تجربة الإجهاض ليست سهلةً إطلاقاً. تمرّ بها المرأة غير الراغبة في الحمل سواء كانت متزوجةً أو غير متزوجة، ولكن إجهاض غير المتزوجة في المجتمعات العربيّة يتمّ في الخفاء لأنّ "الحامل من دون وثيقة زواج" تتعرض لعنف مضاعف وشاسع جدّاً، لأنّ مفهوم العار يلحق بالمرأة فقط. وضعية يصفها الأستاذ في كلية الطب في تونس والمتخصص في جراحة الأطفال ورئيس الجمعية التونسية للدفاع عن حقوق الطفل، معز الشريف، في حديثه إلى رصيف22، بـ"الصعبة، فالإنجاب خارج إطار الزواج يخلّف وصمةً اجتماعيةً طوال الحياة وهو ما يدفع الأم العزبة للتخلي عن طفلها وعدم القدرة على تربيته في كنف الاحترام من طرف كل المتدخلين سواء عائلتها التي تنبذها أو المجتمع الذي يرفضها وينعتها بالفاسدة".
هذا الشكل من الإقصاء والعنف يدفع نساء كثيرات إلى التخلي عن رُضّع حديثي الولادة، فماذا عن حرمان الأطفال (الأجنّة) من الحياة عن طريق الإجهاض القسريّ؟ وما هي الأسباب الحقيقية التي تدفع الأمّ العزبة إلى حرمان طفلها من الحياة؟ وهل المؤسسات الحاضنة لهؤلاء الأطفال تقوم بدورها اللازم لتفادي هذه الجريمة؟
وصم قانوني
ينعت القانون التونسي الطفل المولود خارج إطار الزواج بـ"اللقيط"، وهو "أمر غير معقول وغير مقبول. لذلك يجب تغيير القانون لأنه لا يمكن تحميل الطفل مسؤولية طريقة ولادته. في المقاربة الاجتماعية والثقافية التونسية هناك غياب لتحميل المسؤولية للأب، العار ملقى على كاهل الأم ثم الرضيع لذلك يجب تحميل المسؤولية للآباء قانونياً واجتماعياً"، يقول الشريف.
ويشير القانون التونسي في الفصل 77، من مجلة الأحوال الشخصية، في أحكام "اللقيط "، إلى ما يلي: "من يتكفل بلقيط واستأذن من الحاكم وجبت عليه نفقته إلى أن يصير قادراً على التكسب، ما لم يكن لذلك اللقيط مال"، والفصل 78: "يبقى اللقيط بيد ملتقطه ولا يأخذه منه أحد إلا إذا ظهر أبواه وحكم الحاكم بذلك".
من جهتها، بيّنت وزارة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السنّ، أنّ 11،789 طفلاً من مختلف ولايات الجمهوريّة تم التعهد بهم من قبل مندوبي حماية الطفولة من بين 17،069 إشعاراً وارداً سنة 2021، أي بنسبة 69%، كما تمّ خلال السنة نفسها تسجيل ثمانمئة وولادتين خارج إطار الزواج في حين سجلت سنة 2022 تلقّي 868 إشعاراً تقريباً بولادات خارج إطار الزواج.
أرقام لا تعكس العدد الحقيقي للولادات خارج إطار الزواج، إذ إن هناك حالات سريّةً للإجهاض وعمليات قتل للأجنّة والأطفال فور ولادتهم أو إلقائهم أحياء في أكياس القمامة.
ويُتفق طبيّاً على أنّ عمليّة الإجهاض من الضروريّ أن تتمّ قبل الأشهر الثلاث الأولى من الحمل، لتفادي الخطورة على حياة الأمّ، كما أنّه يفضّل أن تتمّ في الأسابيع الأولى من الحمل، أي قبل الأسبوع الـ12، ومن المفضّل ألا يتمّ الإجهاض في الأشهر المتقدمة، أي بدايةً من الشهر الرابع وهو ما يرفض القيام به الأطباء لعدم قانونيته.
في تونس هناك حالات سريّةً للإجهاض وعمليات قتل للأجنّة والأطفال فور ولادتهم أو إلقائهم أحياء في أكياس القمامة
ويؤكدالدكتور الشريف أنّه "قبل الـ22 أسبوعاً، يمكن أن يتوقف الحمل ولا يُعدّ الأمر إجهاضاً، بل توقيفاً للحمل، ولا يمكن إجراء إجهاض للأم العزبة إذا تجاوزت الفترة القانونية التي يمكن فيها ذلك إلا في حالات يحددها القانون إذ يتم الإجهاض بعد الفترة القانونية إذا كانت للحمل انعكاسات نفسية على صحة الأم مثل أن تتعكر صحتها، ويجب أن يكون هناك تقرير من طرف الأطباء النفسيين لتوضيح الأسباب التي تهدد صحة الأم نفسياً أو جسدياً، مثل التشوهات والأمراض التي تكون عند الجنين أو الأمراض التي تهدد حياة الأم. عندها، يمكن اتخاذ قرار الإجهاض وفي هذه الحالة لا يكون الإجهاض إرادياً بل لأسباب طبية. ويُطبّق الأمر على الأم العزبة والمتزوجة على حد سواء، وعندما يصل الجنين إلى عمر يستطيع العيش فيه تتم الولادة بصفة مبكرة ويوضع في الإنعاش الطبي، وعند الخيار بين حياة الأم والجنين الأولوية لحماية حياة الأم".
عنف اجتماعي
تؤكّد الأخصائيّة الاجتماعية نسرين بن بلقاسم، لرصيف22، أنّ الإجهاض هو نوع من العنف ضدّ الأطفال لأنّه يحرمهم حقهم في الحياة، وهناك أسباب عدة تجعل الأم تجهض جنينها، وتتوجه المرأة المتزوجة إلى الإجهاض عادةً، نتيجة أسباب عدة، منها الاقتصادية وإنجاب أطفال عدة وعدم القدرة على التكفل بطفل آخر فيتم التخلّص من الجنين، وبالنسبة إلى الأمهات العزبات هناك أسباب تدفعهن إلى التخلي عن أجنتهن على غرار رفض الأب البيولوجي الاعتراف به وعدم قدرة الأم على تحمّل مسؤوليته بمفردها، وأيضاً الأسباب الاجتماعية نتيجة رفض المجتمع للأطفال الذين وُلدوا خارج إطار الزواج فتتعرض الأم إلى التمييز والوصم الاجتماعي والتخلي من طرف العائلة، وتجد نفسها في الشارع فيكون الإجهاض هو الحل".
انتقدت بن بلقاسم سياسة الدولة المشجعة على الإجهاض وليس على الاحتفاظ بالمولود، وهو ما يظهر في الإعلانات التوعوية التي تؤكد للمرأة أنه بإمكانها الإجهاض قبل بلوغ الشهر الثالث من الحمل، وأيضاً في المستشفيات يتم تشجيع الفتاة التي أقامت علاقةً جنسيةً خارج إطار الزواج على التخلي عن الجنين وتجنب التعرض للوصم الاجتماعي، بدل الدفاع عن حقها في الاختيار.
يعيش الأطفال الذين وُلدوا خارج إطار الزواج في وضعية صعبة فهم منبوذون اجتماعياً، ولا يقبلهم أحد، ويعيشون عُقَداً اجتماعيةً كبرى في تربيتهم وعلاقاتهم بالآخرين وأيضاً في تنشئتهم. وهم يعيشون في مراكز معزولين عن العالم "ضمن مجتمعات محافظة ظاهرياً، وقد لا تكون محافظة باطنياً"، على حد تعبير الأخصائية الاجتماعية بن بلقاسم، التي تضيف لرصيف22: "مجتمعنا في الظاهر محافظ ويضع قواعد صعبةً يجب الالتزام بها فتجرَّم المرأة، لكن الرجل يظهر وكأنه معصوم من الخطأ ولا يحاسب اجتماعياً على فعلته لأن مجتمعنا مجتمع ذكوري يحاسب المرأة ولا يحاسب الرجل لأنّه رجل وكأنّ الذكورة تحميه وتبرر أخطاءه، فتنقاد المرأة إلى الإجهاض أو رمي الطفل في القمامة أو قتله أو وضعه أمام أحد المنازل نتيجة الضغوط الاجتماعية التي تبيّن لها أن طفلها وصمة عار ومنبع للمشكلات وإقصاء المجتمع والعائلة".
انغلاق وتحريم للثقافة الجنسيّة
هناك غياب للثقافة الجنسية لدى الجنسين في تونس، فالفتيات اللواتي يقمن علاقات جنسيةً خارج إطار الزواج لا يستعملن وسائل منع الحمل والرجال أيضاً، فالجنس في مجتمعنا نتعلمه بالفطرة وهو أحد المواضيع المحرمة التي لا يمكن الخوض فيها في الوسط العائلي أو المدرسة أو مع الأصدقاء أو الأم، والمسألة مهمة جدّاً لأنه يجب الحديث عن الثقافة الجنسية بما فيها من تحولات جنسية تحدث للفتاة أو الفتى، فعلى الأشخاص الذين يرغبون في إقامة علاقة جنسية خارج الزواج، أن يكون لديهم علم بمعطيات عدة منها الحمل والإجهاض وقد تصل الفتاة إلى مرحلة الولادة من دون أن تعلم أنها حامل نتيجة غياب الثقافة الجنسية لأن المجتمع لا يرغب في الانفتاح ويربط الجنس بالأخلاق.
يعيش الأطفال الذين وُلدوا خارج إطار الزواج في وضعية صعبة فهم منبوذون اجتماعياً، ولا يقبلهم أحد. ما يدفع الكثيرات إلى الإجهاض أو التخلي عن أبنائهن في الشوارع
يختلف الناس في حق الإجهاض من عدمه في العالم بأسره، إلا إذا كان يشكل خطراً على حياة الأم وسلامتها، حسب ما أكد الأخصائي النفسي وأخصائي الطب الجنسي أنس العويني، لرصيف22، "لذلك لا يمكن أن نختلف على حق الحياة لكل إنسان والجنين الذي تجب حماية حقه في الحياة، ومن جهة أخرى من حق الأم في أن تكون أمّاً (إن شاءت ذلك)، لأن الأمومة إحساس وعاطفة من أنبل العواطف التي يمكن أن يمتلكها الإنسان وتعطيه دافعاً وأملاً في الحياة واستمراريةً في الوجود، والأم العزبة يُفرض عليها الإجهاض من المجتمع الخارجي والضغوط المادية والمختلفة برغم أن حق الحياة أعظم من كل المعاصي المدونة، فحق الحياة للجنين والأم حق طبيعي. سلب حق الأمومة من الأم ظلم كبير جداً سيُشعر المرأة بعاطفة حزن كبيرة قد تدخلها في حالة اكتئاب حاد وفي حالة حزن عميقة ومستمرة، وقد لا تستطيع التخلص منه لأنها ستشعر في قرارة نفسها بأنها فقدت شيئاً غالياً وثميناً، ويغمرها إحساس الظلم والقهر والاعتداء عليها لإرغامها على ذلك مما يجعلها مقهورةً ومجبرةً على الاندفاع لإعداد سلوكيات معادية للمجتمع الذي ظلمها".
مؤسسات سالبة لحق الحميمية
توجد جمعيات عديدة في تونس لاحتضان الأطفال الذين فقدوا عائلاتهم بطريقة ما، ويودع هؤلاء الأطفال بإذن قضائي من طرف قاضي الأسرة، تعاني هذه الجمعيات من مشكلات داخلية عديدة أهمّها التمويل الذي يرتكز أساساً على المساعدات عند عدم قدرة الأم العزبة على الاحتفاظ بمولودها.
يوفر القانون للقاضي آلية الكفالة والتبني لدى العائلات التي تريد أن تكفل طفلاً أو تتبناه عن طريق القضاء.
كما توجد العديد من المراكز لرعاية الأطفال، منها المعهد الوطني لرعاية الطفولة في منوبة، ويضم نحو 170 طفلاً حالياً، وهناك إدارة تنظم هذه العملية مع القضاة والعائلات والديوان الوطني للعمران البشري والمستشفيات، وتتكفل هذه المؤسسات بتأمين الرعاية الصحية والجسدية والتغذية للطفل وهو ما عدّه مختصون غير كافٍ خلال يوم علمي لتحديات الرعاية للأطفال فاقدي السند، إذ رأى رئيس الجمعية التونسية للدفاع عن حقوق الطفل الدكتور معز، أنّ "إيداع الأطفال في المؤسسات أمر غير مرغوب فيه طبياً ونفسياً واجتماعياً... هناك توجه من طرف الدولة، بإلحاح من المنظمات الدولية، نحو التخلي عن إيداع الأطفال داخل هذه المؤسسات لأنّه يفقدهم الرعاية النفسية وهي نقطة أساسية في الأشهر الأولى من الحياة ولا يمكن أن توفر لهم المؤسسة هذه العلاقة الحميمية الأساسية بين الطفل وأي شخص يتغير كل أسبوع أو أسبوعين أو يومياً، وهو ما يحدث فعلياً داخل هذه المؤسسات. إذ يشرف على الطفل 3 أشخاص يومياً وهو غير قادر على التعلق بثلاثة أشخاص دفعةً واحدةً مما يولّد العديد من الاختلالات وتعطلاً في النمو النفسي والحميمي للأطفال فاقدي السند، وهو أمر له تداعيات وخيمة جداً على النمو مدى الحياة، ويمكن أن يتسبب في إعاقة نفسية لذلك من المحبذ إيداع الأطفال في عائلات بديلة ويتم الأمر بالكفالة أو عبر التبني لتمكين الطفل من علاقة حميمية وليس من الرعاية والغذاء فقط، وهي نقطة أساسية في مبادئ حقوق الطفل لأنه لكل شخص الحق في عائلة للنمو المتوازن".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
أحمد لمحضر -
منذ يوملم يخرج المقال عن سرديات الفقه الموروث رغم أنه يناقش قاعدة تمييزية عنصرية ظالمة هي من صلب و جوهر...
نُور السيبانِيّ -
منذ 3 أيامالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ 4 أياموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري