شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
أيام الزلزال والكاميرا وكوكبي في إدلب وأصوات

أيام الزلزال والكاميرا وكوكبي في إدلب وأصوات "طالعني يا عمّو"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة نحن والفئات المهمشة

الأربعاء 8 فبراير 202301:33 م


وأنا أصل إلى مكان المجازر التي اعتدنا عليها نحن السوريين، خلال الـ11 عاماً الماضية، غالباً ما تعود بي ذاكرتي إلى مجزرة أخرى شبيهة لها، شكلاً أو مضموناً أو مكاناً. كنت في كُلّ مرّة أحاول أن آخذ نفساً عميقاً وأكمل تغطيتي الصحافية محاولاً أن أمارس فعل الإنكار الذي يُصاحبني منذ سنين. أراكم ذكريات عشوائيةً من هنا وهناك، كي أهرب مما عشته من مآسي منذ قررت أن أصبح إعلامياً، بعدما قرر شعبي أن يثور على نظام استبدادي يحكم منذ عشرات السنين. نكبة اليوم، أعادت إليّ شريط ذكريات تلك المجازر، كاملاً من دون نقصان ذرة ألم.

في ليلة الزلزال، أنهيت عملي وعدت من أحد مخيمات النازحين الذي كان يعاني من أهوال العاصفة التي تخيّم على البلاد. جهّزت المادة الصحافية التي كنت أعدّها عن المخيم، وتوجهت للقاء أصدقائي في بيت أحدهم. على الطريق، التقيت بصديق آخر كان عائداً إلى منزله، فاصطحبني معه لشرب فنجان من القهوة كون صديقنا الذي ننوي السهر لديه لا يعترف إلا بالشاي كضيافة.

اجتمعنا كأصدقاء اعتدنا كل مساء أن نأخذ وقتاً مستقطعاً من كمّ المآسي التي نراها ونعيشها يومياً، فننزع عنّا ما يُخفف عن أكتافنا دائماً، نضحك ونلعب الورق ونتذكر الأيام القليلة التي كنا فيها نجد للضحك مكاناً على وجوهنا في وضح النهار.

في أثناء لعبي الورق، تلقيت اتصالاً من زميل لي كنت معه في الصباح، يُخبرني فيه بأن أجهّز نفسي ولا أطيل السهر كونه يريد أن يأخذني معه من الصباح الباكر لتغطية أوضاع مخيم آخر تأثر بالعاصفة، وهكذا حصل. كانت الخطة ستمضي لولا ذاك الذي يُسمى زلزالاً، والذي قلب المخيم الذي كنا نخطط للذهاب إليه لتغطية سوء أوضاع أهله مع الشتاء، إلى المكان الآمن الوحيد على امتداد الشمال السوري، والعاصفة تحوّلت من مأساة إلى أمر ثانوي لا يُقارَن بهول ما أصابنا. فجر الإثنين تاريخ سيبقى إلى سنوات مديدة قادمة، هذا إذا كان لنا حظ بالبقاء أساساً.

عادة الموت بغارة

فجر الإثنين، سمعت صوتاً مخيفاً كهدير الطائرات الحربية حين تفتح جدار الصوت على علوّ منخفض، وسريعاً تغيّر كُل شيء. كُل ما حولنا صار مزيجاً من الخراب والدمار والصراخ والأرض ما زالت ترتجّ، ولا زلت أنا أحاول أن أستمع إلى صوت الطيران الحربي. هرعت إلى جوار أحد الأعمدة لاختبئ في ظله، فالعامود قد يحميني أكثر وقت القصف، من الأماكن الأخرى في المنزل. هكذا تعلّمنا في سنوات بؤسنا الممتدة. ولكن طال زمن الرجّة، ووعيت بأن ما يحصل هو أمر مختلف. الزمن الحقيقي للغارات أقل، أيضاً هكذا تعلّمنا.

خرجت إلى الشارع؛ إنه يوم القيامة، أمامي مدينة كاملة عمّها الظلام، فلا صوت فيها سوى صوت بكاء الأطفال وصراخ الناس ولا يقطع سيمفونية البكاء تلك سوى الهزات الارتدادية

بعد دقيقة توقف الارتجاج، وبدأت الاتصالات، فرأيت نفسي وقد صحوت من الصدمة وقلت إنّ علي النزول من الطوابق العليا. فعلت ذلك، ونزلت إلى الأسفل، ثم خرجت إلى الشارع؛ إنه يوم القيامة، أمامي مدينة كاملة عمّها الظلام، فلا صوت فيها سوى صوت بكاء الأطفال وصراخ الناس ولا يقطع سيمفونية البكاء تلك سوى الهزات الارتدادية للزلزال الذي لم نشهد مثله من قبل، مع أننا ظننا نحن السوريين أن 12 عاماً من القتل المتواصل، جعلتنا نرى كل شيء، حتى نجوم الظهر كما كنا نقول في أحاديثنا في فترة ما قبل الزلزال.

المهنة والمهنية

بدأت التصوير بهاتفي لما يحصل أمامي كوني تركت الكاميرا في المنزل. بعد دقائق قررت أن أعود لآخذها كونها ستساعدني في التصوير خاصةً للإضاءة الليلية. أمشي أو أركض وأنا أحاول تناسي البكاء الذي حولي، متذرعاً بالصحافي الذي في داخلي كي لا يخرج الطفل الذي في داخلي، وأبدأ معهم بالصراخ "أريد أمي"، كما يفعلون؟

تحت ستار المهنية، حاولت إسراع الخطى كي أجلب معداتي الصحافية حتى أنني لم أعد أشعر إلا بزخات المطر التي تهطل على رأسي. أكملت طريقي حتى وصلت إلى المنزل، تناولت معداتي وعدت إلى الطريق الذي تحوّل إلى طريق يوم الحشر. وجدت صديق والدي "أبو إبراهيم" في حينا يصرخ منادياً إياي. فتحت الكاميرا ووجهتها صوبه، وتركته يحكي أو يصرخ لم أعد أذكر.

يقول أبو إبراهيم: "استيقاظنا في ساعات الفجر الأولى أمر طبيعي، فعلى مدار السنوات التي تلت الثورة كان ذاك أمراً عادياً، ولكن غير العادي اليوم هو سبب الاستيقاظ، فعادةً يكون السبب هو قصف من النظام السوري أو حلفائه الروس والإيرانيين ولكن هذه المرة كان زلزالاً. قصف طبيعة". يصرخ أبو إبراهيم عليّ وهو يتحدث، ويحاول في الوقت نفسه أن يهدّئ من روع طفله الذي يبلغ من العمر 4 سنوات.

أدخل إلى الكارثة بكاميرات تجعلني على كوكب آخر. في تلك اللحظة، جملة واحدة علقت في رأسي ولا تزال، طفلة تقول لأحد المسعفين: "طالعني يا عمو بكون إلك خدّامة". جملة ينتهي معها كل ما يُمكن أن أجمعه لاحقاً

وأنا أبحث عن وسيلة للوصول إلى الإنترنت، ابتعدت عن "أبو إبراهيم"، وهو ما زال يتحدث إلى صغيره ويحاول تخفيف حدة الخوف لديه بالرغم من علامات الذعر التي تظهر عليه كما على كل من في هذه المساحة المظلمة.

مع بزوغ الفجر، بدأت رحلة الصعود مجدداً إلى المنزل، لأخرج إلى سطح البناء الذي أسكنه في محاولة للوصول أو الحصول على إشارة إرسال، فكانت الرسائل تأتي تباعاً كلما صارت الرؤية أوضح، وهنا بدأت تتكشف الكارثة؛ مئات الأبنية في مدينتي، إدلب، على الأرض وآلافٌ فُقد التواصل معهم. كان المشهد كارثياً، وكلّما ازداد ضوء النهار، تكبر الكارثة، أو نكتشف واقعنا أكثر.

"طالعني يا عمو"

من فوق، بدأت شيئاً فشيئاً أكتشف هول الكارثة. عرفت أن البناية في شارع الثلاثين قد هبطت على من فيها. ركضت باتجاه ذاك المكان وعندما وصلت رأيت الناس تهرع وتركض من كل مكان وإلى كل مكان، ولا شيء غير أصوات سيارات الإسعاف التي بدأت تصل لتُنقذ من يُمكن إنقاذه.

أدخل إلى الكارثة بكاميرات تجعلني على كوكب آخر. عناصر الدفاع المدني والكوادر الإسعافية تحاول معرفة ما إذا كان هناك أحياء داخل المبنى المدمر. هذا يركض من هنا، وهذا يتحدث عبر جهازه، وآخر يصرخ في محاولة للوصول إلى أيّ ناجٍ. أشقّ طريقي إلى حيث الركام. سيارة للدفاع المدني وأخرى لمنظومة الإسعاف التابعة لمديرية صحة إدلب، وشُبّان يحاولون مساعدة الدفاع في انتشال من بقي حياً، وأنا أحاول أن أبعد الكاميرا عن كل ما يُظهر مشاهد القتلى والجرحى.

في تلك اللحظة، جملة واحدة علقت في رأسي ولا تزال، هي جملة قالتها طفلة لأحد المسعفين: "طالعني يا عمو بكون إلك خدّامة". جملة ينتهي معها كل ما يُمكن أن أجمعه لاحقاً، وتُصبح أثقل حين أرى كمّ الناس الذين ينشروها كفيديو ولو عن طيب خاطر، وأنا أحاول أن أسترجع شريط عقلي الباطن إلى جانب الموت المتراكم فوق رأس السوريين، ولكن هذه المرة قرر الموت أن يوحّدهم بعد أن اختلفت توجهاتهم منذ لحظة الثورة على الديكتاتور الذي أودى بنا كسوريين جميعاً إلى الهاوية.

"ما بدّي شوف إختي مشوّهة"

بعد يوم طويل وكئيب ومتعب، توجهت إلى أحد المشافي لأرى أوضاع الجرحى، فمهمّتي لم تنتهِ في ذلك اليوم حين خرجت من مواقع إنقاذ الجرحى وانتشال الضحايا. فأنا صحافيّ وعليّ نقل ما يحدث، بغض النظر عمّا أشعر به. وهل لي أن أشعر؟ أساساً أنا حين أمسكت كاميرتي وبدأت بمهمّتي كصحافي، علمت أنه محكوم عليّ بأن أتخلّى عن أحاسيسي، والمطلوب مني الكثير من المهنية والحيادية. الحيادية فوق أشلاء أناس ذنبهم أنهم سوريون وُجدوا في مزرعة يحكمها ديكتاتور، ورثها عن أبيه الديكتاتور الآخر، كما يحدث في بلدان الشرق، مع فارق بسيط، هو أن هذه البلاد قد أنهكتها الحرب.

"ما بدّي شوف إختي وهي مشوهة وعليها آثار دم، بدي تبقى صورتها بذاكرتي حلوة متل ما كانت قبل ما تموت". يتأكد الأخ الأكبر أنها جثة شقيقته، ويذهب ليستدعي أمه كي تلقي على ابنتها النظرة الأخيرة، ولأهرب أنا.

لدى وصولي إلى المشفى، رأيت الكثير من الجثث في الباحة الأمامية، تساءلت عن السبب، ولكن لدى دخولي عرفت الإجابة. المشفى الذي امتلأ بالجرحى لم يعد حتى يتسع، فصار الجرحى في الداخل والموتى في الخارج. المصاب الذي يموت، يخرج ليدخل مكانه مصاب قد يتمكن من الحياة.

على الجثث، كُتبت أسماء أصحابها ليتعرف عليها ذويهم. من ضمن من أتى، شقيقان يريدان استلام جثة أختهم التي قضت مع عائلتها تحت الأنقاض. كانا يبكيان بطريقة هستيرية، اقترب منهما ممرض وطلب منهما التعرف على الجثة. رفض الأخ الأصغر الاقتراب منها، وهو ينظر إلى شقيقه الكبير ويقول جملةً قضت على ما تبقى لدي من قوة تساعدني على الوقوف: "ما بدّي شوف إختي وهي مشوهة وعليها آثار دم، بدي تبقى صورتها بذاكرتي صورتها حلوة متل ما كانت قبل ما تموت". تأكد الأخ الأكبر أنها جثة شقيقته، وذهب يستدعي أمه كي تلقي على ابنتها النظرة الأخيرة، قبل أن توارى في الثرى. هنا هربت.

وبحسب الدفاع المدني السوري (الخوذ البيضاء)، فقد ارتفعت حصيلة ضحايا الزلزال في شمال غرب سوريا إلى أكثر من 2،536 حالة وفاة وأكثر من 4،600 مصاب والعدد مرشح للارتفاع بشكل كبير بسبب وجود مئات العوائل تحت الأنقاض، وفرق الإنقاذ تواصل عمليات البحث والإنقاذ وسط ظروف صعبة، فيما ارتفع عدد الأبنية المنهارة بشكل كلّي إلى أكثر من 375 بناءً، والأبنية المنهارة بشكل جزئي إلى أكثر من 1،200 بناء، وتصدعت آلاف الأبنية الأخرى.

وأنا هنا أحمل كاميرتي وأجول من فاجعة إلى أخرى. 

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

نؤمن في رصيف22، بأن بلادنا لا يمكن أن تصبح بلاداً فيها عدالة ومساواة وكرامة، إن لم نفكر في كل فئة ومجموعة فيها، وأنها تستحق الحياة. لا تكونوا زوّاراً عاديين، وساهموا معنا في مهمتنا/ رحلتنا في إحداث الفرق. اكتبوا قصصكم. أخبرونا بالذي يفوتنا. غيّروا، ولا تتأقلموا.

Website by WhiteBeard
Popup Image