أعاد إلي فجر السادس من شهر شباط/ فبراير في غازي عنتاب، جنوب تركيا، ذكريات مؤلمةً حُفرت في رأسي على مدار سنوات طويلة، خلال وجودي في الغوطة الشرقية جنوب سوريا، وحتى خروجنا منها قسراً في آذار/ مارس 2018، كحال كثيرين من السوريين الذين عاصروا كل أنواع القتل الممنهج في تلك البقعة التي حاصرها نظام بشار الأسد لسنوات طويلة، وسُجلت مآسٍ أكبرها استخدام غاز الكلور في عام 2013.
اكتمل مشهد البؤس مع ساعات الفجر الكابوسي الأولى من يوم الإثنين، فبالرغم من كُل ما مررنا به نحن كسوريين إلا أننا فجأةً اكتشفنا أننا لم نعتَد على هكذا نوع من المآسي. زلزالٌ يضرب مناطق جنوب تركيا والشمال السوري، ليمسح مدناً بكاملها ويحول أخرى إلى خراب ودمار، ولعل القدر اليوم هو ما يجعلني أكتب هذه الكلمات، فمن عاش تلك اللحظات، لم يكن لينتظر سوى أن يكون في عداد الموتى لا محالة.
يهتز البيت بعنف ويتبعثر الزجاج على الأرض وتعلو صرخات القاطنين واستغاثاتهم في البناء الذي يحوي 17 أسرةً سوريةً، فيما يتوجهون فزعاً إلى الطابق الأرضي، وسط حالة ذهول تام، ومع انتظار الجميع في الطابق السفلي في تلك الليلة الباردة حيث الأفراد متحلقون ينتظرون قدرهم، أعاد هذا المشهد سلسلة أحداث وشريط ذكريات لطالما حاول كثيرون من السوريين نزعه ونسيانه، وسط مشاعر مختلطة من الاستغراب والقلق.
تُعدّ ولاية عنتاب الجنوبية إحدى الولايات التي نال الزلزال والهزات الارتدادية العنيفة من أحياء واسعة منها
دقائق وكأنها ساعات. الوقت لا يمر، والخوف في أوجه، وصمت عارم يقطعه صدى خطوات سوري خمسيني من قاطني البناء، يمشي حاملاً ابنه المعوّق وخلفه زوجته على الكرسي المتحرك. لقد نسي الجميع "براء" ذا الـ15 ربيعاً ورسبوا في اختبار العون أمام رغبة الحياة والهروب من الموت في تلك الدقائق.
بكاء وألم
"لم أعِش في حياتي مثل هذا الزلزال، لقد ظننت للوهلة الأولى أن قصفاً تتعرض له المنطقة، نعم لقد تذكرت الصواريخ الارتجاجية التي سقطت بالقرب من القبو الذي كنت أختبئ فيه قبل سنوات، هناك استطعنا الاختباء أما الآن فإلى أين الهروب والملجأ؟ يستعيد الخمسيني أبو البراء لحظات عاشها في الغوطة الشرقية، حيث كانت الصواريخ الارتجاجية تنهمر على رؤوس المدنيين وتسحقهم تحت الركام خلال حملة للنظام أوائل العام 2018.
ينظر إلي وعلامات الأسى قد حفرت في وجهه، ويقول: "لم أحزن من أحد على عدم مساعدتي في إنزال ابني من الطابق الثاني إلى القبو، فهذه طبيعة الإنسان، والكل مروا بتجارب الحرب السورية، لا تستطيع أن تعتب على أحد، ما أعرفه فقط هو أنني لا أستطيع مغادرة المبنى من دون ابني".
بالتزامن مع هذا الحوار ضمن الطابق الأرضي، كانت أفواج من الأسر التركية تتجه إلى الحدائق العامة، وسط بكاء ونحيب عالٍ وخوف يبدو واضحاً في تقاطيع الوجوه، منهم من يهرول، ومنهم من يركب سيارته حاملاً بعض أمتعته، ومنهم من يمشي "الهوينا"، ممسكاً بيد والده الطاعن في السن، تعلو أكتافهم ورؤوسهم نتف الثلج المتساقطة، أما نحن السوريين وكما نطلق على أنفسنا أصحاب الخبرة في هذا النوع من الكوارث، صعدنا إلى بيوتنا على أمل انتهاء الزلزال!
يعود المشهد ذاته بعد ساعات في وقت الظهيرة، وعلى ارتداد عنيف، فأخرجني حافي القدمين ممسكاً طفلي، لا أتوقع أن أحداً من سكان المدينة ظل هذه المرة في منزله، فالمنازل أصبحت مهددةً بالسقوط ومصدر تهديد حقيقي مع تشقق جدرانها.
