عند تناول رحلات المستشرقين الغربيين إلى الجزيرة العربية يعتبر كارستن نيبور محطة مهمة في الدراسات التاريخية والجغرافية للمنطقة، فقد رسم في كتابه "رحلة إلى شبه الجزيرة العربية وإلى البلاد المجاورة لها" أول خرائط تفصيلية للجزيرة العربية، وعدد من المناطق والمدن التي زارها في اليمن، والعراق، والخليج العربي، وسوريا، وفلسطين، كما وصف نيبور عادات الناس وأحوالهم المعيشية والاجتماعية. ويحمل هذا الكتاب أول وصف علمي للجزيرة العربية، ولذلك يعتبر نيبور المؤسس الأول للبحوث العلمية والجغرافية لشبه الجزيرة العربية.
ويرجع الفضل في اهتمام البحث العلمي بالمنطقة وشعوبها إلى رحلة هذا الرحالة وكتاباته، حيث أعقب رحلته تدفقاً ملحوظاً للبعثات العلمية من أجل استيفاء دراسات معمقة حول الموضوعات التي طرحها في كتاباته، خاصة ما ذكره حول التقاليد والعادات والمعمار والأسواق، كما دفعت كتاباته أيضا بعض الأكاديميات الأوروبية إلى تشجيع تعلم اللغة العربية وفتح تخصصات حول تاريخ الجزيرة العربية، وجغرافيتها، والانثربولوجيا، والعلوم الإسلامية... وغيرها.
الرحلة الأولى للجزيرة العربية
يُعتقد بأن أول رحلة للجزيرة العربية كانت للرحالة كابوت الذي زار مكة خلال الربع الأخير من القرن الخامس عشر. وقد قام الإيطالي لودفيكو دي فارتيما الذي سمي بالحاج يونس المصري برحلات إلى مصر وليبيا واليمن، وكان في طليعة الرحالة الغربيين الذين زاروا الحجاز وتناول الحياة المعيشية في مكة المكرمة والمدينة المنورة وجدة في كتاب باللغة الإيطالية سماه "إيتيناريو" صدر عام 1510م، وترجم إلى عديد من اللغات الأوروبية ونقل إلى العربية بعنوان "رحلات فارتيما".
هناك رحالة ومستشرقون قصدوا مناطق مختلفة في الجزيرة العربية، بهدف التعرف على طبيعة المنطقة وكشف أسرارها، والتعرف عليها عن كثب، فزارها الرحالة الفنلندي جورج أوجست فالين الذي وصل إلى نجد، ثم عاد مرة أخرى في رحلة إلى تبُوك في منتصف القرن التاسع عشر، ولويس بيلي الذي دوّن رحلته وأرفق معها خرائط مفيدة للمنطقة.
رحلات داوتي وحديث عن الكرم
قصدها أيضاً تشارلز داوتي الذي قام برحلة إلى مدائن صالح وتيماء ثم إلى خيبر وحائل والقصيم، وقام الرحالة النمساوي لويس موسل برحلة إلى الصحراء الشمالية من جزيرة العرب، وجي لوريمر الذي ترك سجلاً مثيراً للجدل حول منطقة الخليج، ورأى في واحة الأحساء أرض خصوبة ونماء وعذوبة ووصفها بأنها أرض النوافير والعيون التي تفور على مقربة من مياه البحر المالحة.
كان للمستشرقين الغربيين دوراً كبيراً في تدوين اللهجات العربية وتفصيل كلماتها ومعانيها. ومنذ القرن التاسع عشر كان للمستشرقين والرحالة دوراً بارزاً في تسجيل ودراسة اللهجات العربية في مناطق مختلفة من العالم العربي
أفادت زيارات الرحالة الغربيين إلى المدن العربية في العديد من المجالات خاصة التعريف بهذه المدن وأهلها وتقاليدهم. وقد كتب الرحالة والشاعر الإنجليزي تشارلز داوتي في كتابه "رحلات داوتي في الجزيرة العربية" عن كرم أهل البادية، وتناول الرحالة الأمريكي بول هاريسون نمط الحياة الأسرية في منطقة وسط الجزيرة العربية وقارن بينها وبين نظيرتها الغربية.
وامتدح هاريسون حياة البدو في كتاباته قائلاً "الحياة العائلية التي هي أكثر جمالاً بكثير من أي حياة عائلية أخرى في الجزيرة العربية هي حياة البدو؛ فالفقر يفرض عليهم الاكتفاء بزوجة واحدة، والطلاق أقل شيوعاً. وكثيراً ما توجد حياة عائلية بالغة الجمال، فهؤلاء الأعضاء المختلفين في مثل هذه العائلة والطريقة التي تتم بها العناية بالمسنين والضعفاء من الجيل السابق من دون أسئلة أو شكوى".
نجد... مهد العشائر العربية
قصد الجزيرة العربية أيضاً رحالة ومستشرقون غربيون في فترات وحقب تاريخية مختلفة بهدف الرغبة في اكتشاف الآخر وكشف أوضاعه الاجتماعية والاقتصادية، ثم تطورت هذه الرغبة إلى رغبة في اتصال مباشر من أجل معرفة هذا الآخر والتعرف على حضارته، فقدم إليها جوزيف بتس، وريتشارد بيرتون، وجون لويس بيركهارت الذي ترك مؤلفاً بعنوان "رحلات إلى شبه الجزيرة العربية" تناول فيه جغرافيا شبه الجزيرة العربية وناقش آثار المنطقة والحياة الاجتماعية فيها، كذلك الرحالة وليم جيفور بالجريف الذي كتب مؤلفاً بعنوان "وسط الجزيرة العربية وشرقها".
لم تقتصر رحلات الغربيين إلى الجزيرة العربية على الرجال فقط فقد قامت عدة نساء أوروبيات برحلات إليها، منهن الليدي آن بلنت التي ذهبت مع زوجها ويلفرد بلنت أواخر القرن التاسع عشر إلى مدينة حائل شمال الجزيرة العربية بهدف البحث عن الخيول العربية الأصيلة وقد سجلت مشاهداتها في كتاب بعنوان "رحلة إلى نجد مهد العشائر العربية"، كذلك قدمت إيفلين زينب كوبلد إلى مكة لأداء فريضة الحج وسجلت ملاحظاتها عن الإسلام والمسلمين وعاداتهم وتقاليدهم في كتاب "خطوة خطوة في الحج إلى مكة".
يُعتقد بأن أول رحلة للجزيرة العربية كانت للرحالة كابوت الذي زار مكة خلال الربع الأخير من القرن الخامس عشر
دوّن الرحالة الغربيين مشاهداتهم في المناطق العربية التي زاروها وتركوا عشرات الكتب التي حملت صورا ورسومات ووصفاً للأماكن والناس والحياة الاجتماعية نتيجة للاهتمام الغربي الجارف بالمجتمعات العربية وخاصة الجزيرة العربية التي كانت غامضة ومجهولة بالنسبة للغرب.
وترصد المراجع رحلة للألماني ستيزن الذي زار الأماكن المقدسة مطلع القرن التاسع عشر ورسم أول مخطط للمدينة المنورة، كما دوّن مخطوطات تاريخية شهيرة باللغة الألمانية باسم "صفحات من تاريخ مكة" تحتوي على تاريخ مكة الديني والسياسي والاجتماعي.
الاستشراق... وتوثيق اللهجات العربية
كان للمستشرقين الغربيين دوراً كبيراً في تدوين اللهجات العربية وتفصيل كلماتها ومعانيها، ومنذ القرن التاسع عشر كان للمستشرقين والرحالة دوراً بارزاً في تسجيل ودراسة اللهجات العربية في مناطق مختلفة من العالم العربي، وقد جاءت هذه الدراسات اللهجية في أنماط مختلفة، مثل كتب المعاجم والدراسات الوصفية، وكتب تعليم اللهجة للأجانب وكتب النصوص. وقد ظهر أول أطلس لغوي للهجات العالم العربي عام 1915م من تأليف الألماني بيرغسترابير بعنوان "أطلس لهجات سوريا وفلسطين"
من الرحالة الغربيين الذين اهتموا بدراسة وتدوين اللهجات العربية أيضاً الرحالة البريطاني جيمس بكنغهام، الذي ولع بركوب البحر منذ صغره وزار فلسطين والعراق والكويت التي وصفها بأنها "ميناء عظيم" ووثّق ذلك في كتاباته، كما ترك مؤلفا بعنوان "رحلتي إلى العراق".
الرحالة... واستعارة الأسماء العربية
كثير من الرحالة الغربيين حرصوا على إخفاء شخصياتهم وادّعوا أسماء عربية أثناء رحلاتهم إلى الأراضي العربية حتى تتسنى لهم دراسة الأماكن التي يزورونها دراسة متأنية.
ومن هؤلاء الرحالة الإسباني دومينكو باديا أي ليبليج الذي وصل إلى منطقة الحجاز عام 1807م مستخدماً اسماً مستعاراً هو علي بك العباسي ودون رحلته في مؤلف بعنوان "رحالة إسباني في الجزيرة العربية"، والمستشرق البريطاني ريتشارد فرانسيس الذي أطلق على نفسه اسم الحاج عبد الله وترك مؤلفاً بعنوان "الحج إلى المدينة ومكة".
الرحلة إلى الجزائر في وجود الاحتلال
من الرحالة الذين عاشوا في المدن العربية وعشقوها وتفاعلوا مع أهلها الرحالة الألماني مورتيس فاغنر (1813م - 1887م) الذي ألف كتاباً بعنوان "رحلات في ولاية الجزائر سنوات 1836م و1837م و1838م" تناول حياة الجزائريين وأثر الاستعمار الفرنسي عليهم، وسرد واقعة إعدام شاب جزائري بسبب الثورة ضد الاستعمار وما سببته الواقعة من رعب في نفوس الناس ومع ذلك يحكي فاغنر عن جرأة الشاب الذي تقدم إلى المقصلة بخطى ثابتة ليس بها خوف، ونظر إلى منفذ الحكم نظرة متحدية ليس بها أي رهبة.
أما الرحالة انجيلوس كوسير الذي وقع في هوى دمشق وعبر عن ولعه بها في كتاب اسماه "دمشق... الأيام الخوالي"، فقد تناول أشكال المعمار في الأحياء القديمة وطباع الناس وعاداتهم وتوقف عند مقاهي دمشق وليالي الحكواتي المثيرة، كذلك قام الرحالة والأسقف البريطاني ريتشارد بوكوك برحلة إلى مصر والشام وسجل رحلته في كتاب "وصف الشرق" تضمن العديد من الرسوم والمخططات وترك وصفاً لفلسطين ولبنان وتوجه إلى سوريا عن طريق البقاع وقضى بها مدة زمنية جعلته يتعرف على الناس وواقع حياتهم حيث اختلط بهم في أماكن عديدة بالأسواق والعمل والمقاهي.
"حكواتي" المقاهي الدمشقية
وصف بوكوك مقاهي دمشق قائلًاً "مقاهي دمشق مبهجة بشكل ملحوظ، العديد منها عبارة عن قاعات كبيرة وسقفها مدعم بصفوف من الأعمدة الخشبية، وفي هذه المقاهي فناء فيه بركة ماء تنبثق من وسطها نافورة مياه".
لم تقتصر رحلات الغربيين إلى الجزيرة العربية على الرجال فقط فقد قامت عدة نساء أوروبيات برحلات إليها، منهن الليدي آن بلنت التي ذهبت مع زوجها ويلفرد بلنت أواخر القرن التاسع عشر إلى مدينة حائل شمال الجزيرة العربية
وأضاف بوكوك: "من هذه المقاهي ثمة مقهى يتوسط بردى الذي يمر عبر المدينة، وله جزيرة خلفه مزروعة بالأشجار، والمكان مناسب للغاية، مما يجعله أحد أكثر الأماكن المبهجة التي يمكن للمرء أن يتخيلها في هذه المدينة العظيمة؛ في هذه المقاهي تقام حفلات موسيقية في ساعات معينة كل يوم؛ وفي بعض الحالات، يروي شخص (الحكواتي) قصصاً عربية بطريقة رشيقة للغاية وببلاغة كبيرة".
الرحالة في الأردن والعراق
جال الرحالة الغربيين في شرق الأردن على مدى خمسة عقود من القرن التاسع عشر حتى مطلع القرن العشرين وهي مرحلة تتميز بتكوين المجتمع الأردني الحديث وتركوا العديد من المؤلفات حول حضارة الأردن وثقافته وطباع الناس، ومن هذه الكتب "أرض مؤاب، رحلات واستكشافات في الأردن والجانب الشرقي للبحر الميت" للرحالة الإنجليزي ترمسترام وصدر لأول مرة عام 1873م، وكتاب "ما وراء الأردن: حياة ومغامرات" للرحالة روبنسون ليز ونشر عام 1890م، وكتاب "وادي الأردن والبتراء" للباحثين الأمريكيين وليم ليبي وفرانكلين هوسكين وقد زارا الأردن عام 1903م والكتب الثلاثة قام بترجمتها إلى العربية الباحث بالدراسات الاجتماعية والأنثروبولوجية الدكتور أحمد عويدي العبادي.
وفي بغداد دوّن كثير من الرحالة الأوروبيين مشاهداتهم عن المدينة التي زاروها منذ منتصف القرن السادس عشر حتى أواءل القرن العشرين، وأبرز هؤلاء الرحالة الإيطالي تاجر المجوهرات سيزار فيدريتشي، والطبيب الهولندي ليونهارت راوولف الذي زار بغداد في القرن السادس عشر، ورالف فيج، وبيترو ديلافال، وغيرهم. وكانت لهذه الرحلات أهمية خاصة في تقديم الأوصاف العامة لجوانب الحياة، مما وفر ثروة تأريخية مهمة عن هذه المدينة العربية، خاصة في ظل وجود عدد كبير من الرحالة الأجانب الذين دوّنوا ملاحظاتهم ومذكراتهم ويومياتهم ورسموا خرائطها.
العالم العربي في لوحات المستشرقين
ترك الرحالة والمستشرقون العديد من اللوحات الفنية عن الشرق وطبيعة الحياة والأسواق والمساجد والمعمار، فرسم المستشرق الأمريكي فردريك آرثر برديجمان لوحة "شارع في الجزائر" عبر خلالها عن وضع المرأة وزيها في المجتمع الإسلامي، ورسم المستشرق الألماني جوستاف بورنيفيند العديد من اللوحات عن الشرق منها لوحة "بوابة الجامع الأموي الكبير" التي لاقت شهرة كبيرة وبيعت قبل سنوات بمبلغ مالي كبير.
لوحة "حجاج في طريقهم إلى مكة" للرسام الفرنسي ليون بيلي
وتعبر عن معمار المسجد وطبيعة الحياة بجوار المسجد الأموي في دمشق. كما ترك ليون بيلي، لوحات مهمة عن الشرق منها لوحة شهيرة عن رحلة الحج تحمل اسم "حجاج في طريقهم إلى مكة" معروضة في متحف أورسيه بفرنسا، وهناك لوحة "المحمل في طريقه إلى مكة" للرسام الألماني جورج إيمانويل أوبيز، وغيرها الكثير من اللوحات التي وثقت الأماكن العربية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 21 ساعةمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع