شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
من أعطاك الحقّ في تصوير أطفالي وأنا ميت؟

من أعطاك الحقّ في تصوير أطفالي وأنا ميت؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

من أعطاك الحق في تصويري وأنا ميت؟ من أعطاك الحق في تصوير أطفالي وهم يُخرجون من تحت الركام مذعورين بدون أم أو أب وسط وجوه غريبة.

أو -لو تحدثنا بلسان الميت في الكارثة حقاً- يمكننا القول: من أعطاك الحق في تصوير أطفالي وأنا ميت، وغير موجود للدفاع عنهم وحمايتهم من عيون البشر الشرهة وهي تلتهم يتمهم وخوفهم وتغذي الرغبة المريضة بمشاهدة الموت من بعيد؟
لا لسان يتحدث للموتى، لا قوة لهم للدفاع عن أنفسهم ولتغطية أجسادهم ولحماية وجوههم من الكاميرات، ولا لأرواحهم تلك القدرة على حماية أطفالهم من عيون الآخرين ومن كاميرات الصحافة.

هل نفقد الحق في خصوصيتنا في الكارثة؟

لأسباب كهذه وُضعت "أخلاقيات مهنة الصحافة" وبالأخص في جانبها المرئي، والتي لا تختلف عن أية بديهيات تفرضها علينا منظومة القيم الأخلاقية، من الطبيعي ألا نتلصص على الآخرين، وألا نصورهم دون إذنهم، وألا نعرض أي طفل على الملأ، من الطبيعي أكثر ألا نستغل لحظة رعب طفل لنبيعه هو وصورته للغرباء في كل مكان. ولا نحتاج أحداً يخبرنا أن نحترم حرمة الجثث ولا نتسابق لتصويرها... هذه بديهيات في الظروف العادية، فما الذي يتغير في الكوارث لتسقط كل المحاذير السابقة، ويصبح تجاوز الأخلاق غير مرفوض؟
لو تحدثنا بلسان الميت في الكارثة، يمكننا القول: من أعطاك الحق في تصوير أطفالي وأنا ميت، وغير موجود للدفاع عنهم وحمايتهم من عيون البشر الشرهة وهي تلتهم يُتمهم وخوفهم؟

عادة ما تسبق الكاميرات سيارات الإسعاف وفرق الإنقاذ في الكوارث العظيمة، ومع تحوّل كل شخص إلى كاميرا متحركة بوجود الهواتف النقالة في جيوبنا أصبحت المطالبة بالحق في الخصوصية تتعدى الصحافة إلى غير الصحافيين.

ومع هذا، وحتى إن كان غير الصحافيين غير مدركين لهذه البديهيات المهنية، كحماية الخصوصية وعدم تصوير الأشخاص دون علمهم وموافقتهم، واحترام الجثث وحرمة الموت، وعدم تصوير الأطفال دون إذن الأهل، لكن المؤسسات الإعلامية تعرفها جيداً، وهي تتجاهل أدبياتها بمحض إرادتها لتقود هذا الشره، وهي أول المتهافتين على تداول صور الضحايا وشرائها، ومن ثم ترويجها في خلفياتها الإخبارية كسبق صحافي دون أدنى اعتبار لأخلاقيات المهنة التي ظلت مقدسة حتى انتهاء عهد الصحف الورقية والدخول في عهد "الإعلام الإلكتروني" و"المواطن الصحافي".
الصحافة تركت أدبياتها خلفها وركضت خلف الكاميرات الصغيرة، وبدلاً من أن تفرض معاييرها صارت تنافس الموبايلات، بل وتفتح منابرها لها دون التحقق من المعلومة، ودون مراجعة ظروف التقاط الصور، وأهلية الأشخاص، ودقة المعلومة.

رغبة حيوانية

هنالك توحش إلكتروني يتغذى على صور الموتى والمصابين دون أدنى شعور بالذنب أو بالانتهاك، بل وقد يصاحبه شعور بالتفرد والفوز بأخذ اللقطة.
هو توحّش بأدوات متطورة وبسيطة، ويتسبب بإيذاء واسع الانتشار، لكنه لا يترك حالة ذعر جماعية كالمصاحبة للحرب لأن الكاميرا لا ترعب كالكلاشينكوف، لكن فلنتخيل العالم لو استبدلنا كل موبايل في الأرض اليوم بسلاح ناري، ولنتخيل حجم الإيذاء الجسدي الذي يمكن أن يحدث من أشخاص لا يترددون باستخدام الأسلحة في أي لحظة، هذا هو حجم الإيذاء المعنوي في العالم اليوم بسبب وجود الكاميرات في أيدي من لا يحترمون الخصوصية.  
هنالك توحّش إلكتروني يتغذى على صور الموتى والمصابين، أدواته متطورة وبسيطة، ويتسبب بإيذاء واسع الانتشار، لكنه لا يترك حالة ذعر جماعية كالمصاحبة للحرب لأن الكاميرا لا ترعب كالكلاشينكوف

في تاريخ البشرية الكثير السقطات الأخلاقية التي مرت وتم التصالح معها لقرون فقط بسبب انتشارها، كاضطهاد النساء والأطفال، وقبول الطبقية، فهل سنطبّع علاقتنا كبشر مع الشره البصري الجديد فقط لأنه منتشر؟ هل سيصبح انتهاك حق الأشخاص في الخصوصية مقبولاً إذا صاروا في لحظة أضعف من أن يرفضوا أو يدافعوا عن أنفسهم.
الكارثة في مكان آخر صحيح، لكن الرغبة الحيوانية بمراقبة الموت التي تسكننا كآدميين في نفس المكان، وهي ما تجعل هذه الصور ذات قيمة.
فغريزة البقاء تجعل الأحياء لا يقاومون مشاهدة الموت، هذا ما نفعله حين نمر بالقرب من حادث فتتباطأ حركة السيارات لمراقبة الدم والموت، وهو تماماً ما تفعله الحيوانات حين يموت أحدها، لا سيما من فصيلتها، ولهذا نتمترس قبالة الشاشات نراقب أناساً في أسوأ حالاتهم ولا نشعر أننا نتلصص عليهم بثياب نومهم، أو ندخل بيوتهم المهدمة دون إذنهم. 

ماذا لو كانت الكارثة أقرب؟ 

أتساءل وأنا أراقب الشاشة عن شعور هؤلاء أو شعور أحبتهم، والذي لا بد له أن يختلف عن شعوري كمشاهدة، وأتخيل نفسي أو فرداً من عائلتي في موقف كهذا، يُعرض على الملأ بثياب النوم الممزقة، وتصبح مصيبته وأحزانه مادة للتداول والسفر على الموبايلات بين الأشخاص والبلدان، ليدخل وجهه وهو في أسوأ لحظات حياته في أرشيف الصحافة والإنترنت للأبد... هكذا سيذكره العالم.
من الصعب أن نفهم ما الذي يمر به من عاش أحداثاً كالخروج من تحت الركام والنجاة من الزلزال، هذا النوع المهول من الكوارث غير قابل للإدراك بالمشاهدة، فقط يُدرك بالتجربة، لكن هذا الأمر لا يمنعنا التعاطف، ولا يمنعنا من أن نضع أنفسنا مكان هؤلاء المكلومين في محاولة لدفع الكاميرات عن وجوههم ووجوه أحبتهم.
هنالك تطور لعلم الأخلاق يحدث بالموازاة مع تطور العلوم والتكنولوجيا، أو بالأحرى لممارسات الأخلاق في ظل الأدوات الجديدة، لذا فمفهوم مثل الخصوصية تطور بدوره، ولذا تخرج آلاف الأصوات يومياً للمطالبة بالحق في حماية البيانات، وعدم بيعها وتداولها للشركات وتسليع البشر لصالح الشركات العابرة للقارات.
من نفس المنطلق لا بد أن تكون هناك مطالبات بحماية بيانات الأشخاص في حالة فقدان قدرتهم على ذلك، الوجه جزء من بياناتنا، وأجسادنا كذلك، وتعرضنا لكارثة هو جزء من بياناتنا وقصصنا التي لا يحق لأحد مشاركتها سوانا. والموتى والجرحى والأطفال لا يملكون القدرة على الرفض، لذا علينا أن نرفض بالنيابة عنهم أن نشاهد صورهم. 

سباق في استبكاء المشاهد

كل ما هنالك أن على الجمهور أن يبكي بسبب الصورة، لأن أعداد الموتى، وطريقة موتهم، وآلام الجرحى، والمشردين في الشتاء، وفقدان الناس لأمانها ومنازلها وممتلكاتها وعائلاتها وجيرانها، كل هذا غير كاف للبكاء، نحتاج إلى جملة مثل "يا حرام كيف طلعوه" لكي نبكي، أو لمشهد طفل مغبر ومذعور لنذرف دموعنا. نحن الذين نعيش في بلاد أقل ما يقال عنها أنها تعيش منذ عقود تنويعاً على الموت.
هذا النوع المهول من الكوارث غير قابل للإدراك بالمشاهدة، فقط يُدرك بالتجربة، لكن هذا الأمر لا يمنعنا التعاطف، ولا يمنعنا من أن نضع أنفسنا مكان هؤلاء المكلومين في محاولة لدفع الكاميرات عن وجوههم ووجوه أحبتهم

يبدو الرقم الألفي غير كافٍ للبكاء، فتضاف الصورة للرقم، ومن ثم الموسيقى التصويرية الحزينة للتقرير، ومن ثم الجمل الوصفية غير الخبرية، والتساؤلات العبثية  وحتى الغيبية لمزيد من الاستبكاء. 
نحتاج إلى وقفة طويلة لمراجعة أنفسنا، وإلى طرح ذلك النوع من الأسئلة التي تجمع الأخلاق بالتكنولوجيا، مثلاً هل نحتاج إلى إعادة تعريف الخصوصية في زمن الكاميرات؟ قد نتفق أن يتنازل كل منا عن جزء من خصوصيته بمحض إرادته ليصبح انتهاكه للآخرين أخلاقياً من باب العدل والمساواة. 

أو هل تفقدنا الكارثة جزءاً من حقوقنا لأننا نصبح خبراً لا بشراً، أو بالأحرى رقماً لا اسماً، وما هي أهمية الرقم الواحد حين يكون الموت بعشرات الآلاف، حياة واحدة ضمن فيضان الموت؟ لا شيء، لكن إذا اقترنت بصورة، وحبذا لو كانت لطفلة تحمي أخاها الصغير، سيصبح لدينا قصة.
السؤال الأكبر هو هل نحتاج إلى صورة الموت لنصدق وجوده؟ 

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

ثورتنا على الموروث القديم

الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.

Website by WhiteBeard