يجلس أبو عمار محمد، تحت شجرة، وهو يضع صغيره في حضنه ويلقي بطانيةً على كتفيه في محاولة لتدفئته قليلاً، في الأراضي الزراعية بين قريتي التلول وحير جاموس بالقرب من مدينة سلقين في ريف إدلب على الحدود السورية-التركية، فأسترق النظر سريعاً إلى وجهه الذي يبدو عليه قهر الأرض، وهو يلاعب صغيره الذي فقد القدرة على الكلام من ساعة حدوث الزلزال.
أقترب منه، وأسأله عن حاله. بنبرة يملؤها الأسى والدموع التي حفرت خطوطها على خدّيه، يبدأ سريعاً برواية قصة مأساته التي بدأت عام 2015، حين نزح من قريته في ريف حلب الجنوبي نحو مدينة سراقب نتيجة هجوم قوات النظام والمليشيات التابعة لإيران المتحالفة معها على قريته، ومن بعدها نزوحه مجدداً نتيجة هجوم قوات النظام على إدلب عام 2020، من مدينة سراقب إلى مدينة سلقين الحدودية.
يروي أبو عمّار من دون سؤال، وكأنه كان ينتظر من ينظر إليه بوجه مرحب للاستماع، كي يفرغ ما يُخبئه من تعب السنين والمأساة المستمرة منذ سنوات كثيرة، لم تبدأ حين هاجر بلدته نتيجة البراميل المتفجرة والقصف المستمر، ولم تنتهِ وهو جالس بالقرب من بيته الغارق في المياه. هو يدرك ذلك، وكأنه صار مستسلماً لهذا الواقع الذي صار شيئاً فشيئاً يتحول إلى قدر محتوم. يقول: "عشت في سلقين منذ عام 2020، حتى حدوث الزلزال وتصدّع البناء الذي كنت أقيم فيه، لأخرج منه مع أسرتي ونتجه إلى قرى ريف سلقين لنقيم في الأراضي الزراعية".
ومن يعتقد أن الأراضي الزراعية آمنة؟ كُثر. كل من اهتز به المبنى حيث يسكن واستطاع الهرب قبل وقوعه، اعتقد أن الأرض الخالية هي المساحة الآمنة الوحيدة المتبقية. يقول أبو عمّار، ويضيف: "فجأةً، رأينا المياه تأتينا من كُل مكان. لم ندرك ما الذي يحصل، ما فعلناه هو الهرب بعيداً مجدداً".
لا أعلم إلى أين سنهرب ومن ماذا؟ ولكن ما أعلمه أننا كسوريين سنقضي حياتنا ونحن نهرب من الموت وأسبابه. لم أعد أخاف من الموت ولولا أطفالي لما عاودت الهروب لأنه ربما يكون الموت هو حلنا الوحيد
وغمرت المياه قرية التلول بالقرب من مدينة سلقين في ريف إدلب شمال غرب سوريا، بعد ارتفاع منسوب مياه نهر العاصي، أمس الخميس، وتبع ذلك انهيار ساتر ترابي على نهر العاصي كان تصدّع سابقاً جرّاء الزلزال الذي ضرب المنطقة، فغمرت المياه الأراضي الزراعية وجزءاً من شوارع القرية التي تهدمت بفعل الزلزال.
من الموت إلى الموت
محمد الأخي، أحد سكان بلدة تلول. بعد تهدّم جزء كبير من منزله جراء الزلزال، خرج مع أسرته إلى الأراضي الزراعية أيضاً، وفي اليوم التالي نصب خيمةً للاحتماء من البرد، أو محاولة التقليل منه، ولكي يتمكن مع أسرته من النوم قليلاً، "لكن فجأةً خلال نومي البارحة، بدأت المياه تدخل إلى الخيمة، أيقظت زوجتي وحملنا أطفالنا لنبدأ الركض في اتجاه البلدة"، يقول.
يضيف محمد: "لا أعرف، هل أضحك أم أبكي؟ في الليلة الأولى ركضنا هرباً من الزلزال باتجاه الأراضي الزراعية، واليوم نركض بالاتجاه المعاكس. لا أعلم إلى أين سنهرب ومن ماذا؟ ولكن ما أعلمه أننا كسوريين سنقضي حياتنا ونحن نهرب من الموت وأسبابه. لم أعد أخاف من الموت ولولا أطفالي لما عاودت الهروب لأنه ربما يكون الموت هو حلنا الوحيد للخلاص من عذابنا".
وبحسب الدفاع المدني السوري، فإن قرية التلول شهدت حركة نزوح جراء هدم المياه سواتر ترابيةً كانت مجهزةً لمنع فيضان مياه العاصي، وتعمل فرق الخوذ البيضاء على فتح قنوات لتصريف المياه، وتقيّم الاحتياجات في المنطقة، لمساعدة الأهالي.
بحسب الدفاع المدني السوري، فإن قرية التلول شهدت حركة نزوح جراء هدم المياه سواتر ترابيةً كانت مجهزةً لمنع فيضان مياه العاصي
أما وزارة الزراعة والري في حكومة الإنقاذ المسيطرة على إدلب، فقد عزت سبب ارتفاع منسوب المياه في نهر العاصي إلى فتح سد الرستن من قبل النظام السوري، إلى جانب انهيار سد بيتوني بين أنطاكيا والريحانية في تركيا.
وكرر الدفاع المدني خلال الأيام الماضية، التحذيرات من ارتفاع منسوب مياه نهر العاصي غرب إدلب، كما دعا السكان في المدن القريبة إلى توخّي الحيطة والحذر والابتعاد عن مجرى النهر، لافتاً إلى أن استمرار ارتفاع منسوب النهر سيؤدي إلى دخول المياه إلى المنازل التي على جانبيه.
وتتكرر حوادث فيضان العاصي سنوياً تزامناً مع العواصف المطرية، ما يسفر عن حركة نزوح وأضرار بالأراضي الزراعية المحيطة بالنهر، ويأتي ذلك في ظل غياب الحلول الجذرية لمشكلة ارتفاع منسوب النهر، واقتصار الحلول على بناء سواتر ترابية قابلة للهدم بمجرد هطول أمطار غزيرة على المنطقة، وهو ما حصل نتيجة تصدعه بالزلازل.
"أنقذوا ابنتي"
تجلس الخالة أم محمد، التي ما زالت ابنتها وأطفالها تحت الأنقاض مع أطفالها في بلدة بسنيا المجاورة، تحت إحدى الأشجار وهي تبكي وتندب حظها. رأتنا نحن مجموعة من الصحافيين متوجهين إلى مكان قريب منها مع معداتنا، فهرعت إلينا تسألنا عن ابنتها وما إذا تمّ إنقاذها؟
تنظر إلينا وتسأل هل تعرفون عنهم شيئاً؟ ونحن نقف مذهولين لا نعرف بماذا نجيب. تُكمل في وصف شكل ابنتها وهي تبكي، ثم طلبت من ابنها أن يرينا صور شقيقته وأطفالها على هاتفه. حاولنا أن نهدّئ من روعها وأن نتهرب من الجواب في الوقت نفسه. نحن لا نعلم شيئاً عن مصير ابنتها وعائلتها ولكن ما نعلمه ورأيناه أن الكثير من الجثث أُخرج من تحت الركام هناك، وقد تكون ابنتها وأطفالها من بينهم.
تنظر الخالة أم محمد إلينا وتسألنا إن كنا نعرف شيئاً عن ابنتها وأطفالها، وهي تصف شكل ابنتها وتبكي. تهرّبنا من الجواب، فكُل ما نعلمه أن الكثير من الجثث أُخرج من تحت الركام هناك
قبل أن نبتعد، طلبت منا أن نأتي ونخبرها إن علمنا أي خبر عن ابنتها أو أطفالها. نحاول المضي إلى مكان آخر بحثاً عن ناجين آخرين، فيمشي محمد ابنها إلى جانبنا، وهو يروي رحلة نجاتهم من الزلزال ومن ثم من فيضان النهر. يتنهد محاولاً إخفاء دموعه، ويقول: "كان علي أن أنجو بعائلتي وعوائل باقي أخوتي الذين ذهبوا إلى بسنيا للمساعدة في إنقاذ أختي وأولادها أو معرفة أي خبر عنهم، ليطفئوا النار في قلب أمي التي ما زالت تبكي وتسأل كل من تراه عن شقيقتي وأطفالها".
فجر الإثنين الماضي، ضرب زلزال جنوب تركيا وشمال سوريا، بلغت قوته 7.7 درجات على مقياس ريختر، أعقبه زلزال آخر بعد ساعات بقوة 7.6 درجات ومئات الهزات الارتدادية العنيفة، وبلغت حصيلة ضحايا الزلزال في شمال غرب سوريا أكثر من 2،037 حالة وفاة حتى الآن، وأكثر من 2،950 مصاباً، مع استمرار عمليات البحث وسط ظروف صعبة جداً، في العمل تحت أنقاض المباني المدمرة بعد مرور أكثر من 100 ساعة على الزلزال العنيف بحسب الدفاع المدني السوري.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
عبد الغني المتوكل -
منذ 4 ساعاتوالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ 4 ساعاترائع
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت