شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
البيت الإيطالي، أول وآخر ما تركتْه الفاشية الإيطالية في مصر

البيت الإيطالي، أول وآخر ما تركتْه الفاشية الإيطالية في مصر

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رود تريب

الأحد 9 أكتوبر 202201:52 م

في النصف الثاني من القرن الماضي، في مدينة بورسعيد، انتشر عدد كبير من صالات السينما ودور العرض، إلا أن أحد أشهر صالات السينما وقتذاك كانت سينما رويال، حيث اعتاد المواطنون التردد عليها كواحدة من صالات المدينة، لكن هذه السينما تحديداً تختلف عن باقي دور العرض، حيث تقع داخل مبنى شيدته الدولةُ الفاشية الإيطالية لتبقى عيناها على قناة السويس والبحر المتوسط الذي هدف موسوليني لتحويله لبحيرة إيطالية.

بعد أن سطع نجم موسوليني، وسيطرت الفاشية وميليشات القمصان السوداء على إيطاليا، وأحكم قبضته عليها، ثم بدأت خطواته الاستعمارية تسير بخطى واثقة، وبعد احتلاله لأثيوبيا عام 1935، شعر موسوليني أن من الحكمة إيجاد زريعة وعين تراقب خط مدن قناة السويس، ومن هنا جاء قرار بناء البيت الإيطالي بمدينة بورسعيد الذي بدأت أعمال البناء فيه عام 1935، افتتح عام 1938 قبيل الحرب العالمية الثانية (1939- 1945).

البيت الإيطالي أو "لا كازا دي إيتاليا"، هو المبنى الوحيد الذي لا يزال عليه حتى الآن لافتة تمجد دوتشي موسوليني والفاشية الإيطالية ومنقوش عليها رموزها وعلمها.

نشأة البيت الإيطالي

اعتقد موسوليني أن النصر سيكون حليفَه في الحرب العالمية الثانية التي كانت بدأت إرهاصاتها بالفعل، وكان وقعها مؤكداً. وبعد أن حسم موسوليني رأيه بانضمامه بالحلفاء وعلى رأسهم الجيش النازي الألماني، ليضمن سيطرته على البحر المتوسط، كان يرى بنظرته السياسية أن وجوده في مدينة كبورسعيد، وعلى مقربة من مجرى الملاحة لقناة السويس، هو أمر لا بد منه. فبني البيت الإيطالي الذي لم تتضح هويته في بادئ الأمر، فكان أغلب الظن أنه يمثل زريعة الفاشية الإيطالية قرب قناة السويس أكثر منه سفارة أو قنصلية. لكن النية من تواجده على مساحة أمتار من مدخل قناة السويس ومكان وجود تمثال دي ليسبس سابقاً هي أن يكون مقراً لحكم الفاشية بعد انتصارهم في الحرب، وبذلك يكون موسوليني سيطر بذكاء على المدينة الهامة ملاحياً قبل حليفه النازي.

صمم البيت الإيطالي على شكل كتاب مفتوح، وفي منتصف الكتاب يقع كعب الكتاب، والذي تمثله اللافتة الأخيرة الممجدة بموسوليني في العالم، والتي يُحكى أنه كان لها شقيقة في روما دُمّرت أثناء الحرب أو بعدها على يد الثوار الإيطاليين.

البيت الإيطالي بمدينة بورسعيد هو المبنى الوحيد الذي لا يزال عليه حتى الآن لافتة تمجد دوتشي موسوليني والفاشية الإيطالية ومنقوش عليها رموزها وعلَمها

"إيطاليا، مرة أخرى في قلب الإمبراطورية"؛ كلمات مكتوبة على لافتة افتتاح البيت الإيطالي بتاريخ 28 أكتوبر 1938، وهي تؤكد نظرة موسوليني إلى مصر بأنها يجب أن تكون قلب الإمبراطورية الإيطالية مرة أخرى، مشيراً للإمبراطورية الرومانية، وبذلك  يكون موسوليني كالإمبراطور الروماني أغسطس.

وعلى سطح البيت الإيطالي صُمّم برج صغير يشكف خط قناة السويس كاملًا من أعلى، ويظهر المدينة الصغيرة بوضوح.

البيت الإيطالي كان إذناً لتزايد المهاجرين الإيطاليين للمدينة

كأن الدوتشي لم يكن الشخص الوحيد المؤمن بأن مصر مصيرها أن تؤول للإمبراطورية الرومانية الجديدة، فقد تزايد عدد الجالية الإيطالية في المدينة حتى وصل إلى قرابة 30 ألف نسمة. لم يكن بالطبع البيت الإيطالي هو السبب الأول، فكان العمال الإيطالين في القناة متواجدين بالفعل، لكن يبدو أن إيماناً بقلوب الجالية الإيطالية كان يوحي لهم أن بورسعيد ستكون ذات مستقبل واعد للإيطاليين، بعد فتح أبواب القناة على مصرعيها لهم.

بعد هزيمة الفاشية في الحرب، وإعدام موسوليني عام 1945 رمياً بالرصاص على يد الثوار الإيطاليين، بعد محاولة هروبه لسويسرا، تحولت ممتلكات الحلفاء إلى دول المحور، وبالتالي آل حكم البيت الإيطالي إلى الحكومة البريطانية، التي حولته للنادي البريطاني، حيث حوى عدداً من المحلات وأماكن للترفيه. ثم بعد عدة سنوات قامت الحكومة الأمريكية بافتتاح مكتبة في أحد جناحيه، والآخر تحول إلى سينما رويال، ليتحول من بيت للحكم إلى بيت ثقافي.

واستمر الوضع حتى النكسة، إلى أن أُغلق، وتحولت المدينة إلى مدينة الأشباح التي هجر معظم سكانها إجبارياً، ولم يتبق سوى "المستبقين" من الرجال الذي يخدمون الجيش في مدن خط النار، وعلى رأسها بورسعيد.

لا زال البيت الإيطالي واقفاً ليكون شاهداً على عقود من الاختلافات السياسية المحلية والدولية التي تركته بيتاً للأشباح، ورغم تسجيله ضمن المباني التراثية في المدينة، إلا أن حالته المعمارية الحالية يرثى لها

إلا أن الحياة لم تعد للبيت الإيطالي بعودة المهجّرين أو "المهاجرين" كما أحبت الحكومة المصرية تسميتهم عام 1975، بل هجرته الحياة إلى أواخر ثمانينيات القرن الماضي حتى قرر محافظ بورسعيد عام 1987 إعادة افتتاحه وتحويله لمركز ثقافي، بالتعاون مع السفارة الإيطالية في مصر. إلا أن القرار لم يدم طويلاً وما لبث البيت الإيطالي أن أغلق أبوابَه مرة ثانية في وجه الجمهور.

لماذا لم يحاول أحد إزالة اللائحة التي تمجد موسوليني والفاشية؟

تعاقبت الحكومات المسيطرة على البيت الإيطالي، فبعد تحوله لنادٍ بريطاني، ومن بعدها أمريكي، ثم مركز ثقافي مصري بالتعاون مع السفارة الديموقراطية الإيطالية، لم تزل اللافتة التي تمجد الفاشية والإمبراطورية الإيطالية وموسوليني باقية على أعلى البيت. هل كان وجودها وتحت حكم دولة معادية للفاشية الإيطالية إمعاناً في ذل الدوتشي موسوليني؟ أم أن إزالتها كانت ستشوّه الواجهة الأمامية بشكل كلي؟ من المؤكَّد أن اللافتة لا تبدو عليها أي محاولات لطمس معالمها، بل هي من أوضح معالم البيت الإيطالي، والتي يبدو وكأن الزمن تناسى أن يمرّ عليها كما مرّ على باقي المبنى. فلم يصدأ سوى علم الفاشية الذي رسم على دائرة معدنية فوق الباب الرئيسي، في حين لم يبلَ رمز الفاشية نفسه على اللوحة.

ولكن السؤال الذي يبدو أهمّ: كيف سمح البريطانيون وقتذاك ببناية البيت الإيطالي الذي لم يتورع في كشف مخططاته على الملأ في اللافتة التي أعلنت بشكل واضح ضمَّ مصر كجزء من الإمبراطورية ومؤسسها موسوليني؟ البيت الإيطالي، حاله كحال كثير من المباني التراثية في بورسعيد، تتداول قصته كتاريخ شفهي، وتندر المصادر التي تؤرخ له بشكل رسمي، فلا زال السماح بإعادة بنائه أمراً غامضاً.

بيت الأشباح

لا زال البيت الإيطالي واقفاً ليكون شاهداً على عقود ودهور من الاختلافات السياسية المحلية والدولية التي تركته بيتاً للأشباح، وبرغم تسجيله ضمن المباني التراثية في المدينة، إلا أن حالته المعمارية الحالية يرثى لها، فقد امتد شق بطول المبنى فصل الجناح الأيمن من المبنى عن باقي المبنى. كما تكسرت شبابيكه الزجاجية، وخلعت مقاعد السينما من الصالة، وتشققت حيطانه، وسقط دهانها.

غرف لا متناهية، بقايا سينما، وستائر تشبه كالوس المسرح، بقايا مكتبة، وغرف للدراسة، لون أزرق فاتح فاقع بقاياه تزين الجدران، ومتشردون ومتسولون يختبئون بالمبنى المفتوحة نوافذه نظراً لتهالكها، وحيوانات شاردة وجدت مأوى لها بعيداً عن أذى المارة. يقف المبنى في المساء مهجوراً ليشبه بيت الأشباح. هذا آخر ما تبقى من العمارة الفاشية، والبيت الذي صممه المعماري الإيطالي اللامع كليمنتي بوزيري فيتشي، والذي يبدو في تصميمه متأثراً بمعمار الحركة البنائية الروسية التي ظهرت بعد الثورة، خاصةً عام 1919.

وبرغم ترامي المباني على جانبيه، والتي بنيت بعد سنوات من تأسيس البيت الإيطالي، إلا أنه ما زال سارقاً للأنظار، تلفه حالة من الغموض التي تجذب الكثيرين لمحاولة دخوله واستكشافه رغم إغلاقه منذ سنوات عديدة. "كازا دي إيتاليا"، أول وآخر ما تركته الفاشية في مصر بجانب جثث جنودها المدفونة في مقابر العلمين، وشاهد على حلم موسوليني بجعل المتوسط بحيرةً إيطالية، وحلمه بأن يصبح الإمبراطورَ أغسطس الجديد، المبشر بمجد الرومان الذي ما لبث أن زال أسرع مما تصوّر.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard
Popup Image