شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
بين السودان ومصر ... قلب القارة يضخّ الموسيقى بإيقاع خماسيّ

بين السودان ومصر ... قلب القارة يضخّ الموسيقى بإيقاع خماسيّ

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الجمعة 10 فبراير 202304:26 م

في العام 2019، استعاد كورال كلية الموسيقى والدراما في السودان أغنية مهمة من تراث الفنان السوداني الكبير شرحبيل أحمد ليقدمها في ثوب جديد، شارك فيه أحمد نفسه مع الفنان الإثيوبي محمود أحمد والفنانة الأوغندية شيفا موسيسي والمغربية أسماء حمزاوى وأعضاء مجموعة أورباب.

أغنية "أنا أفريقي أنا سوداني" التي كتب كلماتها الشاعر السوداني الراحل السر قدور، وأخرجها في ثوبها الجديد المخرج الطيب صديق، تقدم تلخيصاً بصرياً وصوتياً للموسيقى السودانية وامتداداتها، التي يطلق عليها تسطيحاً "الموسيقى القَبلية" أي موسيقى القبائل، على الرغم من أنها تتجاوز الطبيعة الاجتماعية المغلقة للقبيلة، لتصبح موسيقى قارة بكاملها تعزفها قبائل غانا ونوبة مصر وأمازيغ المغرب والجزائر على حافة الأطلسي، وكان لبعض تلك الدول وعلى رأسها مصر، دور مهم في حفظ هذه الموسيقى، خاصة خلال مطلع القرن العشرين ومنتصفه.

ينتج السودان شماله وجنوبه موسيقى تعكس طبيعة تنوعه القبلي، الذي تشكل بفضل الهجرات من مجموعات عرقية وقبلية ومدنية متنوعة، فالهامش الموسيقي ينتج فيه كل إقليم ما يعبر عن أفراده وينقل تفاصيل الحياة اليومية في الصحارى والقرى، ولا تتعدد الأغاني فقط بتعدد الأقاليم؛ بل بتعدد الآلات والإيقاعات، فنجد أنواعاً موسيقية تحمل اسم الدلوكة والطمبور والدوبيت والأقر واللور والأودوروغيرها.

ظلت موسيقى السلم الخماسي في مصر ظاهرة في جنوبها المتصل إثنياً بقبائل شمال السودان النوبية، كما تشترك البلدان في تراث بالغ القدم موسيقياً عبر الآلات والإيقاعات المشتركة في النوبة ومدن القناة، إلا أن لمصر دور بالغ الأهمية في حفظ وتوثيق الأغنية السودانية

مرحباً بكم في "بيضافون"

ظلت موسيقى السلم الخماسي في مصر ظاهرة في جنوبها المتصل إثنياً بقبائل شمال السودان النوبية، ويختلف الباحثون المتخصصون في الموسيقى حول المقامات والسلالم الموسيقية للألحان المصرية القديمة، ففيما يرى باحثون أن الموسيقى المصرية القديمة أكثر تعقيداً من مثيلاتها الأفريقية، وأنها كانت متعددة المقامات كما يظهر فيما عاش منها في صورة الموسيقى القبطية وتسابيح كيهك حسب اعتقادهم، يقطع باحثون معتبرون في تاريخ الموسيقى وعلى رأسهم الراحل الدكتور زين نصار بأن لا سبيل لدينا لمعرفة كيف كانت الألحان المصرية القديمة، لغياب التدوين الموسيقي، كما أنه لا يوجد لدينا دليل علمي على أن الموسيقى القبطية حافظة للموسيقى المصرية القديمة او حتى تمثل امتداداً لها لتعدد التأثيرات الموسيقية التي تعرضت لها مصر طوال تاريخها.

هل يمكن النظر إلى الموسيقى السودانية باعتبارها موسيقى عربية؟

وعلى الرغم من الانفصال الظاهر بين الموسيقى السودانية والموسيقات المصرية المتنوعة – عدا النوبية منها- كانت القاهرة هي المحطة التي كفلت حفظ التراث الموسيقي السوداني وضمنت له الانتشار. فأول تسجيل تحتفظ به الذاكرة الموسيقية للحن سوداني يعود إلى العام 1927 للفنان محمد الماحي، وسُجل وطُبع على عهدة شركة أوديون للاسطوانات في مصر، على نفقة المثقف السوداني ديمتري البازار، وتوالى بعدها تسجيل الألحان والأغاني السودانية في القاهرة ودمشق.

تاريخ التوثيق

على مستوى الموسيقى السائدة والمنتشرة في المشهد السوداني المعاصر، وبالنظر للتاريخ الغنائي في السودان، يتحدث الموسيقار والباحث السوداني كمال يوسف إلى رصيف 22 مؤكداً على أن رصد الأغنية السودانية الحديثة يبدأ في عشرينيات القرن الماضي، مع بدء تسجيل الأعنيات السودانية في القاهرة والشام: "هذه هي المرحلة التي خرجت الأغنية من فلكلوريتها حيث لم تكن منسوبة لفنانين بذواتهم وتنقل شفاهةً، إلى مرحلة توثيق وتسجيل منتجيها".

يواصل الباحث أن جذر الأغنية السودانية الحديثة فنياً هو ذاك الفلكلور الشعبي على اختلافه، والذي اعتمد السلم الخماسي، مستخدماً في معظمه الآلات الإيقاعية فقط، فقد خرجت من عباءة هذه الموسيقى أغانٍ عبرت عن الذات وتناولت العواطف الإنسانية واستخدمت آلات وترية ونحاسية.


ويتفق كل من الموسيقار كمال يوسف والباحث الدكتور الفاتح حسين على أن التطور التالي على هذه المرحلة جاء بفعل أثر احتكاك الفنانين السودانيين بروافد فنية جديدة غير أفريقية، ربما بفعل التحولات الاجتماعية التي مر بها السودان عقب الاحتلال الإنجليزي، وهنا اتجه الموسيقيون السودانيون للتعرف على الموسيقات العالمية وتمكنوا من تعلم الآلات وقراءة النوتة وكتبوا ودونوا الموسيقى السودانية، بعد افتتاح أول مدرسة موسيقية عسكرية في العام 1925م وتم تأسيس فرقة موسيقى الحدود. وعقب استقلال السودان في العام 1956، أصبح يطلق عليها وعلى المدارس موسيقية أخرى، سلاح الموسيقى، حسبما يسجل الدكتور الفاتح حسين في مقال له عن تطور الموسيقى السودانية الحديثة.

  في تلك الغضون ظهرت أغنية الحقيبة وتصادف وجودها مع إنشاء إذاعة أم درمان العام 1940، حتى أن البعض يرى أن اسمها الحقيبة لأن الموسيقيين كانوا يحملون الآلات الموسيقية في حقيبة على ظهورهم بينما يربط البعض التسمية بالبرنامج الإذاعي "حقيبة الفن" لمقدمه صلاح أحمد. تميزت أغنية الحقيبة بإدخال اللازمة إلى الغناء والاستعانة بالأوركسترا، مع منح مساحة كبيرة للارتجال المصاحب للحن، وكان من رواد أغنية الحقيبة محمد وردي.


تضييق البشير يخلق تطورات متسارعة

في التسعينيات وبعد سنوات من الحكم الإسلامي للرئيس السوداني المخلوع عمر البشير، الذي فرض نموذجاً موحداً لمقدمي الإذاعة والتلفزيون، وذوقاً محافظاً على الأغاني المسموح بإذاعتها وانتشارها، نشأت شركات خاصة احتضنت بدورها الموسيقيين المتمردين والمطورين لما أصبح هو البوب السوداني المعاصر، مما دفع الأغنية الرسمية لتطوير نفسها فامتزجت في موجة البوب، وأصبح البوب يُنتَج ويُنشَر داخل الدائرة الرسمية وخارجها لكن بضوابط الدولة المحافظة، وكانت تجربة شركة حصاد للإنتاج الفني فعّالة في تقليل الجهد والوقت والمال على مطربين كثيرين، منهم مثلاً المطرب محمود عبد العزيز، فقد مكنت تلك الشركات المطربين والمطربات من تسجيل أغانيهم من دون الإضطرار للسفر إلى مصر أو سوريا كما اعتادوا، وحافظت على حقوق الملكية الفكرية للأغنية في لحظة اعتمد الجمهور في استهلاك الأغاني على شرائط الكاسيت.

لكن سرعان ما تغير الوضع وظهر السي دي ومن بعده اعتمد التسويق والنشر على المنصات المجانية مما حال دون استمرار الشركات، وبدء موجة جديدة من الإنتاج الذاتي والمستقل للافراد، مما فرض بدوره أشكالاً موسيقية جديدة تعتمد على تقنيات صناعة الموسيقى الإلكترونية بدرجة أكبر من العزف.


وفي السبعينيات والثمانينيات، بفعل التأثر الواسع بموجات الموسيقى السوداء المزدهرة في العالم على يد جيمي هندريكس ومن بعد بوب مارلي، تطورت بشدة أنواع موسيقية اعتمدت على التجريب، كان أبرزها موسيقى "الزنق" المعتمدة على الايقاعات المتسارعة والكلمات المرتجلة وفي الحفلات والأفراح. ثمة  نوع اخر ازدهر في تلك الفترة هو الريقي أو الريجي، الذي يعد من الإيقاعات الحديثة التي دخلت إلى السودان ولاقت انتشاراً واسعاً في أوساط الشباب.

مع الألفية الجديدة تشكلت حركة الراب بالطريقة ذاتها في معظم البلدان العربية، نشأ الراب في دوائر الشباب وتطور على أيديهم بمشاريع تجريبية بالعربية أو الإنجليزية، وظل انتاج الراب ذاتياً ولكن في العام 2020 اتسعت جماهيريته مما جعله معروفاً للجميع في السودان ومحبوباً من قبل الشباب، حتى أصبحت الشركات الإعلانية والمنظمة للحفلات تتهافت للتعاقد مطربيه.


تؤكد إسلام البيتى، عازفة البيز جيتار السودانية، لرصيف22، أنه على الرغم من اعتماد الموسيقى الحديثة على "ميلودي" غربية في الأساس، إلا أن معظم الإنتاج يعتمد على إدخال ايقاعات سودانية محلية، كما اهتموا بالسلم الخماسي على اختلاف القالب المغنى سواء كان في الراب أو الريقي أو غيرهما، الأمر الذي جعل إنتاجهم مستساغاً للأذن السودانية. فضلاً عن الكلمات التي تتناول الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي للشباب في السودان.

هل الموسيقى السودانية عربية؟

إذا كان هذا التصنيف مرتبطاً بالواقع الجغرافي واللغوي، فالإجابة بالتأكيد نعم، تقع السودان في وسط المنطقة العربية وينتج معظم إنتاجها الغنائي باللغة العربية حتى وإن اختلفت لهجاته، لكن إذا التزمنا بالتعريف الفني للموسيقى السودانية، نجد أنها امتدت بجذورها نحو الدول الأفريقية المجاورة والتزمت بالسلم الخماسي بينما تعود أصول الموسيقى العربية المعتمدة على السلم السباعي إلى أربع قوميّات واضحة المعالم والمصادر، أولاها الشرق الأوسط مهد التقاليد، ثانيتها فارس وتمتد شرقاً لآسياً، ثالثتها المغرب العربي وتمتد لإسبانيا والبرتغال وجنوب كل من فرنسا وإيطاليا، ورابعتها التركي وتمتد لآسيا الصغرى، هذا وفقاً لما أقره الباحث والمطرب النوبي حمزة علاء الدين في ورقته البحثية المعنونة: "ورقة في موضع من الموسيقى الإسلاميّة".

يتحدث الفاتح حسين أستاذ الموسيقى وعميد كلية الموسيقى والدراما لرصيف22، راصداً أهم المحطات التي امتزجت فيها الموسيقى العربية مع السودانية، والتي بدأت بفضل الهجرات قبل حتى العام 1504 حين بدأت أول سلطنة عربية إسلامية بعد محاولات عديدة من الغزو الإسلامي لممالك السودان، اعتاد أهل شبه الجزيرة العربية عبور البحر الأحمر والاستقرار في شرق السودان، حتى أصبحوا مكوناً هاماً من التشكيلة السودانية، ونقلوا لها موسيقاهم العربية السباعية السلم وبعضاً من اللغة، بعدها أصبحت العربية اللغة الرسمية في البلاد، وأصبحت لغة معظم الإنتاج الغنائي رغم محافظته المستميتة على سلمه الخماسي وايقاعاته المحلية.

 يواصل الفاتح: "بعد وقوع السودان تحت الحكم الإنجليزي مع مصر، انفتحت الموسيقى السودانية على الموسيقى العربية التي انتقلت لها من مصر، ومع ظهور الراديو والتلفزيون، صار الدمج بين الثقافتين أعمق"، ومعه تبادل الحفلات والليالي الثقافية التي يحييها الباحثون والمطربون والممثلون من البلدين. هذا التبادل لا يزال قائماً حتى الآن، "أنا أقدم أوراقا بحثية تتناول الموسيقى السودانية في كل مؤتمرات الموسيقى العربية المنعقدة في القاهرة منذ العام 2006".

وعن علاقة الجمهور السوداني بالموسيقى العربية يتحدث الموسيقي وعازف العود السوداني مازن باقر عن تجربته كمدير ومدرس في فرع بيت العود (مؤسسة مصرية) بالخرطوم، وتأسيسه لفرقة إشراق وهى أول فرقة سودانية متخصصة بالموسيقى الشرقية في السودان. يقول باقر: "أنشىء بيت العود فرعه في الخرطوم في يناير/ كانون الثاني 2020، إيماناً بأن الشعب السوداني مثقف ومطلع ومنفتح وطروب للموسيقى العربية، وآلة العود هي آلة أصيلة في الموسيقى السودانية أو العربية، أيضاً صُممت المناهج المعدة للتدريس في الخرطوم وفقاً للخصوصية الثقافية للسودان، وجرى تطويعها لتراعي السلم الخماسي والايقاعات السودانية".

يرى الباقر أن ذلك التكييف كان مفتاحاً لنجاح بيت العود في السودان، و"يفسر الإقبال الواسع من الشباب المحترفين والهواة لدراسة عزف العود بالأسلوبين العراقي والسوداني، فخلال عامين تم تخريج دفعتين من الدارسين، وإقامة عدة حفلات التقوا فيها بالجمهور، والآن انتقلنا لتعليم آلة القانون ونحن بصدد تخريج دفعة كاملة من الدارسين لها في وقت قريب".

يعني السرد السابق أن التنوع هو السمة الأصيلة في الموسيقى السودانية أو حتى في إقبال الشعب السوداني وانفتاحه على الآخر، فقد أدرك منذ زمن طويل أن الموسيقى وحدها هي اللغة التي تتعدى حدود سوء الفهم، وبالتالي فإن تقسيمها لعربية وسودانية وفقاً للجغرافية أو حتى حسب قواعدها الفنية إنما ينم عن رغبة في إبطال سحرها العابر للهويات وهو ما يجاهد ضده الفنانون السودانيون ومستمعوهم.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard