الثورة تأكل أبناءها. مقولة شهيرة تنطبق على محمد نجيب، الرجل الذي بدأ، ولو شكلاً، قائداً لثورة يوليو المصرية ثم صار أول رئيس لجمهورية مصر قبل أن تدور به الأحوال، ويصبح أول مَن تلفظه تلك الثورة وتلقي به في الإقامة الجبرية.
يصفه البعض بالرئيس بالمظلوم الذي قادته رغبته في تحقيق الديمقراطية إلى الهاوية، ويرى آخرون أنه كان له دور محدد لا يجوز تجاوزه، وأن قيادة الثورة حق لمن صنعها فعلياً.
قائد الثورة آخر مَن يعلم بها
محمد نجيب في-مكتب الرئاسة عام 1953
منذ بداية تشكيل تنظيم الضباط الأحرار عبر عدد من شباب الجيش من ذوي الرتب العسكرية الصغيرة، تقررت الاستعانة بشخصية تحمل رتبة كبيرة وذات سمعة طيبة لتعطيهم ثقلاً داخل الجيش وتوحي بأنهم يمتلكون الخبرة والجدية، انطلاقاً من تقديرهم أن الشعب لن يقبل بتلك الثورة عندما يعلم أن قادتها ليسوا من ذوي الخبرات وأنهم مجرّد ضباط صغار. وبعد أن طُرحت أسماء أكثر من شخص يستطيع القيام بهذه المهمة، استقر الأمر على تولية اللواء محمد نجيب قيادة التنظيم. وساعد اسم نجيب في استقطاب الكثيرين في الجيش إلى تنظيم الضباط الأحرار نظراً للاحترام الذي كان يحظى به.
محمد نجيب في نادي الضباط
لعبت مشاركة نجيب في تنظيم الضباط الأحرار دوراً مهماً في انتشار التنظيم بين العسكريين وجذب الضباط إليه، حسبما أشار محمد ثروت في كتابه "الأوراق السرية لمحمد نجيب"، وهو ما تؤكده شهادات عدد من الضباط الأحرار. وكان منصب نجيب الرفيع في الجيش عاملاً حاسماً في نجاح ثورة الضباط الأحرار، فهو الذي سرّب إليهم خبر اكتشاف تنظيمهم وحثّهم على الإسراع بتنفيذ خطة الانقلاب التي شارك في وضعها، من دون تحديد موعدها، قبل فوات الأوان. إلا أن عبد الله إمام يعرض في كتابه "ديمقراطية ثورة يوليو" شهادات بضعة أعضاء تنظيم الضباط الأحرار تتفق على أن نجيب لم يكن يعرف تاريخ الثورة حتى قبل اندلاعها بثلاثة أو أربعة أيام.
هل أراد تحويل مصر إلى ديمقراطية ومنعه عبد الناصر؟ يختلف المؤرخون حول تقييم تجربة محمد نجيب، أول رئيس لجمهورية مصروتؤكد تلك الشهادات أنه عندما حلّت الساعة الثالثة من فجر يوم 23 يوليو، بسط تنظيم الضباط الأحرار سيطرته على جميع القوات المسلحة في القاهرة وخارجها، وحينذاك تلقى عبد الناصر اتصالاً من نجيب أبلغه فيه أن وزير الداخلية آنذاك مرتضى المراغي طالبه بتهدئة الأمور في رئاسة الجيش. وفي تلك الساعة كان نجيب في منزله، وكانت المرة الأولى التي يبلغه فيها عبد الناصر بقيام تنظيم الضباط الأحرار بالسيطرة على البلاد.
