مازال المشهد محفوراً في ذاكراتي كما لو حدث بالأمس، لم أكن قد تعديت الخامسة بعد عندما قُدّر لي الوقوف أمام حلقة دائرية لنسوة متشحات بالسواد، وقد علق التراب على أطراف عباءاتهن، تتوسطهن امرأة عجوز ترقص كطير ذبيح في ارتعاشه الأخير، بينما يتردّد في الأفق صوت النسوة الحزين بأبيات مرنمة لم أتبين معناها. أثار المشهد دهشتي وأسئلتي، لمَ ترقص تلك المرأة لموت أحدهم؟ أهي سعيدة لموته؟ لمَ تلتف حولها تلك النسوة دون أن توقفها أحداهن، ولمَ تهتز تلك النساء طرباً وهن يرددن الأغاني في طقس صادم كالموت؟ لمَ لا يستنكر أحد تلك الأمور ويوقف تلك المهزلة؟
ذلك ما دار في عقلي كطفلة قبل أن أعرف أن حزن الصعيد مختلف، كما أخبرتني أمي يومها، وكما أدركته بالشكل الأصعب، بمعايشة الأمر مرة تلو الأخرى حتى عرفت وقتها القاعدة الأولى: الرقص ليس طقساً من طقوس الفرح فحسب.
يفتتح الحزن في قريتنا بصوت شيخ الجامع عندما يعلن عبر ميكروفون المئذنة عن موت أحدهم، حتى صارت خرفشة صوت الميكروفون في غير مواعيد الصلاة بمثابة انتظار خبر سيء، ينصت له الجميع ترقباً، فتخرج النساء إلى عتبة بيوتهن، ويترك فيه الرجال أعمالهم، ترقباً لإعلان اسم المتوفي ومن أي عائلة يكون، حتى تبدأ مراسم العزاء وتتجه الجموع حيث تقام الجنازة.
قبل أن أعرف أن حزن الصعيد مختلف، كما أخبرتني أمي يومها، وكما أدركته بالشكل الأصعب، بمعايشة الأمر مرة تلو الأخرى، عرفت وقتها القاعدة الأولى: الرقص ليس طقساً من طقوس الفرح فحسب
رصدت عيني في صغري الكثير دون فهم، عباءات سوداء طويلة تجرجر التراب خلفها، نسوة يهلن الطين على وجوههن وصدورهن صارخات: "بوه... بوه"، امرأة تقول الشعر، فتردده خلفها أخريات، عرفت فيما بعد أن ذلك ما يعرف بـ "العدّيد". أذكر فيما أذكر الآن:
حزينة علي اللي راح بأوجاعه/ لا حكيم نفعه ولا الدوا فاده
حزينة على اللي راح بوجعه/ لا حكيم فاده ولا الدوا نفعه
عرفت القاعدة الثانية: الشِعر خطر، فهو يفتت القلب كفتات الخبز الذي تصنعه جدتي لإطعام طيورها.
يرسل الجميع لأهل الميت صواني كبيرة مليئة بأطباق من الجبن والمِش والعدس، يمكن حدوث بعض الاستثناءات، كإرسال اللحم لإطعام المعزين من الرجال إن كان الميت عجوزاً أنهكه المرض، أما إن كان الميت شاباً أو صبية فلا مجال لتقديم اللحوم وتناولها. وقتها علمت القاعدة الثالثة: الطعام الجيد خيانة للحزن.
لا مجال لوجود ذلك الفراغ المادي، فرغم سعة البيوت والشارع والمندرة "مجلس الرجال"، فلا مجال لشبر فارغ، الكل حاضر، لا أعذار تقال ولا مسافات تبعد، واجب العزاء كالفريضة لا يُفَوّت، أمي تخبرني: "واجب العزاء أهم من واجب الفرح"، الأكتاف المائلة تسند بعضها والأيدي تخفي ارتعاشها في اللمة، وقتها علمت القاعدة الرابعة: الحزن وسط العائلة عيد.
الكتابة ذاكرتي الشخصية التي أسطر فيها كل ما لا أريد نسيانه، وأكثر ما أخشاه أن أنسى ذاكرة الحزن التي شكلتني، فأقصى ما أريده أن أخبر أحدهم بقولي: "أنا حزينة"، فيدرك أن أمر الحزن بالنسبة لي مختلف قليلاً في هيئته عن الآخرين
كالبيوت القديمة من ألف عام، وكالنخيل الباسقة لعشرات السنين، وكرسوم الكعبة والخط النسخ الذي تقشرت بعض حروفه من جملة "حج مبرور وذنب مغفور" على جدران البيوت، ككل متجذّر في الأرض، تسرد خيوط حكايات الراحل ببطء وتروي، غرزة من كل فم تصنع جلباباً وعباءة لمن رحل، رجلاً كان أم امرأة. بعد ثلاثة أيام من الوفاة عرفت القاعدة الخامسة: نحكي كيلا ننسي، النسيان أمر غير مسموح بحدوثه.
في طفولتي، راقبت بصمت دون مشاركة في الحدث، ككاميرا تصوير تجول أرجاء المكان، تسجّل الأحداث والأصوات دون إدراك واضح لأبعاد المشهد. لم أكن أعرف ما شكلته تلك القواعد داخلي، حتى كبرت فصرت أرى الأشياء بتلك العين، أشاهد على شاشة التلفاز عروضاً استعراضية فلا أهتم كثيرا بحركات الراقصة قدر اهتمامي بالنظر في عينيها، سعياً لاكتشاف هل هو رقص فرح أم رقص حزن متخف؟ أقرأ نصاً لأحدهم فأرى رقص كلماته على الورق، هل ذلك نص مبهج في ذاته أم أن كاتبه يراقص حروفه كي يخفي جرحا ما؟ يطربني لحن فأدقق في صوت المغني، هل يهتز صوته طرباً أم يعدّد على حاله ويشكي أحواله؟
رأيت كيف يمكن أن يحزن الناس بشكل عميق دون قسوة.
تلمست كيف تُصنع الحكايات وكيف تُغزل بحب كي تبقي جذوة الذاكرة مشتعلة، وكيف نستمد منها شيئاً من القوة، دعابة جدتي المفضلة- رحمها الله- عند حدوث أمر يصعب على المرء احتماله، قولها باسمة: " بكرة تبقى حكايات". لقد نشأت وسط قوم يصنعون الحكايات وينتظرون حدوثها، يدركون قيمتها في تعزية المرء وتعزية أحبابه لفراقه، موقنين بسحرها في استحضار الحكمة وجلب الصبر وغرس بذور المحبة في عالم قاس، يستمر دون رحمة ويمضي دون وداع يليق بالجحيم الذي تركه الراحل في أفئدة محبيه.
رأيت كيف يمكن أن يحزن الناس بشكل عميق دون قسوة، حزن من عرف وأدرك، فنظر وتأمل، فحكي بصدق دون مبالغة وربّت على الكتف دون ادعاء، تلك القاعدة الأخيرة أصبحت منهجي نحو الكتابة ومن أجلها ربما كتبت.
الكتابة ذاكرتي الشخصية التي أسطر فيها كل ما لا أريد نسيانه، وأكثر ما أخشاه أن أنسى ذاكرة الحزن التي شكلتني، فأقصى ما أريده أن أخبر أحدهم بقولي: "أنا حزينة"، فيدرك أن أمر الحزن بالنسبة لي مختلف قليلاً في هيئته عن الآخرين.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...