بعيداً عن التفسيرات الجيولوجية، وحركة مقياس ريختر في تحليل آثار الكوارث الطبيعية على المباني، فإن التفسيرات العلمية لا تقلل من أثر الفقر كعامل مضاعف للضرر.
المنازل المتصدعة، والقديمة، وذات الأساسات الضعيفة تنهار أو تتضرر أسرع من سواها، ومع هذا فقد تكون المنازل التي تبدو فاخرة أضعف من غيرها، لعدد من العوامل الهندسية التي لا نراها لدى شراء منزل، أو لا نعلم بها لدى التعاقد مع مقاول لبناء بيت العمر.
انشغلت وسائل الإعلام العربية والعالمية طوال اليومين الماضيين بأخبار الزلزال الذي ضرب مدناً في سوريا وتركيا وخلّف وراءه آلاف الموتى والجرحى والمدفونين تحت الأنقاض، من منّا لم يتخيّل نفسه في هكذا موقف، ومن منّا لم يتساءل عمّا إذا كان منزله سيتحمل زلزالاً، بالأخص من يعيشون في مناطق حفرة الانهدام، وسيما أن معظمنا يسكن في شقق لا منازل مستقلة.
لماذا تسقط عمارات وتظل أخرى في نفس الشارع؟
المتابع للأخبار والصور يلاحظ الأمر بسهولة، عمارة وقعت بينما العمارات التي على يمينها وشمالها ظلت واقفة، مبانٍ تصدعت وأخرى صمدت، فما الذي يشكل هذا الفرق بين الحياة والموت في البناء؟
يحدث الضعف في البناء بسبب غياب الرقابة الحقيقية من قبل الحكومات للتحقق من قانونية إنشاء المباني، بحيث لا تكون خططاً مرسومة ومكتوبة فقط على الورق، بل منفذة على الأرض كما وردت في المخططات التي حصلت على الموافقة
"كلما كان الإنسان فقيراً كان ضحية أسهل للزلزال"، بهذه العبارة فضّل المهندس المعماري أيمن العمايرة أن يفسر حجم الأثر الكبير الذي خلفه زلزال تركيا أو أي زلزال سابق في حديثه لرصيف22، يقول: "الفقراء يسكنون في منازل هشة نظراً لتواضع أسعارها، من باب البحث عن أماكن يستر بها الشخص نفسه وعائلته، وكل ذلك يهيىء لبيئة خصبة للتضرر من الزلازل"
لكن المباني الأرخص سعراً لا تعني أماناً أقل من وجهة نظر القانون، أي من حيث متانة الأساسات.
ويحيل العمايرة الأمر برمته إلى ضعف الرقابة والمتابعة من الدولة أو البلدية، يقول: "يحدث هذا الضعف في البناء في ظل غياب المراقبة الحقيقية من قبل الدول للتحقق من قانونية إنشاء المباني، بحيث لا تكون خططاً مرسومة ومكتوبة فقط على الورق، بل منفذة على الأرض كما وردت في المخططات التي حصلت على الموافقة".
ويضيف: "من المعروف أن أي عمل هندسي معماري يخضع إلى التدقيق والتعديل، لكن في كثير من الأحيان تحدث حالات التفاف وتحايل من المقاول، بحيث يستغني أشخاص عن ضمان تنفيذ شروط مهمة لسلامة المبنى أو السكن، حرصاً على التوفير المادي".
على عكس الأغنياء الذين، وفق قول المهندس العمايرة، يحرصون على دفع أضعاف المبالغ من أجل ضمان أن تكون مساكنهم آمنة وقوية وقادرة على تحمل أي كوارث طبيعية، كالزلازل والسيول.
في كثير من الأحيان تحدث حالات تحايل من المقاول، بحيث يستغني عن ضمان تنفيذ شروط مهمة لسلامة المبنى، حرصاً على التوفير المادي
الضمير لا يعني شيئاً في الهندسة بحسب كلمات العمايرة، سيما في سياق الحديث عن التلاعبات التي تحدث بكثرة في الخطط الإنشائية، ويقول: "جزء كبير من تلك الخطط ببقى على الورق ولا ينشغل على الأرض، وهنا لا نتحدث عن أهمية أن يكون ضمير المهندس يقظاً، بل نتحدث عن أهمية مراقبة حقيقية من قبل الحكومات".
العمر الافتراضي للبناء 50 عاماً
بحسب علم الهندسة، فالعمر الافتراضي لأي مبنى هو خمسون سنة، أما في المنطقة العربية تحديداً فقد بدأ تطبيق "كودات" الزلازل في الإنشاءات منذ ثمانينيات القرن الماضي، بالتالي فإن جميع المباني القديمة مهددة بالانهيار من الزلازل مثل مباني شمال وجنوب سوريا التي تدمرت كما يوضح عمايرة.
إلا أن هذا الأمر لا يلغي أن الغش في البناء الجديد قد يجعل عمارة بعمر ثلاث سنوات مثلاً أضعف من مبنى عمره ستون عاماً، كما حدث في اللاذقية، إذ شارك أكثر من شخص من سكان المساكن الجديدة عبر فيسبوك حنقهم على مقاولي البيوت الجديدة التي تهاوت على رؤوس سكانها، بينما ظلت معظم العمارات القديمة صحيحة.
من جهته بيّن المهندس وعضو مجلس الأعيان الأردني خالد رمضان، أن الحديث العام عن "الابتعاد عن المناطق التي قد تشكل سيولاً فيها أو تكون عرضة للتضرر من الكوارث الطبيعية هو حديث بعيد عن المنطق وغير كاف".
ومن النصائح التي قدمها هي التأكد من أن المباني خضعت لإشراف هندسي حقيقي وليس صورياً، والتأكد من أن الأبنية تم تصميمها حسب الكودات المتعلقة بالزلازل".
العمر الافتراضي لأي مبنى هو خمسون سنة، أما في المنطقة العربية تحديداً فقد بدأ تطبيق "كودات" الزلازل في الإنشاءات منذ ثمانينيات القرن الماضي، بالتالي فإن جميع المباني القديمة مهددة بالانهيار من الزلازل
ولأن هذه مسؤولية الدول وبسبب وجود كثير من التحايل في بلادنا فعلى المواطن التأكد بنفسه، يقول: "الشروط الهندسية المتوجب توفرها في المباني لمجابهة مشاكل الزلازل تحتاج إلى تكلفة مادية عالية، ومسؤولية الدول أن توفر السكن الكريم، أي الذي يحمي الإنسان من الكوارث والظروف الطبيعية، ولا يعني فقط بيتاً وغرفة".
مزيد من الحديد والقضبان في البناء
بحسب وجهة نظر المهندس رائد وهبة، فموضوع اختيار المباني والمساكن الآمنة التي تحمي الأشخاص من التضرر من خطر الزلازل، مرتبط بالتحقق من توافق المبنى مع الشروط والـ"كودات" الإنشائية، فالمشكلة التي تحدث كثيراً كما يقول لرصيف22 هي أن كثيراً من أصحاب الإنشاءات في بلادنا يتجنبون دفع تكلفة المواد التي تحتمل الزلازل مثل الحديد والقضبان، لأنها ذات تكلفة مالية عالية.
يقول: "هذا تصرف غير قانوني لكنه يحدث من تحت إلى تحت، وما يصعب الأمر أكثر أنه ليس من السهل تقدير أن هذا المبنى سليم من ناحية زلزالية بمجرد النظر إليه، وعلى من هم حريصون على اختيار مبانٍ آمنة لهم التحقق من هوية من أنشأها ومدى مصادقيته".
ينصح المهندسون من يريد شراء منزل التأكد من مصداقية الشركة والمقاول وإجراء الفحوصات الهندسية، وعدم تجاهل الأمور الصغيرة كالتشققات في الجدران
وينصح بالالتفات إلى أصغر الأمور، سيما التشققات، يقول: "حتى التشققات الصغيرة لا يجوز تجاهلها، الكثير من الناس وبالأخص من ذوي الدخل المحدود، يتجاهلون التشققات والتصدعات الصغيرة في المباني التي يختارون السكن فيها، هذه التشققات عامل مهم في التأثر من الزلازل بصرف النظر عن قوته".
ولفت وهبة إلى أن القوة الزلزالية تؤثر على المباني القديمة أكثر من الجديدة، لأنها تأتي من الجوانب، فمعظم المباني خصوصاً في المنطقة العربية تهتم بالأساسات فقط التي فوق الأرض، دون التحقق من وجود مواد إنشائية تغطي جميع أطراف المبنى وتحميه من الكوارث.
رقابة شكلية على الإنشاءات
"دائماً ما تكشف الكوارث عن عورات الحكومات وهلامية القوانين" بحسب ما قاله الخبير الحقوقي أمين صبح لرصيف22، ويضم صوته إلى أصوات من يربطون الفقر بحجم الخسارة البشرية التي سببها الزلزال، فبحسب قوله: "الفقراء هم ضحايا فساد الدول وحكوماتها، وهشاشة تفعيل قوانينها، ولعل ما حدث مؤخراً يثبت صحة ذلك".
ويضيف: "دول الشرق الأوسط عموماً، تهتم بالشكل الظاهري أمام المجتمع الدولي، فيما ينهش الفساد مؤسساتها، وأبنيتها، التي تتخذ نهج الحبر على الورق في القوانين، والواقع أبعد ما يكون عن تطبيقها".
القوة الزلزالية تؤثر على المباني القديمة أكثر من الجديدة، لأنها تأتي من الجوانب، فمعظم المباني خصوصاً في المنطقة العربية تهتم بالأساسات التي فوق الأرض فقط دون التحقق من وجود مواد إنشائية تغطي جميع أطراف المبنى وتحميه من الكوارث
الموضوع ليس آلية اختيار مساكن آمنة، بحسب صبح، الذي يقول":الأهم هي آلية مراقبة الحكومات طرق الفساد والتحايل والالتواء في المشاريع الإسكانية، والتي غالباً ما يقودها متنفذون ورجال أعمال من أصحاب النهج والسياسيات الرأسمالية، من يراقب مشهد الفساد في منطقتنا، عليه أن يكون متصالحاً مع ذاته ويقتنع بفكرة أن أغلب المباني السكنية في المنطقة معرضة لأن تتلاشى من جراء الكوارث الطبيعية، لأنها نتاج لسياسات فاسدة تحميها حكومات قاصرة في التعامل معها".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ يومالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يومينوالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت