بعد الانقلاب العسكري الذي قام به عمر البشير في سنة 1989 بالسودان، خرجت عائلة السارة ذات التوجهات اليسارية في رحلة هجرة طويلة بدأت باليمن أولاً ثم الولايات المتحدة الأمريكية.
في المدرسة ومع صعوبات الاندماج وتعلم لغة جديدة، وجدت السارة في فصول الموسيقي مساحة أكبر للتواصل مع الآخرين وللتعبير عن رحلتها والأسئلة المتعددة التي كانت تواجهها.
بعد الشوط الطويل الذي قطعته في رحلتها الموسيقية، تجاوب بشكل حاسم حينما تسألها عن هويتها: "أنا سودانية، سأظل كذلك وكل ما ألمسه أو أنتجه سيكون سودانياً، حتى لو بدوت غريبة لبعض الدوائر السودانية. فأنا اخترت ألا أكون جزءاً من الصورة التي يحاول النظام عكسها عن السودان، لأني أعتقد أن السودان أكثر تنوعاً وأكبر من تلك الصورة".
عرف الجمهور المصري والعربي "السارة" بشكل واسع حينما شاركت مع مجموعة "مشروع النيل" في إحياء عدد من الحفلات الموسيقية، كان الغرض الأساسي منها تقديم أنواع موسيقية مختلفة من دول يجمعها الاشتراك في نهر واحد. لفتت السارة الأنظار بطريقتها المميزة في الغناء التي تقدم الإيقاعات الخماسية السودانية بأسلوب معاصر وحيوي مختلف عن الموسيقى السودانية المعتادة، إلى جانب حضورها على المسرح سواء من حيث الملابس أو من حيث أدائها الحركي.
وصول السارة إلى مشروع النيل أتى بعد رحلة طويلة، بدأت من صغرها حينما كانت تتلقى كطفلة سودانية سؤال "أنت منين؟". للإجابة عن هذا السؤال، عملت السارة خلال دراستها الجامعية على إنجاز بحث عن موسيقى الزار في السودان بالتعاون مع الدكتور علي الضو من جامعة الفيوم.في الوقت ذاته، وبينما كانت تتطور من مهاراتها الموسيقية والغنائية، واجهت السارة عمليات التعليب والحصر في أطر موسيقية مختلفة. "حينما تبدأ في الغناء، يريد كل شخص أن تغني على طريقته" تقول، ثم تضيف "الكثيرون رفضوا اهتمامي بالموسيقى السودانية الشعبية لأنها في رأيهم موسيقى متخلفة، بسبب اعتمادها على السلم الخماسي. كان الجميع يدفعونني إلى غناء الموسيقي العربية الكلاسيكية. كنت أسمع هذه الأراء من الكثير من العرب والسودانيين المقيمين في نيويورك، وقد كانوا بطبيعة الحال جمهوري الرئيسي في الأماكن حيث كان الغناء متاحاً لي".
لفهم أي نوع من الموسيقى، لا بد بحسب السارة من فهم السياقات السياسية والاجتماعية التي انتجت تلك الموسيقى. تقول: "لا يمكن أن تفهم موسيقى الراي دون أن تفهم وتعرف التاريخ السياسي والاجتماعي الجزائري". لكن هذا لا يعنى بالضرورة أن يكون لدى الفنان التزام أو موقف سياسي واضح، إذ تعتقد السارة أن التغيير الاجتماعي أهم بكثير من التغيير السياسي.
تعرفت السارة في نيويورك على موسيقي أمريكي مهتم بالموسيقي الكلاسيكية والشعبية في "زنجبار". لأكثر من عام، تفرغت للتعرف على تاريخ "زنجبار"، خصوصاً تحت الاحتلال العماني، وكيف اختلطت الموسيقي العربية الكلاسيكية التي كانت تعزف للسلطان مع الموسيقي الأفريقية والسواحلية.مشروع موسيقى "زنجبار" لم يكتمل لكنه خلق لدى السارة منهجية خاصة في اكتشاف الموسيقى، تتعرف من خلالها على الخطب المهمشة والتي لا تجد تعبيراً عنها إلا في الأغاني الشعبية. لذا عندما بدأت السارة أخيراً في الاهتمام بالموسيقى والأغاني السودانية، وقعت في غرام ما يعرف بأغاني البنات، وهي الأغاني التي تغنيها البنات في الأفراح والأعراس. لكن السارة لم تعتمد في مشروعها الغنائي على أداء الأغاني الشعبية، بل صنعت أغانيها الخاصة، وهي تصر دائماً على أن تكتب كلمات أغانيها بنفسها. تقول: "هناك عدم احترام للهجة السودانية وعدم احترام أكبر لحكاية المرأة، وكأن على المغنية دوماً أن تغني كلمات شاعر آخر. أنا لدي حكايتي الخاصة وهي ما أرغب في تقديمه وغنائه".
لدى السارة الآن ثلاثة مشاريع رئيسية تحكي من خلالها حكايتها. المشروع الأول تعتبره مشروعها الرئيسي وهو يضم أعمالها الموسيقية مع فريق "نوبا تونز" The Nubatones، وفيها تقدم خليطاً مما تصفه بموسيقى شرق أفريقيا، معتمدةً بشكل أساسي على الآلات الإيقاعية بصحبة العود.
تختار السارة من التراث الشعري والغنائي السوداني ما يعبر عن حكايتها الشخصية، وتقوم بتوليف الجمل والكلمات لإنتاج أغانيها الخاصة.
المشروع الثاني هو الألبوم الذي قدمته مع المنتج والموزع الموسيقي الفرنسي "ديبروي" Debruit. تروي السارة قصة تعاونهما قائلةً: "أنا معجبة بشدة بالموسيقي الإلكترونية التي يقدمها، أرسلت له إيميل أخبره فيه أني أحب موسيقاه وأتمنى أن نعمل على أغنية واحدة. أعجب بعينات الموسيقى السودانية التي أرسلتها له وبدأنا بالعمل في المرحلة الأولى من خلال البريد الإلكتروني. ثم أتيحت لي الفرصة للسفر إلى بلجيكا حيث يقيم، فاستأجرنا شقة صغيرة مدة أسبوع وبدلاً من أغنية واحدة أنتجنا ألبوماً جوالاً".
في جوال تعاد هندسة الإيقاعات السودانية وتجزئتها إلكترونياً، وبصوت السارة يخرج المنتج النهائي أغاني راقصة تتضافر فيها إيقاعات الرقص الشرق الأفريقية مع إيقاعات الرقص الحديث.نشر الموضوع على الموقع في 16.02.2015
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...