نجيب... واجهة للثورة وليس قائدها
بعد الثورة، حجز نجيب لنفسه صدارة فريق الثورة، فعُيّن رئيساً للوزراء عقب 50 يوماً من نجاحها، وكان عبد الناصر وزير الداخلية في تشكيلته الحكومية، ثم صار رئيساً للجمهورية في 18 يونيو 1953، بعد قرار إلغاء الملكية وقيام الجمهورية. وكان الاتفاق بين أعضاء مجلس قيادة الثورة على أن تكون القرارات بالتوافق بينهم وعلى أن تصدر بالأغلبية، لكن موقع نجيب الرسمي جعله المسؤول عن تلك القرارات التي تحمل اسمه. كان الأمر حينذاك حكماً فعلياً لمجلس قيادة الثورة يبقي نجيب صورياً في موقع مَن يسيّر الأمور. ولكن الرئيس رفض هذا الأمر وطالب بممارسة سلطاته كاملة، فكانت بداية الخلاف مع مجلس قيادة الثورة.محمد نجيب في مكتب رئيس الأركان بعد الاستيلاء عليه مع باقي أعضاء مجلس قيادة الثورة
يقول محمد نجيب في كتابه "كنت رئيساً لمصر" إن نفوذه بدأ في التزايد في مصر والسودان في ذلك الوقت، ما أدخل الشك بينه وبين أعضاء مجلس قيادة الثورة. ولاحظ أنهم بدأوا يعقدون اجتماعاتهم دون دعوته، وإذا حضر عن طريق الصدفة أي اجتماع توقفوا عن الحديث وغيّروا الموضوع، حتى وصل الأمر إلى عقدهم اجتماعات خارج مقر المجلس.
مراحل الفرقة بين الطرفين
بداية الخلافات كانت باعتراض نجيب على تدخل مجلس قيادة الثورة في شتى أمور الحكم، واستقالة الوزراء المدنيين آنذاك. ليس ذلك فحسب بل امتدت اعتراضات نجيب على عدد من القرارات التي صدرت رغماً عن إرادته، وأبرزها ترقية عبد الحكيم عامر من رتبة صاغ (رائد) إلى لواء وتعيينه قائداً للجيش، بما يتعارض مع أعراف المؤسسة العسكرية. الرئيس المصري محمد نجيب مع يوسف صديق
وعارض نجيب عدم حل جماعة الإخوان المسلمين ضمن قرار حل الأحزاب السياسية، وعارض إصدار قانون توزيع الملكية الزراعية، لأنه رأى أن ذلك سيعلّم الفلاحين الكسل وسيؤثر على الإنتاج الزراعي ويؤدي إلى صراعات بين الطبقات. وراح نجيب يفكّر في إعادة الجيش إلى الثكنات وتحويل الحكم إلى حكم مدني.
نجيب يُظهر العين الحمراء
بعدما ازدادت الخلافات بين نجيب ومجلس قيادة الثورة، وفي ظل اتهام نجيب لبعض أعضائه بالفساد واستغلال النفوذ وإهدار أموال الدولة، آثر الرئيس المصري في فبراير 1954 الاستقالة من جميع المناصب التي يتولاها، وهي رئاسة الجمهورية ورئاسة مجلس قيادة الثورة ورئاسة الوزراء. وبعد موافقة مجلس الثورة على استقالة نجيب، اندلعت تظاهرات شعبية في مصر والسودان طالبت بعودته، وهو ما حصل. مع عودته إلى الحكم بضغط شعبي، بدأ نجيب في طلب صلاحيات أكثر، وأصبح أقوى مما كان في البداية. ومع زيادة المشاكل في أنحاء البلاد وتنظيم الإضرابات، عقد مجلس قيادة الثورة اجتماعاً في 17 أبريل 1954 برئاسة جمال عبد الناصر وتم الاتفاق على الاكتفاء بتولي نجيب رئاسة الجمهورية والرئاسة النظرية لمجلس قيادة الثورة، بينما تولى جمال عبد الناصر رئاسة مجلس الوزراء. وبالفعل بدأ في تشكيل الحكومة منذ اليوم التالي، وبذلك نُزعت بعض الصلاحيات رسمياً من نجيب.الديمقراطية هي السبب الحقيقي للخلاف؟
يرى بعض معارضي نجيب أن الحياة السياسية في مصر لم تكن تسمح في ذلك الوقت بتنظيم انتخابات ديمقراطية، كما طالب، إذ لم تكن هناك أحزاب سياسية بعد حلها، ولم يكن الشعب قد استعد لتولي السلطة بعد خروجه من عقود من الحكم الملكي، وكان وجود الإقطاعيين سيحول دون إتيان الانتخابات بأي جديد يعبّر عن الثورة ويحقق أهدافها.محمد نجيب أثناء زيارته لخان يونس عام 1953
في المقابل، يرى آخرون أن مجلس قيادة الثورة لم يكن ضد الديمقراطية، والدليل أنه بالفعل تم الاستفتاء على تولية جمال عبد الناصر الحكم، وبذلك أصبح أول رئيس مصري مُنتخب بعدما كان نجيب أول رئيس مصري مؤقت ومُعيّن، ما يعني أن عبد الناصر حكم استناداً إلى خيار الشعب. ولكن الدكتور رفعت يونان يقول في كتابه "محمد نجيب زعيم ثورة أم واجهة حركة؟" إن عودة نجيب بعد اندلاع التظاهرات عقب استقالته في فبراير 1954 تعني أنه تولى قيادة البلاد بإرادة الشعب وليس بإرادة مجلس قيادة الثورة كما في المرة الأولى، وأنه في ذلك الوقت كانت لديه الفرصة للانتقام من خصومه بمجلس قيادة الثورة، لكن شخصيته الطيبة وتسامحه حالا دون ذلك.
نهاية صراع نجيب وعبد الناصر
ثارت الأزمة الكبرى بين الطرفين في مارس 1954، وهي الأزمة التي يرى البعض فيها صراعاً على السلطة فيما يرى آخرون أنها صراع بين توجه نحو الحكم المدني وآخر مصرّ على إبقاء العسكر في الحكم. وكان عنوان الأزمة مطالبة نجيب بإعادة الحياة البرلمانية والدستورية وإلغاء الأحكام العرفية وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين. محمد نجيب وجمال عبد الناصر في بدايات الثورة
وقد صدرت بالفعل قرارات بهذه الأمور في 25 مارس 1954، لكن تظاهرات مطالبة بإسقاط الديمقراطية، يعتبر البعض أنها مدبّرة، غيّرت مسار الأمور فأُلغيت القرارات السابقة بعد ثلاثة أيام، وخسر نجيب معركته. وأتت محاولة اغتيال جمال عبد الناصر في ميدان المنشية بالإسكندرية في 26 أكتوبر 1954، حينما أُطلقت عليه ثماني رصاصات، من دون أن تصيبه، لترسم نهاية للصراع بين محمد نجيب وجمال عبد الناصر. فقد تم على إثرها اتهام أعضاء من جماعة الإخوان المسلمين بمحاولة اغتيال عبد الناصر، وحُكم بالإعدام على سبعة منهم، وخُفّض الحكم إلى المؤبد على المستشار حسن الهضيبي، مرشد الإخوان السابق.
محمد نجيب رافعا يديه مع أعضاء مجلس قيادة الثورة وفي الصورة جمال عبد الناصر وصلاح سالم
بعد ذلك تم توجيه الاتهام لنجيب بالتخابر مع جماعة الإخوان المسلمين، وفي 14 نوفمبر 1954، أصدر مجلس قيادة الثورة قراراً بإعفائه من رئاسة الجمهورية، وتحديد إقامته بفيلا المرج خارج القاهرة، وحرمانه من حقوقه السياسية مدة عشر سنوات.
ظل محمد نجيب قيد الإقامة الجبرية حتى عام 1971، ولم يتم وضع اسمه في كتب التاريخ المدرسية، إلا في عهد الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك الذي أسكنه في منزل تابع لرئاسة الجمهورية، ووضع اسمه في متحف مجلس قيادة الثورة. وعند وفاته في 28 أغسطس 1984، شُيع جسده في جنازة عسكرية.
محمد نجيب لحظة خروجه من قصر الرئاسة بعد إقالته في 14 نوفمبر
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع