في مطلع شباط/ فبراير الحالي، عادت أسرة هنادي الطيب إلى الخرطوم من القاهرة التي استقرت فيها ثلاث سنوات، بسبب موجة الغلاء التي ضربت الأسواق المصرية إذ أصبح دخلها الشهري لا يلبّي احتياجاتها هناك.
تقول هنادي (34 عاماً)، وهي أستاذة لغة إنكليزية في مدرسة خاصة، أنها طلبت من أسرتها المكونة من 4 أفراد قبل عام ونصف العام، الاستقرار في القاهرة من أجل علاج والدتها المصابة بسرطان الثدي، ودراسة إحدى أخواتها في كلية جامعية، نظراً إلى شح الجرعات في السودان وتدنّي الخدمة العلاجية، بحيث ظلت تُرسل إليهم شهرياً 5 آلاف جنيه مصري (نحو 333 دولاراً قبل بداية العام، والآن تُعادل 161 دولاراً تقريباً)، كانت تكفي لاحتياجاتهم، بما في ذلك العلاج.
وتشير، خلال حديثها لرصيف22، إلى أنه بعد تدنّي قيمة الجنيه المصري مقابل العملات الأخرى، مما أدى إلى ارتفاع أسعار السلع والخدمات، صارت المبالغ التي كانت تُرسلها غير كافية، خاصةً أنها لا تملك دخلاً إضافياً يمكنها عبره توفير المزيد من المال.
وتضيف: "كان أسرتي تستأجر شقةً بنصف المبلغ والنصف الآخر لتلبية احتياجاتهم، لكنه ما عاد يكفي بعد ارتفاع أسعار السلع الاستهلاكية هناك، ولهذا اضطررت إلى قطع علاج والدتي وتعليم شقيقتي".
وخلال استقرار أسرتها في القاهرة، كانت هنادي تعيش في سكن داخلي مع طالبات جامعيات من الخرطوم، وانتقلت الآن لتعيش مع أهلها الذين استأجرت لهم منزلاً بمبلغ 175 ألف جنيه سوداني، أي ما يُعادل 300 دولار تقريباً.
تُقرّ هنادي بأن راتبها لا يكفي لاحتياجات أسرتها في السودان، خاصةً بعد بيعها مستلزمات منزلهم المستأجر في الخرطوم قبل الهجرة إلى القاهرة، وهو ما دفعها إلى البحث عن شراء بعضها مجدداً بالتقسيط الشهري، لكنها تقول بحسرة: "من الأفضل أن نجوع في بلدنا".
ما هو مصير أربعة ملايين سوداني يعيشون في مصر، بالإضافة إلى 50 ألف لاجئ؟
لماذا فضّل السودانيون مصر؟
وإذا كانت هنادي اتخذت القرار الصعب، إلا أن إبراهيم فضل الله، الذي يعيش مع أسرته في القاهرة منذ عامين، لا يزال متردداً، برغم إدراكه أن دخله لا يسمح له بالاستقرار فيها.
وفي حزيران/ يونيو 2020، باع فضل الله منزله في العاصمة الخرطوم، واشترى شقةً في القاهرة استقر فيها مع زوجته وأطفاله، ليعمل في مجال جلب الأواني المنزلية والأدوات الكهربائية من مصر وبيعها في السودان، محققاً دخلاً صافياً يصل إلى ما يُعادل 600 دولار في الشهر، تزيد أو تنقص قليلاً.
لكن موجة الغلاء التي ضربت الأسواق المصرية، جعلت فضل الله الذي يتقاسم ما يجنيه من التجارة مع والديه، يُفكر في العودة والاستقرار في الخرطوم مع ترك ابنه الذي يُدرس في القاهرة، على أن ينتقل هذا الابن إلى سكن مع الشباب وتأجير مسكنهم لتمويل نفقات تعليمه.
وفضل الله، واحد من جملة أربعة ملايين سوداني يعيشون في مصر، وفقاً لتقرير صادر في 7 آب/ أغسطس 2022، عن منظمة الهجرة الدولية، بالإضافة إلى 50 ألف لاجئ آخرين.
وجانب كبير من هذا العدد هجر السودان، وفقاً لفضل الله الذي تحدث إلى رصيف22، بسبب انخفاض العملة المحلية وارتفاع أسعار السلع الغذائية والبطالة ورداءة خدمات الصحة والتعليم، بالإضافة إلى انقطاع التيار الكهربائي لساعات عدة يومياً وعدم توفر الأمن، نتيجةً للأزمة الاقتصادية التي تعيشها البلاد منذ 2011، والتي تفاقمت خلال السنوات الأخيرة بصورة غير محتملة، مما جعل ثلث السُّكان بحاجة إلى مساعدات إنسانية في 2023.
كما دفع الإغلاق المستمر لقطاع التعليم والتعليم الجامعي، بسبب جائحة كورونا والاحتجاجات المستمرة منذ نهاية العام 2018، بالإضافة إلى عدم الاستقرار السياسي، كثيرين من السودانيين إلى تفضيل الدراسة في الجامعات المصرية المستقرة وذات التعليم الجيد مقارنةً بالمناهج السودانية.
اتفاق الحريات الأربع
وأدى اتفاق الحريات الأربع المبرم بين الخرطوم والقاهرة، وهي حرية التملك والتنقل والإقامة والعمل، إلى أن تصبح مصر جذابةً للمزيد من السودانيين الباحثين عن التعليم الجيد والعلاج والفارين من السُّلطة والحرب والطامحين إلى استغلالها كمعبر للهجرة إلى أوروبا، يُضاف إلى ذلك ميزة قربها الجغرافي والتسهيلات الحكومية وتدني أسعار السلع الغذائية والخدمات والعقارات فيها مقارنةً بالخرطوم.
ويقول فضل الله، إن بعض الأسر السودانية التي تقيم بصفة دائمة في مصر، تعتمد على مدّخراتها التي جنتها من فائض بيع منازلها وممتلكاتها في السودان وشراء أخرى في القاهرة، فيما يعيش البعض الآخر على الأموال التي يرسلها لهم أبناؤهم المغتربون في الدول الأخرى، أما البقية فهم يعملون في مهن هامشية لا تدرّ عليهم دخلاً كبيراً.
ويضيف: "العقبة الأساسية أن مصر لا تتوفر فيها فرص عمل، ومع ذلك هناك سودانيون يعملون في التجارة بين القاهرة والخرطوم وسودانيات يعملن في تصنيع وبيع المنتجات المحلية مثل العطور، إلا أن الكثير من الوافدين يعيشون على مدّخراتهم أو التحويلات التي تصلهم من ذويهم".
هل توافرت شروط العودة
ويبدو أن الأسباب التي جعلت مصر خياراً مُفضّلاً لملايين السودانيين، خاصةً في ما يتعلق بالاقتصاد، أصبحت تنتفي تدريجياً، حيث فقد الجنيه المصري قرابة الـ50% من قيمته الشرائية خلال أقل من عام، مصحوباً بارتفاع معدل التضخم وزيادة الدين العام، مما جعل القاهرة تخضع لشروط صندوق النقد الدولي.
تتمثل هذه الشروط في توسيع شبكة الأمان الاجتماعي، وإبعاد سيطرة الجيش على الاقتصاد، وبيع أصول الدولة وإدارة العملة عبر منهجية سعر الصرف المرن المدار، مما يفقد البنك المركزي جزءاً من سيطرته في التدخل لمنع انهيار الجنيه المصري.
صحيح أن القاهرة تملك الآن احتياطاً من العملة الصعبة يمكّنها من تمويل نفقات الاستيراد لفترة، لكن هذا الاحتياطي إن لم يصحبه تنفيذ إصلاحات يمكن أن يتناقص، مما يعني المزيد من انهيار قيمة العملة وارتفاع معدلات التضخم، ومن ثم زيادة في أسعار السلع والخدمات.
يظل الاقتصاد القوي هو ما يجذب الوافدين إلى الدول، وبمجرد أن يتداعى يفر من وفد إلى دول أخرى بحثاً عن الأشياء التي جاء من أجلها، هكذا تقول التجارب الكونية ومصر لن تكون استثناءً.
هل باتت السودان أفضل لأهلها من القاهرة بعد تردي أوضاعها الاقتصادية مؤخرا؟
زيادة الأعباء
وفي ظل هذه الأوضاع الاقتصادية الصعبة، بدأ الإعلام المصري يُطالب بفرض ضرائب على المغتربين في وطنهم، وقد يكون ذلك بدفع من السلطة أو أحد أجنحتها.
ولم تعلن السلطة في مصر حتى الآن، عن خطة فرض الضرائب على الوافدين، لكن إذا استمر الاقتصاد في التدهور ربما لن تجد مناصاً من فرضها.
وفي ظل هذه المخاوف، يؤكد فضل الله على أن كثيرين من السودانيين المستقرين في مصر، يُفكرون في العودة إلى بلادهم، لكن سهام عمر ليست من بينهم.
تعيش سهام في منطقة الفيصل في القاهرة، وهي منطقة يفضّلها السودانيون الذين بدؤوا في تكوين مجتمعاتهم الخاصة فيها، مع ابنتها التي تدرس في كلية خاصة للطب وابنها الباحث عن عمل.
وتقول لرصيف22: "إنها تعتمد على الأموال التي يُرسلها زوجها المغترب في المملكة العربية السعودية، لذا لا ترغب في العودة إلى السودان إلا بعد انتهاء دراسة ابنتها، وربما تمكث فيها إلى الأبد".
هرباً من الأوضاع المعيشية البائسة فرّ الكثير من السودانيين إلى الجارة في الشمال، أملاً بحياة أفضل وأوضاع أيسر، لكن للحظ أحكاماً، فالقاهرة التي كانت ملجأ شبه آمن، باتت هي الأخرى في مهبّ الريح، فهل يعودون للمعاناة في أوطانهم أم أن الصعاب في الخارج ما زالت أقل وطأةً عليهم؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...