عرف الرحّالة والمستشرقون الغربيون الرحلةَ إلى الوطن العربي منذ فترة مبكّرة، وكانت لهم صولات وجولات على مرّ التاريخ في الجزيرة العربية وسوريا والشام والعراق وبلاد المغرب العربي وغيرها، ودوّنوا مشاهداتهم في عدد كبير من المؤلفات، توقفوا فيها عند طبائع الناس وسماتهم، وقدّموا وصفاً دقيقاً للمدن التي زاروها وعاشوا بين أهلها.
على الرغم من الاتهامات التي طالت بعض المستشرقين والرحّالة من أنهم جاؤوا مدفوعين من قِبل حكومات وأجهزة مخابراتية بهدف التجسس، أو أنهم قدَموا إلى البلاد العربية يحملون في نفوسهم حُسن النوايا التي لا تتجاوز المغامرة والتعرف على ثقافات أخرى وطبائع أخرى تختلف تماماً مع الثقافة الغربية، فإنهم أفادوا بغير شكّ الدولَ والمدن العربية التي وفدوا إليها.
الكتابات والرسومات والخرائط الجغرافية واللوحات الفنية التي قدمها الرحّالة الغربيون كثيرة ولا يمكن أن تُحصى في عجالة، بل إنها تحتاج إلى دراسات أكاديمية وببليوغرافية جادة، ترصد تطورها عبر السنين والقرون وتشعبها في اتجاهات عدّة، والكشف عن الإيجابيات التي حققتها وانعكست على الوطن العربي.
يتوقف هذا المقال عند نماذج لهؤلاء الرحّالة وآثارهم في المنطقة العربية، إذ إنهم قاموا بإعادة اكتشاف الجغرافيا والتاريخ واللغة في عديد من المدن.
الرحّالة بين النظرة الإنسانية والمطامح الأوروبية
تطرح الباحثة د. إلهام ذهني، أستاذة التاريخ والتاريخ المعاصر بجامعة الأزهر في كتابها "رؤية الرحّالة الأوروبيين لمصر بين النزعة الإنسانية والاستعمارية" رؤية تحليلية لنظرة هؤلاء الرحّالة التي تراوحت بين السعي لتحقيق المطامح الأوروبية، خاصة أن تلك الرحلات قد تمت في عصر التوسع الأوروبي، وبين الرؤية الإنسانية التي غلبت على مشاعر الرحّالة.
أي أن الكتاب محاولة للتعرف على الأهداف الحقيقية للرحّالة. تذكر المؤلفة: "في القرنين السادس عشر والسابع عشر انتمى معظم الرحّالة إلى طبقة رجال الدين الذين حرصوا على تأدية فريضة الحج في القدس ثم اتجهوا إلى مصر حيث المزارات المسيحية الشهيرة، ورغم خلفية الرحّالة الدينية إلا أنه وُجد من بينهم السياسي وعضو البرلمان والعالم الجغرافي والضابط".
على الرغم من الاتهامات التي طالت بعض المستشرقين والرحّالة من أنهم جاؤوا مدفوعين من قِبل حكومات وأجهزة مخابراتية، أو أنهم قدَموا إلى البلاد العربية يحملون في نفوسهم حُسن النوايا التي لا تتجاوز المغامرة والتعرف على ثقافات أخرى، فإنهم أفادوا الدول والمدن العربية التي وفدوا إليها
ولا شك أن النزعة الإنسانية كانت هي الغالبة على الرحّالة الغربيين في زياراتهم المتكررة للوطن العربي، لأن هذه الرحلات حققت للعرب ما ساعدهم على الدخول المبكر نسبياً في عصر التقدم والمواكبة النسبية للتطور الحضاري الجاري حولهم، من خلال ما قدمه الرحّالة والمستشرقون من اكتشافات.
فالحملة الفرنسية، على سبيل المثال، وبرغم المآخذ الكثيرة حولها باعتبارها حملةً استعمارية، أفادت في التعريف بمصر من خلال كتاب "وصف مصر" الذي جاء في 20 مجلداً، وأدخلت الطباعة إلى مصر، ولم تكن موجودة قبل ذلك، كما عرفت مصر الصحافة من خلال الفرنسيين.
اكتشافات علمية وجغرافية مهمّة للرحّالة الغربيين
الرحلات التي قام بها المستشرقون الغربيون قدمت اكتشافاتٍ مهمة للعالم العربي، ساهمت في تطوره، وعرّفت القراء الغربيين بحضارات العرب، فقد اعتاد الرحّالة الغربيون كتابةَ مؤلفات عن الأماكن التي زاروها، حيث دوّنوا ملاحظاتهم عن جغرافية المكان واهتمامات الناس والعادات والتقاليد التي يرتبطون بها، كما قدموا وصفاً دقيقاً عن السكان والعمران في البيئة العربية.
فضلاً عن اكتشافات مهمة مثل فك رموز اللغة المصرية القديمة التي قام بها العالم الفرنسي شامبليون، أحد مؤسسي علم المصريات، ومن ثمّ قراءة النقوش الموجودة على جدران المعابد، مما ساعد على فهم الحياة المصرية القديمة، أدّى فك رموز حجر رشيد إلى إزالة بعض الالتباسات التي كانت مبهمة لقرون طويلة بسبب عدم فهم اللغة الفرعونية الهيروغليفية والهيراطيقية.
رحلات الغربيين ساهمت كذلك في رسم أول خرائط تفصيلية لجزيرة العرب قام بها الرحّالة الألماني كارستن نيبور (1733-1815) الذي قام برحلات إلى عدد من المناطق والمدن في الخليج العربي، واليمن، والعراق، وسوريا، وفلسطين، ووصف في كتابه الذي حمل عنوان "رحلة إلى شبه الجزيرة العربية وإلى بلاد أخرى مجاورة لها" عاداتِ الناس وأحوالهم المعيشية والاجتماعية.
مستشرقون مولعون بالمدن العربية
زار الوطن العربي أيضاً عديد من المستشرقين المولعين بمظاهر الحياة في المدن العربية، فقام بعضهم برسم لوحات فنية للشوارع والأحياء والأسواق والمساجد، مثل الرسام الألماني غوستاف باورنفايند الذي عاش في القدس ورسم لوحاتٍ عن القدس ويافا والأراضي الفلسطينية.
من لوحات المستشرقين في المدن العربية
كما قام المستشرق النمساوي رودولف إرنست برحلة إلى المغرب ورسم لوحات مهمة عن الحياة ومظاهر البهجة بين الناس، ورسم الفرنسيان سافاري وليون بونا في منتصف القرن الثامن عشر، لوحاتٍ عن المرأة المصرية. لقد كان سحر الشرق جاذباً للرحّالة وشكل مصدرَ إلهام في كثير من أعمالهم الفنية.
كذلك الرحّالة الفرنسي جان ليون جيروم (1824- 1904) ويعتبر أحد أبرز المستشرقين الذين قدِموا إلى الشرق العربي خلال القرن التاسع عشر، قام بعدة رحلات إلى مصر، رسم خلالها العديد من اللوحات الزيتية عن واقع الحياة المصرية، وتعتبر لوحاته، بحسب فنانين معاصرين، من اللوحات التاريخية الخالدة.
مقتنيات في متحف المتروبوليتان
وقع جيروم في هوى الشرق بأساطيره وتفاصيله ويومياته، وكانت مصر معشوقته الأثيرة، فكانت رحلته الأولى للقاهرة عام 1854، ثم عاد بعدها إلى مصر في أكثر من ست زيارات خلال الفترة (1856- 1880) وكانت تتخلل هذه الزيارات رحلاتُ العودة إلى فرنسا لعرض أعماله التي أنجزها.
لوحة لتجار السجّاد بالقاهرة للرحالة جان جيروم
تميز أسلوبه الفني بالواقعية الشديدة، فاهتم بشكل خاص بواقع الحياة الدينية، فرسم المساجد والمصلّين والقباب والمآذن، ومن أشهر لوحاته "مصلون داخل جامع عمرو بن العاص بالقاهرة" (1871) وهي من مقتنيات متحف المتروبوليتان بنيويورك، فضلاً عن عديد من اللوحات الأخرى التي تُعبر عن واقع الحياة في الأحياء الشعبية.
مصر في عيون الرحّالة الغربيين
كانت مصر من أوائل الدول التي حظيت بعدد كبير من الرحّالة الغربيين من مختلف الجنسيات، ليس بسبب موقعها الجغرافي أو خصوصيتها الثقافية، إنما بسبب الحضارة الفرعونية التي أقامت المعابد ونحتت التماثيل، واخترعت الكتابة، كما استخدمت العمليات الحسابية، وابتكرت نظام المقايضة والعملات، وشيدت الأهرامات إحدى عجائب الدنيا السبع، وغيرها من المنجزات.
لوحة للفرنسي جان جيروم تبرز جماليات الفن الإسلامي والحياة في مصر
عدد كبير من الرحّالة جاؤوا إلى مصر للتعرف عليها وعلى طبيعة الحياة فيها، فاختلطوا بالناس وزاروا الأسواق، ودخلوا المساجد والكنائس، وكتبوا عن عادات الناس وتقاليدهم ويومياتهم التي تحمل كلَّ مظاهر العيْش من أعمال ومشقّات وأعياد ومناسبات وحتى الموالد الشعبية المنتشرة في المدن والأقاليم.
هيرودوت... بداية الرحلة إلى الشرق
جذبت مصر الرحّالة والمستشرقين بسبب حضارتها التي استرعت الانتباه، فجاء إليها هيرودوت، المؤرّخ الإغريقي في القرن الخامس قبل الميلاد، وكان قد زار العديد من الدول في شرق البحر المتوسط، لكنه انبهر بحضارة مصر القديمة واعترف بأسبقيتها على الحضارة اليونانية، وأطلق مقولته الشهيرة "مصر هبة النيل".
ذلك أن المصري القديم شيّد المعابد وأقام السدود وزرع الأرض، دون أن يملك سوى نهر النيل الذي أعانه على إقامة حضارة عظيمة استمرت مئات السنين، وأصبحت هذه الحضارة وتجلياتها مثار اهتمام الشرق والغرب على مرّ العصور. وكتابات هيرودوت عن مصر أصبحت، في ما بعدْ، تقليدّاً اتّبعه الرّحالة والمستشرقون.
رحّالة يتجول بين الأحياء الشعبية
لم تتوقف رحلات المستشرقين والرحّالة الغربيين إلى مصر عند مدينة بعينها، بل شملت رحلاتهم القاهرة، والإسكندرية، ورشيد، ومدن الصعيد في أزمنة مختلفة، وزادت أعداد الرحّالة إلى مصر بشكل كبير أوائل القرن التاسع عشر بعد صدور كتاب "وصف مصر"، وفك طلاسم حجر رشيد عام 1922.
فقد تجول الرحّالة الإنكليزي جوزيف ويليام مكفرسون في محافظات وأقاليم وقرى مصر ليتعرف عن كثب على الشخصية المصرية وطبيعة الحياة والعادات والعلاقات بين الناس، كما تجول بين الأحياء الشعبية في القاهرة، وجاب ربوع مصر متجوّلاً بين الموالد الشعبية كأحد الدراويش والمريدين المتيمين بالأولياء والتابعين.
اكتشافات مهمة مثل فك رموز اللغة المصرية القديمة التي قام بها العالم الفرنسي شامبليون أحد مؤسسي علم المصريات، وقراءة النقوش الموجودة على جدران المعابد، وفك رموز حجر رشيد، ورسم أول خرائط تفصيلية لجزيرة العرب... من آثار الرحالة الغربيّين
عاش مكفرسون في مصر 45 عاماً، كتب خلالها ما يزيد على ثلاثة آلاف صفحة من الخطابات إلى إخوته وعائلاتهم، تضمنت وصفاً لحياته في مصر، مغامراته في الرحلات، مراسلاته الحربية، قصص الغموض والبحث وعديد من الوقائع التاريخية. جمع أصدقاؤه هذه الخطابات وأصدروها في كتاب بعنوان "الرجل الذي أحب مصر" عبارة عن ترجمة لمكفرسون من خلال مجموعة الخطابات التي كتبها في الفترة (1901- 1946).
سميث... بين التشريح ودراسة التاريخ القديم
من الرحّالة الغربيين الذين أقاموا في مصر أيضاً، الطبيب المؤرخ إليوت سميث (1871- 1937) الذي عاش في مصر، وكان أستاذاً للتشريح في مدرسة طب القصر العيني في أوائل القرن العشرين، وتتلمذ على يديه أطباء عظام. جذبه تاريخ مصر فراح يتدارسه بعناية شديدة، واستطاع أن يثبت أن مصر هي أصل الحضارة في العالم، لأن جغرافيتها تفاعلت مع الإنسان المصري بما لم يتفاعل أي وسط آخر مع الإنسان، فكانت النتيجة ظهور الحضارة القديمة في مصر.
تناول سميث معرفة المصري القديم للزراعة والري، ووجد أن سُبل الريّ في مصر القديمة كانت هي البدايات الأولى للهندسة في تاريخ الإنسانية، وربط بين معرفة الزراعة في مصر القديمة ونشأة الحكومة والتجارة والفنون، وأثبت أن القمح والبرّ والحنطة كلها فرعونية، لأن المصري القديم هو أول من زرعها في التاريخ، وأن الزراعة هي الأساس الأول الذي بنيت عليه الحضارة الأولى.
الرحّالة البريطانيون والفرنسيون والنمساويون والإسبان والطليان، وغيرهم، قاموا برحلات إلى مصر، وتركوا الكثير من الكتابات حولها، الأمر الذي دفع مكتبة الإسكندرية إلى جمع كتابات لـ500 رحّالة من الإنكليز والأمريكيين الذين قاموا برحلات إلى مصر، في كتاب حمل عنوان "الرحّالة البريطانيون والأمريكيون في مصر 1673- 1916" يضم أجزاء من كتاباتهم ومشاهداتهم في الحياة المصرية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...