات النظام السياسي (الأحزاب، القصر، الاحتلال)، ولا بخلق آليات كفيلة بتقويم ممارساته، لكنها أزمة النظام البرلماني ذاته وفي مجمله، ليس في مصر وحدها ولكن في أوروبا والعالم وقتئذ.
لم يُخفِ توفيق الحكيم انبهاره بالقوة الصناعية التحديثية للدكتاتوريات النازية والفاشية الصاعدة في أوروبا، ورأى أن سر قوتها وصعود نجمها يكمن في نبذها للنظام الحزبي البرلماني، وقال إن الفم إذا سكت واليد إذا عملت استطاع الإنسان أن يتقدّم ركضاً
هذا الرأي، "رأيي الذي لم أقتنع بعد بخطئه"، كتب عنه الحكيم مجدداً في مقال نشره في تشرين الثاني/ نوفمبر 1938، بعنوان "لماذا انتقد النظام البرلماني"، قال فيه: "كل البلاء الذي نحن فيه ناشئ من نظامنا السياسي على وضعه الحالي، ويظهر أن مصر ليست وحدها الواقعة في هذا البلاء".
ثم أخذ يستشهد بمقتطفات من أقوال سياسيين أوروبيين تدين النظام البرلماني، من بينها قول رئيس وزراء فرنسي أسبق "إن البرلمان الفرنسي لم يعد له في البلاد اعتبار... فقد كف عن مراقبة أعمال الحكومة بالمعنى الحقيقي... إنما الحكومة اليوم تحكم ارتكاناً على شبه توكيل من أغلبيتها البرلمانية".
حمل هذا المقال أيضاً إدانات لاذعة للنظام البرلماني على خلفية صعود الدكتاتوريات الأوروبية، لكنه كان يحمل في باطنه معنى لم يتضمنه بشكل ظاهر، وهو أن إدانة النظم البرلمانية ليست إلا بقدر جنوحها بقارب التعددية السياسية إلى ساحل الحكم الدكتاتوري باسم الأغلبية المطلقة.
في مقال آخر له منشور في نفس الفترة، جاء على شكل حوار ساخر، بعنوان "الزعيم الوطني وكاتم السر"، كان الشخصان المقصودان في العنوان هما: الزعيم الوفدي مصطفى النحّاس باشا، وسكرتير حزب الوفد في تلك الفترة مكرم عبيد باشا.
في الحوار المتخيل يتساءل النحّاس باشا عن السبب في كثرة عدد خصوم حزب الوفد كلما شكل الوفديون الوزارة، ويجيبه سكرتير الوفد قائلاً: "وهل تجرؤ حكومة على القبض على زمام الحكم المطلق إلا على أثر أغلبية برلمانية شبه مطلقة؟ فإذا أردت أن تعيب سلوكنا فعب علينا أننا حُزنا أغلبية مطلقة أو شبه مطلقة في يوم من الأيام! إنه عيب النظام لا عيبنا نحن. نعم، حتى الديمقراطية تحمل ضدها بين ثناياها، وسُمها في طياتها!".
عيوب التعددية وخطورة حكم الفرد
لا يمكننا أن نعزو غضب الحكيم العاصف ضد النظام البرلماني في تلك الفترة إلى فشله في تحقيق طموح المصريين في الاستقلال وجلاء القوات البريطانية فحسب، بل أيضاً إلى مبدأ الحكيم المثالي ونظرته الثورية اللذين تولّدا كقوة سياسية دافعة من بؤرة أحداث ثورة 19.
رأى توفيق الحكيم أن حكم الفرد لا تظهر حسناته إلا إذا نظرنا إليه في فترة معيّنة لكن عيوبه تظهر لنا إذا نظرنا إليه جملة. وعلى النقيض، تظهر عيوب النظام النيابي إذا نظرنا إليه في فترة معيّنة ومكان معيّن، وتظهر حسناته إذا تناولناه جملة
في روايته "عودة الروح" التي كتبها في فرنسا ونشرها بعد عودته إلى مصر، يتحدث الحكيم عن انفجار الثورة في أعقاب قرار سلطات الاحتلال نفي سعد زغلول ورفاقه المطالبين بالاستقلال على هذا النحو: "ما غابت شمس ذلك النهار حتى أمست مصر كتلة من نار، وإذا أربعة عشر مليوناً من الأنفس (تعداد المصريين في ذلك الوقت) لا تفكر إلا في شيء واحد: الرجل الذي يعبّر عن إحساسها.. والذي نهض يطالب بحقها في الحرية والحياة، قد أُخذ، وسُجن، ونُفي، في جزيرة وسط البحار!".
تصاحبنا تلك الروح المتفجرة بالثورة عبر صفحات رواية الحكيم في رصدها لأحداث الثورة وتقلباتها عبر أبطالها الثلاثة عبده ومحسن وسليم، الذين انخرطوا بكل جوارحهم في صفوف الثوار. لكننا لا نعرف من صفحات الرواية كما يقول الروائي نفسه: "ليس يدري أحد على التحقيق أكان الثلاثة قد اندمجوا في سلك جمعية سرية أم ماذا؟... لقد أصبحت حجرة السطح مستودعاً لرزم هائلة مكدسة من المنشورات الثورية".
إغفال دور الجمعيات الثورية التي تشكلت تلقائياً في طول البلاد وعرضها، وكان لها الفضل في إنجاح التحركات الشعبية، كان من بين أعراض انبهار الحكيم بسحر الحركة الجماهيرية الكبرى العارمة، وبتمحورها حول شخصية القائد والزعيم سعد زغلول، وفقاً للمبدأ الذي صاغه الحكيم في "عودة الروح" بعبارة: "الكل في واحد".
ثم جاء صعود الأنظمة الدكتاتورية في أوروبا بزعاماتها المثيرة لحماسة الشعوب خلال الثلاثينيات ليشعل أصداء هذا السحر الثوري الملتهب، فكان مصدراً ملهماً لغضب الحكيم العاتي على "ثرثرة" النظام الحزبي والبرلماني.
اعتبر توفيق الحكيم أن الحكم المثالي لا يكمن في المبادئ المثالية بل في الأشخاص المثاليين، لأن المبادئ ضعيفة أمام الأشخاص، والأشخاص هم أكبر خطر على المبادئ
لكن هل يعني هذا أن الحكيم كانت لديه نزعة خصومة تجاه تعددية وديمقراطية النظام الحزبي والبرلماني على نحو مجمل؟
هذا السؤال أجاب عنه الحكيم بالنفي في مقارنة أجراها بين النظام النيابي ونظام حكم الفرد في أحد مقالاته. رأى أن حكم الفرد لا تظهر حسناته إلا إذا نظرنا إليه في فترة معيّنة لكن عيوبه تظهر لنا إذا نظرنا إليه جملة. وعلى النقيض، يقول الحكيم، تظهر عيوب النظام النيابي إذا نظرنا إليه في فترة معيّنة ومكان معيّن، وتظهر حسناته إذا تناولناه جملة.
لكن المفارقة أن المخرج من المأزق البرلماني للوصول إلى نظام سياسي مثالي يحقق طموحات المصريين في تلك الآونة كان مؤدياً عند الحكيم إلى الدكتاتورية بالفعل. يقول إن الحكم المثالي لا يكمن في المبادئ المثالية بل في الأشخاص المثاليين، لأن المبادئ ضعيفة أمام الأشخاص، والأشخاص هم أكبر خطر على المبادئ.
غير أن الحكيم لم يفطن إلى أن تلك المثالية في النظر إلى المبادئ والأشخاص والأنظمة السياسية تودي إلى الدكتاتورية. فما من مبدأ أو شخص أو نظام سياسي بوسعه تجنب نقاط الضعف أو قدر النقص البشري حتماً. ومن هنا يأتي امتياز الأنظمة الحزبية في تعدديتها التي تكفل لها القدرة على اكتشاف نقاط ضعف وأوجه عيوب مكوناتها بوضوح، بما في ذلك عيوب الحزبية والتعددية والديمقراطية.
تلك كانت خلاصة تجربة عصفور الشرق السياسية بعد تحليقه من فرنسا إلى مصر، وهي الخلاصة الحكيمة التي سطرها في ما بعد في كتابه الشهير الذي انتقد فيه ثورة يوليو وخطورة حكم الفرد كما تمثلت في سياسات الرئيس جمال عبد الناصر، وأسماه "عودة الوعي".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...