خلال مشينا مع سكان البناء تحت الثلج، كانت تزداد الأسر المتجهة إلى الحدائق العامة والمساجد، حيث التجمعات البشرية الموجودة أصلاً منذ الفجر بعد الهزة الأولى تحت الثلج، وهم يحاولون تجنّب برده بإشعال النار، وبعيون متعبة يدسون رؤوسهم في أجهزتهم المحمولة حيث بدأت تتكشف تفاصيل الزلزال المدمر، وبدأت وسائل التواصل الاجتماعي تتداول مقاطع وتسجيلات مصورةً عن سقوط مبانٍ على رؤوس قاطنيها وحالات الذعر بين الساكنين، فيما بدا مع تداول مقاطع من ولايات أخرى كمرعش وأنطاكيا وأورفا وفي شمال سوريا أيضاً، أن الزلزال قد نال من مدن كبرى وأن الضحايا فوق المتوقع.
المسجد ملجأنا
بعد انتظار أكثر من ساعتين في الحديقة، ومعاينة أصوات سيارات الإسعاف وفرق الإطفاء المتجولة بسرعة، والتي يتردد صداها في أرجاء المدينة، تزداد حالة التوتر والقلق وسط تحذيرات من موجات ارتدادات متلاحقة للزلازل المدمر قد تزيد الأمر تعقيداً وخطورةً.
رغم علمي بأن المكوث في المسجد لا يفرق عن المكوث في المنزل، ولكن المسجد أفضل بألف مرة من البقاء في الحدائق حيث الثلج والصقيع. على الأقل هنا نموت في مكان عبادة
أمام هذه الهزات المتلاحقة والتي يبدو أنها ستدوم مدةً طويلةً، كان لا بد من التفكير في مأوى مؤقت يخلّصنا من البرد القارس، فلم يكن أمامنا إلا المكوث في المسجد برغم ما يحمله من خطر السقوط أمام تلك الهزات.
تدخل أم صهيب دخل الله، وهي سورية تعيش في عنتاب، إلى المسجد حيث تجمعت عشرات الأسر السورية والتركية الهاربة من قساوة الشتاء وخطر الزلازل، محاولةً وبعينين حزينتين إقناع ابنها بدخول المسجد، إذ لا فرق عنده بين وجوده في المنزل أو المسجد فكلاهما معرضان للخطر والدمار.
تقول: "لقد أتيت إلى المسجد عند الثامنة صباحاً. لم أتوقع هذا الدمار الكبير، فقد رأيت شوارع متشققةً وأشجاراً مقتلعةً وأبنيةً مدمرةً، وبرغم علمي بأن المكوث في المسجد لا يفرق عن المكوث في المنزل طالما أننا تحت سقف وبين جدران، ولكن المسجد أفضل بألف مرة من البقاء في الحدائق حيث الثلج والصقيع. على الأقل هنا نموت في مكان عبادة، فليس لنا إلا الله يدفع عنا هذا البلاء".
كان الجميع يدركون أن المسجد لن يحمي من وقوع الكارثة، خاصةً أن هناك صوراً ومقاطع تشير إلى سقوط مساجد في مناطق متفرقة، لكن الجميع أيضاً كانوا متفقين على أن الموت في كنف الله أفضل من الانتظار في البرد ساعات لا يبدو معها أن الكارثة ستنتهي، خاصةً للأسر التي يرافقها أطفال صغار.
وتُعدّ ولاية عنتاب الجنوبية إحدى الولايات التي نال الزلزال والهزات الارتدادية العنيفة من أحياء واسعة منها، بعد زلزال ولاية قهرمان مرعش المركزي حيث سجل 7.7 درجات على مقياس ريختر، وتبعته هزة ارتدادية ثانية وصلت إلى 7.6 درجات، مخلفاً في آخر إحصاء رسمي حوالي 24.617 حالة وفاة، و80 ألف إصابة وهي أرقام غير نهائية مرشحة للارتفاع، وهو ما يعني أنه سبّب المأساة الإنسانية الأكبر في تاريخ تركيا الحديث، حيث تجاوزت حصيلة ضحاياه ما تسبّب به زلزال إزمير عام 1999، كما أشارت مصادر في الحكومة التركية، إلى تأثر 13 مليون شخص وانهيار أكثر من 6،000 مبنى، وفي المقابل ما تزال عمليات إجلاء المواطنين والإنقاذ مستمرةً في المدن التركية جنوب شرق البلاد وشرقها وجنوبها، عبر السبل المتاحة براً وجواً وبحراً.
كانت المساعدات الفردية هي السمة الأبرز إذ يشارك عدد من السوريين في عمليات الإنقاذ وانتشال العالقين
لا نفكر إلا في النجاة
"الإصلاحية" بلدة تتبع لولاية عنتاب، تقطنها 60 ألف نسمة، وتُعدّ من أكبر المناطق المتضررة في الولاية، حيث نال الزلزال من أبنية شاهقة وسيارات، وأدى إلى سقوط كتل صخرية من الجبال باتجاه الطرق الرئيسية، ما تسبب في وقوع حوادث مرور عدة على الطرقات وتالياً تأخرت عمليات الإغاثة، فيما سُجلت فيها وفاة ما يُقدّر بـ3،000 حتى الآن في إحصائية غير نهائية.
معتز علي، أحد السوريين اللاجئين الذين يعيشون في الحي، كان موجوداً في المسجد الذي بتنا فيه، يحدثنا عن الدقائق التي عاشها فجراً وهول الكارثة التي أحدثها الزلزال، من أحياء سُوّيت بالأرض، وطرق تفجّرت، وأبنية شاهقة صارت كتلة ردم وأطلالاً.
"كل شيء كان يهتز. مع ازدياد قوة الزلزال بدأنا نشعر بالخوف أكثر، وبدا الصراخ واضحاً في كل مكان، لقد شهدت أحداثاً كثيرةً في سوريا لكن لم أخَف كما في مثل تلك الدقائق"، يقول.
ويضيف علي: "هناك الكثير من الشوارع المتشققة والمباني التي سقطت كأنك تشاهد فيلماً سينمائياً، أو كأنك تشاهد آثار قنبلة ذرية كالتي ألقيت في اليابان. لا أصدق أن جيراني صاروا تحت الردم بين ليلة وضحاها. كأن ما حصل منام، آمل أن أراهم على قيد الحياة، هناك الكثير من الأناس العالقين تحت الأنقاض ما زالوا على قيد الحياة وتُسمع أصواتهم. في تلك اللحظات لا تفكر إلا في الهروب والنجاة. إنها أهوال يوم القيامة".
تضامن واسع
ظهرت ردود الأفعال الدولية مباشرةً بعد الزلزال بتقديم المساعدات الإنسانية، إذ أطلق عدد من الدول العربية حملات استجابة عاجلةً من بينها دولة قطر عبر جسر جوي إلى تركيا، ويرافق أولى رحلات الجسر الجوي "فريق من مجموعة البحث والإنقاذ القطرية الدولية"، بالإضافة إلى "مستشفى ميداني ومساعدات إغاثية وخيم ومستلزمات شتوية".
في عنتاب، هناك عائلة تنتظر انتشال 9 أفراد منها، الأمل في أن يكون أي منهم على قيد الحياة تقريباً صفر، لكنهم يتمسكون بالأمل، ونحن السوريون أكثر من يعرف هذا الشعور
كذلك فتحت السعودية جسراً جوياً لنقل المساعدات إلى تركيا وسوريا وتعهدت الإمارات بتقديم 100 مليون دولار لإغاثة المتضررين من زلزال سوريا وتركيا، أما الاتحاد الأوروبي فقد أرسل 1،185 رجل إنقاذ إلى تركيا ويموّل الإغاثة عبر شركاء في سوريا، في حين أن مصر أرسلت خمس طائرات عسكرية محملة بمساعدات طبية عاجله إلى سوريا وتركيا.
أما داخلياً، فقد كانت المساعدات الفردية هي السمة الأبرز إذ يشارك عدد من السوريين في عمليات الإنقاذ وانتشال العالقين، بالإضافة إلى مساهمتهم في تحضير وتوزيع الأغطية والمواد الغذائية والأدوية في أماكن التجمعات كالملاعب والصالات والحدائق والمساجد والمراكز الثقافية.
وينشط أيمن أبو أنس، في العمل الإنساني، وهو سوري مقيم في عنتاب، ويروي أنه خلال زيارته لكهرمان مرعش والتي تبعد عن ولاية غازي عنتاب مسافة ساعة واحدة تقريباً، كيف أن أحياء كاملةً فيها قد دُمرت ومُسحت تماماً، وأن أبنيةً مؤلفةً من عشرة طوابق قد سوّيت بالأرض، مؤكداً وجود كوادر سورية شابة تساعد في انتشال الجثث وإنقاذ العالقين، بالإضافة إلى المساهمة في توزيع المساعدات الغذائية والمياه والأغطية، إلا أنه وبرغم وجود عدد كبير جداً من الجرافات والآليات والفرق المنقذة، فإن كثرة الدمار يجب أن تستدعي تدخلاً دولياً لمد المدن بفرق ومعدات أكثر لإنقاذ العالقين بشكل أسرع، لأن هناك أبنيةً لم تصل إليها أبداً فرق الإنقاذ.
التقى أيمن بعائلة "فقدت تسعة أفراد منها تحت الردم، كانت في حالة يرثى لها، ولا يمكن أن تتصور الموقف حينها وهم يقفون أمام المبنى ينتظرون انتشال جثثهم، وهناك أيضاً عمليات إنقاذ جرت بعد تسعين ساعةً للعالقين تحت الأنقاض، إنهم يتمسكون بالأمل، ونحن أكثر من يشعر بهم"، يختم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
عبد الغني المتوكل -
منذ 18 ساعةوالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ 19 ساعةرائع
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت