شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
أريد أن أرقص فحسب أيتها التماثيل الجامدة

أريد أن أرقص فحسب أيتها التماثيل الجامدة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مجاز

السبت 4 فبراير 202312:52 م

الخفّة الخفية



سمعت صوتاً يدغدغ أذني بنغمات لطيفة، وتتالت النغمات حتى أصبحت أغنية حقيقية، بغائبين وانتظارات وقُبَل وداع ساخنة. صرخت في أروقة الدار: "مطر... مطر". وصعدت إلى السطح مسرعة كأن أحداً ينتظرني هناك، غائب وانتظار وقُبُل لقاء ساخنة.

بدأ المطر ينهمر بغزارة وبدأت أرقص على أرضية السطح المبللة. أرقص وأدور حول نفسي وأضحك كمن فقد عقله، أو ربما وجده في حالتي. فجأة تسحبني أمي من يدي: "الجيران رح يظنّوك مجنونة".

أريد أن أرقص فحسب، أريد أن أدور على رؤوس أصابعي، ويداي مفتوحتان على اتساع البهجة. ها أنت تقف هنا، كما تركتك، ذابلاً، ضعيفاً، متواطئاً مع الهروب، مستلقياً على ظلك، تستبيحك القسوة وترمقك الكؤوس المقفرة بعيني موسى.

أتدري أن الكون الذي رسمته لي على ورقة أصبح عناوين ندمي في جرائد روحي الرسمية، إعلان ممول، هو نهمي بفارغات الحروف المزركشة التي ماتت على شفتيك؟

لكنني أمتلك ابتساماتك كلها، وأعلق نومك خلف سرير الوحدة.

هل أدهشتك المرايا التي نبتت من تلقاء نفسي فوق كل شيء، ورائحة الغياب تواصل طردي من حضورك، وأواصل أنا عدّ المسامير التي علقتني بها على حائط لا مبالاتك؟

*****

دخلت بشعري المبتل وقدميّ الحافيتين، فتعثرت بابتسامة أبي المركونة قرب الباب كتميمة قرآنية، وصوت أمي يملأ المكان: "خذها معك إلى القرية. فلترقص قدر ما تشاء، هناك بين الأشجار وليس هنا بين الجيران كلما أمطرت السماء".

لم أفهم يوماً سبب كل هذا القلق التي تعانيه أمي من موقفها تجاه الناس، فابنتها البكر التي من المفترض أن تكون قدوة في الأخلاق، ترقص بقلة أدب بفستانها القصير المبلل على السطح، وعلى مرأى الجماهير الخائفة التي تغلق نوافذها في وجه المطر.

المطر هو حبيب روحي الأزلي و الوحيد الذي يستحق أن أرقص له عارية من كل شيء، لو أمكنني ذلك، وعلى حرف سطح شاهق تحت ظل الله، لما تردّدت لحظة.

استيقظت في سن مبكرة لأرى الدم في الشوارع، فأدمنت المنزل، وشهدت كل حروب أسرتي وحروب الجيران، فلزمت الفراش، مللت من كوني إنساناً بائساً تهرب العصافير من ظله، فصرت فراشة تهرب من ملاحقة العصافير... مجاز

استيقظت في سن مبكرة لأرى الدم في الشوارع، فأدمنت المنزل، وشهدت كل حروب أسرتي وحروب الجيران، فلزمت الفراش، طوّقتني أحلامي بالحروب في الطرقات وفي المنزل، مع أسرتي وأخوتي والجيران، فحملت بندقية وودعت أمي. مللت من كوني إنساناً بائساً تهرب العصافير من ظله، فصرت فراشة تهرب من ملاحقة العصافير.

كان شباك غرفتي صديق جبيني المقرب. أقترب من زجاجه ملصقة وجهي بوجهه وأشتم رائحة الخشب المحيط به. يطلعني على أسرار العشاق في حيّنا، الذين يلتقون ليلاً في مداخل الأبنية وخلف الأبواب الحديدية. أشتم رائحة أجسادهم وأسمع صوت احتكاكها إذا ما رنّت أجراس الرغبة وتوالت القبلات الحارة.

لا أكاد أرى شيئاً في الظلام الحالك، لكنني أستطيع تمييز الروائح والأصوات على نحو يمكنني من خلاله إرضاء نهم فضولي الدائم، ويمكنني تمييز الحالة الشعورية لكل باب. فمن يسقط خلف باب الرغبة ليس كمن يسقط خلف باب الحب واللهفة، وباب التباعد غير باب الدلال، وباب الجفاء يوالي باب الرغبة.

وفي كل الأحوال، أحسن استقبال الزفرات المتقطعة كمن يسحب صنارته من المياه ظافراً بعد ساعات من الانتظار. أذكر ذات خيبة أنني أحييت حفلة لأم كلثوم على أريكتي الثنائية، و سط جمهور غفير من الألم و القصاصات الورقية الممتلئة باقتباسات عن الضيق والحب والشهوة.

كانت زجاجة الويسكي هي المايسترو، حيث عزفت لساعات متواصلة دون تعب، ورحت أغني "وابتدى الليل يبقى أطول من ساعاته". حقاً كان ليلاً طويلاً يطوّقني بخوف من نوع مختلف، خوف من فقدان شباكي، أريكتي، جدراني، غرفتي ومنزلي.

يسكنني المنزل الذي أسكن فيه، أحمله معي إلى الجامعة و أفرغ محتوياته في كوب النسكافيه. أستطيع مزج نكهاته فيذوب في دمي كقطعة حلوى.

ولاسيما جدران غرفتي الصغيرة التي لا تسأم من التقاطي كلما وقعت في إحدى خيباتي المتلاحقة، حتى أنها تسمح لي بصفعها و لكمها بقبضة يدي دون أن تعترض أو تتذمر، حتى تنقبض أصابعي وتتألم، فأفردها على الحائط، لتنزلق محاولة ترميم ما أحدثته من فوضى في عمق صلابته و هدوئه.

كيف يمكننا اعتبار الأشياء بلا ذاكرة، فقط لأننا نمتلكها. لطالما لجأت إلى جدراني العازلة للموت لأنعش ذكريات كثيرة، فمرة قبّلت الجدار حين تقمص وجه من أحب، ومرة تشاجرت معه وأوسعته صراخاً، و عندما قابلني بالذهول أصابتني الشفقة، فأردت احتواءه بكلتا ذراعي.

كيف يمكننا اعتبار الأشياء بلا ذاكرة، فقط لأننا نمتلكها. لطالما لجأت إلى جدراني العازلة للموت لأنعش ذكريات كثيرة، فمرة قبّلت الجدار حين تقمص وجه من أحب، ومرة تشاجرت معه وأوسعته صراخاً... مجاز

ترتبط يداي مع جدران غرفتي بعلاقة غريبة، دافئة، باردة، موجعة ومنعشة، وترتبط قدماي مع أرصفة حارتنا بعلاقة سرية، تروي تفاصيلها شرفات البيوت المجاورة، ومقاعد الحديقة القريبة. أستطيع تمييز خطوات أبي تعبرها لتقله إلى المنزل بعد نهار طويل.

*****

مرض أبي بعد أن باع أرضه بعشرة أيام تماماً. لم تكن مجرد صدفة، بالنسبة لي على الأقل، فرجل مثل أبي، أمضى عمره مسافراً بين مدينته التي يسكنها، مرتبطاً بعمله كضابط في إحدى القطع العسكرية فيها، وبين قريته التي تسكنها روحه، لتعلقه الشديد بحبيبته الأرض التي حتما كانت تبادله المشاعر، فهو الذي يجلس تحت ظل شجرة الليمون بعد يوم عمل شاق، فيتبسم لمياه النهر و يلوح للمغيب بكأس المتة وسيجارة الحمراء الطويلة.

ذات مرة زرته بغتة. أردت مفاجأته. رحت أنسل بين شجيرات البرتقال غارقة بالضحك والحماس، حتى لمحته من بعيد يغرق بعرقه، و يضيع بين الأغصان حاملاً معوله ومنجله، يلف رأسه بشال قديم ويجر جزمته المجلجلة بالأتربة. لا أدري كيف أدركني الحزن فجأة وانقض على عيني بالدموع.

هذا أبي يتوحد مع هذه الأرض. يستطيع سماع نشيجها ويمكنه تلقف رسائلها وسماع مواويل حجارتها، وترجمة تلافيف كل ورقة عنب، والتنبؤ بكل النوايا الخفية لعناقيدها.

لم أتساءل يوماً عن مدى قدرة الأماكن على الالتصاق بأرواح أصحابها، ذاك الالتصاق الذي يشبه الامتزاج بين مكونات المشاعر والأحاسيس الإنسانية وظلها على جباه الموجودات المادية.

عندما غادرت الحي الذي كبرت فيه، واتخذنا مسكناً في المدينة ذاتها، شعرت أنني غادرت الحدود الطبيعية لموطن روحي، عبر تذكرة ذهاب دون إياب، وبالرغم من أن المسافة التي تفصلني عن مسقط رأس أحلامي لا تتجاوز بضع كيلومترات، إلا أنني أدركت أنه الفراق الأبدي. وكيف لا يكون كذلك وأنا التي هربت ذات ليلة قاسية البرودة من منزلنا الجديد الباهت إلى شارعنا القديم المفعم بكل ألوان الحياة، هربت من الجدران التي لا تبادلني شيئاً من الكره أو المحبة، ولا يمكنها أن تتحمل تقلباتي المزاجية أو ثورات غضبي، هربت من صمت أبي المطلق الذي أعاقه المرض عن الضحك والغناء والتصدي لقلق أمي المفرط حول جنوني، ولم يستطع أي شباك في هذا المنزل البوح بسر واحد لي. دفعتني الوحدة والغربة إلى الهرب.

كانت العتمة تطوقني وأنا أفلت من نظرات بعض الفضوليين المفترشين لزوايا الأرصفة: فتاة بمعطف طويل ووشاح صوفي تمتطي الطريق الغارق بالمطر بعد منتصف الليل، يقودها الحنين إلى مهد عشقها الأول، لتعيش عمرها الفائت في غفلة من الحاضر والمستقبل.  أخيراً وصلت إلى منزلنا القديم، وصعدت الدرج الواصل الى السطح، وإذا بظل تمثال يستوقفني. نظر إليّ بريبة، وقبل أن ينطق بأية كلمة قلت: "دعني أرجوك. أريد أن أرقص فحسب".

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard