شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!

"أنا عايزة مُعجزة"... قبلتنا الساحرة، السريعة كشهاب

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مجاز

السبت 4 فبراير 202312:15 م

الحواس


تعلمت السباحة باكراً، وأنا ابنة الثالثة، وبقيت حتى الثامنة أعتقد أنه كما أن جميع الناس يمشون ويتحدثون ويأكلون، فجميع الناس يسبحون.

كانت أمي تقف على الشاطئ وتناديني ما يفوق العشرين مرة، وأنا أُجيبها: "امهليني فقط خمس دقائق"، وكانت الخمس دقائق تمتد حتى حلول الظلام. أخرجُ من البحر، فأسمع نفس العبارة من أهلي: "لا بد أنك في حياة سابقة كنتِ سمكة".

قِطَعُ البطيخ الأحمر المُقطعة بشكلِ طولاني، يجاورها صحنان، يحتوي كل واحد على قرص شنكليش بَلَدي يسبح وسط زيت الزيتون، والخبز السوري الطري، كان العشاء الذي لطالما ارتبطَ بسهراتنا البحرية على شاطئ عمريت.

وخلال السهرات، كان أبي غالباً ما يختار أم كلثوم أو وردة، وهي الأقرب لقلبه الموسيقي بين جميع نجوم الطرب الأصيل. وذات مرة أصغيت لأغنية اختارها والدي: "أنا عايزة مُعجزة" سألتُه وأنا ابنة الثامنة: "شو يعني مسطّر عالجبين؟ وشو يعني مُعجزة؟"، أخفضَ أبي الصوت، وبدأ يدندن لي كامل الأغنية، جملةً جملة، ويحكي لي عن معانيها.

اعترضت أمي أني ما أزال صغيرة لأهتم بتلك التفاصيل، لكن أبي كان عاشقاً حقيقياً، ليس فقط لأمي التي ارتبطت هذه الأغنية بذكرى بينهما، وإنما للحب نفسه، لذلك عندما يحضر الحب كان يتحدث عنه بشغفٍ لا مثيلَ له.

بعد يومين عدنا للمنزل. وقفت أمام المكتبة الموسيقية الخشبية التي صنعها أبي بيديه، والتي تضمّ مئات الكاسيتات وبشكل مُنظّم، فهناك على سبيل المثال رف خاصّ بالست، وآخر بفايزة أحمد، وثالث بأعمال الرحابنة كاملةً، ورابع للعندليب، وغيرهم من نجوم الطرب ممن لن تتكرّر أعمالهم بعظمتها المتكاملة من صوت إلى كلمة إلى موسيقى.

طبعاً كان هناك رف خاصّ بالمدلّلة وردة. سحبت منه كاسيت "أنا عايزة مُعجزة"، وأخبرت والدي أني أرغب أن أحتفظ به، بالطبع اعترضت أمي، وحتماً لم يكسر والدي قلب رغبتي، ثم طلبت منه أن يكتب لي كلمات الأغنية على ورقة لأحفَظَها، وفعلَ ذلك. ومنذ ذلك اليوم البعيد، في أواخر التسعينيات، وأنا أؤمن بالمعجزات وأحفظ معناها الذي أخبرني به والدي: "انظري للبحر، إنه أجمل تجلٍّ للمعجزات، والحب بحر المعجزات".

عندما يُحال البحر لرجل

لم نلتقِ على شاطئ البحر، ولم نجرب مرةً السباحة معاً، ولكن كان البحر ثالثنا. قلتَ لي في بداية تعارفنا: "بِفْرَح إنك بتحبي البحر، متلي".

أفتح عيني وأنظر من نافذتي صوب البحر، وأقول لهُ: أيها البحر، يا أجمل تجلٍّ للمعجزات، أنا عايزة مُعجزة... قبلتنا السريعة الساحرة كشِهاب... مجاز

ضحكت في سرّي وأنا أقول: "يا لهذا الأبله الذي يعتقد أني أحب البحر، مثله. أنا أحب البحر، وفقط". وأجبتُكَ: "أمر طبيعي أن يُحب أبناء المدن الساحلية البحر". فأخبرتني: "لست ابن المدينة تماماً، أنا ابنُ الغابات، وربما تعتقدين أن جميع أبناء الساحل يحبون البحر، لكن قد لا يكون التعميم مُصيباً، أعرف الكثيرين هنا ممن يسكنون قُبالة البحر، ولم يلمس ماؤه جلدَهم مرةً. عموماً أنا أتحدث عن حالة العشق التي يلمحُها أي شخص يقرأ منشوراتك التي تتغزلين فيها دائماً بالبحر، وصورك الكثيرة بجواره.

اسمعي، في أواخر التسعينيات، قضيت عدة سنوات أعملُ صيفاً كمراقب للشاطئ في منطقة البسيط في اللاذقية، وكان ثاني أمر يُثير انتباهي بعد أجساد النساء الرشيقات طبعاً، دهشة الأطفال الذين يرون البحر للمرة الأولى، وأحياناً هؤلاء الأطفال يكونون كباراً، لأن بالفعل شعور الدهشة الصادق خاص بمشاعر الطفولة، تماماً كما كتبتي في الأمس على صفحتك:
(كلما لمحتُ البحر، أشعرُ أني طفلةً تراه للمرةِ الأولى. هذا هو الشغف أن تعتريك نفس الدهشة، مهما تكرر المشهد، ومهما بلغتَ من العمر). الطفولة كما الدهشة، يا صديقتي، حالة".
وفي غضون ثوانٍ تراجعت عما أخبرتُ به نفسي، معتقدةً أن الإيغو عندك مُصاب بالتضخم، وابتسمت  قائلةً: "وأنا أيضاً قضيتُ فترة أواخر التسعينيات على شاطئ البحر، لكني كنتُ طفلةً تلهو بالرمل ومع الأمواج، ولم أكن طالبة جامعية تعمل كمراقبة شاطئ". ضحكنا ونحن نتخيل مشهد لو أنه عرفني في ذلك الوقت، الذي كنتُ سأُناديه فيه: "عمو"، وربما أطلبُ منه أيضاً الآيس كريم.

بحر المصادفات

كنا نتسابق في سرد الأحاديث، وكانت الدهشة تلبسُنا معاً من شدة التشابه بين قصص حياتك وقصصي، رغم اختلاف الزمان تماماً. مرةً كنتَ تُحدثني عن صبية عشتَ معها قصة حب لأيام على شاطئ البسيط، كانت صبية حساسة وفاتنة وذكية  لكنها كانت بكماء، ورغم ذلك استطعتما بنجاح التواصل وتبادل الحب والمزاح، والأمر الذي أدهشك أنك كنت تفهم كل إشاراتها، على الرغم من أنك لم تتعامل قبلها مع أي شخص أبكم، لا صديق ولا قريب ولا جار.
وعند استعدادها للسفر أعطتكَ ورقة كُتِبَ عليها رقم هاتفها الأرضي، إذ لم يكن حينها يوجد تواصل عبر الإنترنت أو حتى الموبايل، فأخذتَهُ بتلقائية وكتبتَ لها رقم هاتفك، فبدأت بالبكاء، وبعدما أعدتَ عليها نفس السؤال أكثر من مرة مُتسائلاً عن سبب بكائها، فهمْتَ أنها تبكي لأنك لم تهزأ أو تضحك، بل قبلتَ بكل عفوية وحب أن تتبادل معها أرقام هواتف أرضية، وهي بكماء، إذْ لمْ يسبق أن تعاملَ معها شخص وكأنها أنثى طبيعية، بل حتى لم تسألها باستغراب كيف سنتواصل عبر هاتف، وأنتِ لا تتكلمين.

وأنا أستمع إلى التسجيلات الصوتية، التي تحكي فيها تفاصيل قصتك، سارعت إلى حقيبة يَدٍ لي، وأخرجت منها محرمتَين، كُتِبَ على وجهيهما عباراتٌ بقلمٍ أزرقَ، إن وقعت بين يدي شخص ما، سيعتقد أنها غير مترابطة، لكنها كانت عبارة عن حوار بيني وبين شخص أبكم، كان أول شخص أبكم أتعامل معه في حياتي.

اقتربَ مني وأنا أجلس على مقعد في حديقة قريبة من جامعتي، وطلبَ مني قلماً وأخرج محرمةً، وراح يُحدثني تارةً بالإشارة وتارةً يكتب على المحرمة إن صَعُبَ علي الفهم، أخبرني أنه يُراقبني منذ عام، والتقطَ لي عن بُعد أكثر من صورة لينظر إليها كلما اشتاقَ لي، كتبَ لي أنه يحلم بالزواج مني، ويكفيه أن يحلم بذلك، وشكرني لأني قبلت مجرد التحدث معه، وهو أبكم، كاتباً: "إنتِ أول بنت، بتقبل تحكي معي بعفوية وبلطف هي وعم تبتسم، ابتسامتك كتير حلوة".

وكانت تلك الحادثة أكثر حادثة مدهشة وغريبة أعيشها في حياتي.  قمت بالتقاط عدة صور لتلك المحرمتين، وأرسلتهما لك عبر الماسنجر وحدثتك بالقصة، وذُهلت من تلك المصادفة.

ومرةً كنتُ أُحدثك عن إحساس فضل شاكر، وما يتركه في داخلي من حنين مفرط يجعلني أنفصل تماماً عن المحيط الخارجي، وأغرق في موجة صمت تُذكرني بأواخر الصيف، تحديداً بأيلول عندما تُشلَع الشماسي عن شواطئ البحر، وشيئاً فشيئاً تُصبح الشواطئ أشبه بأن تكون مهجورة ووحيدة إلا من عشاق البحر الحقيقين، وأنا بالطبع أحدهم.

كان ردك في البداية الصمت، فسألتك: "أكيد عم تقول شو هالمجنونة لِ عم تربط شماسي البحر المشلعة، بصوت فضل، مش هيك؟". فابتسمتَ لي، ومددت يدك إلى مسجّل سيارتك، قمت بإشغاله وإذ بصوت فضل شاكر يُغني أغاني طرب قديمة، وكان تحديداً يغني وردة: "أنا عايزة مُعجزة، أكبر مني ومنك والعالم أجمعين".

ضحكتُ، وبسرعة أخرجت هاتفي من حقيبتي، لأُريك وأُسمعك وصلة الأغاني الوحيدة التي أحتفظ بها على هاتفي منذ عدة سنوات، والتي كانت لفضل شاكر، والتي هي للمصادفة نفسها التي تخرج من مسجل سيارتك. أضفْتَ: مرةً في أيلول، قمت بتعطيل مُسجّل السيارة، كيلا يطلب مني أحد أن أقوم بإشغاله، في هذه الفترة من السنة تجتاحني موجة حنين مُفرطة، وأشعر برغبة عارمة في البُكاء والصمت لو سمعت أغاني بإحساس دافئ، لأنها تُذكرني بنهاية الصيف ومنظر الناس وهم يُغادرون البحر الذي يغدو وحيداً إلا من شخص مجنون مثلي، يرفض فكرة أن يُغادره. ضحكنا كثيراً، وأَضفتَ عبارتك الدائمة: "حاج تقلديني، يا مشاغبة".

كان علينا أنْ نفترقَ لسببٍ مُقنع برأيك، لكني كطفلةٍ تلبسُها حالة الدهشة المتكررة ذاتها، حيال التفاصيل التي تعشقها، لم أستطع أن أفهمه، ولن أستطع يوماً... مجاز

ومرةً ثالثة، ومرةً عاشرة، وللمرة 76 تكرّرت المصادفات، هذا الرقم الذي حملَ صدفةً بيننا، أشبه بالأفلام الهندية. جميعُ هذه المصادفات جمعتُها وخبأتُها في صندوق قلبي الذي صار يحمل رقمَ 76.

قُبلتُنا الساحرة السريعة كشِهاب

كان علينا أنْ نفترقَ لسببٍ مُقنع برأيك، لكني كطفلةٍ تلبسُها حالة الدهشة المتكررة ذاتها، حيال التفاصيل التي تعشقها، لم أستطع أن أفهمه، ولن أستطع يوماً.
قُلتَ لي عندما وصلنا بالقرب من كراج البولمان: "افهميني، أرجوكِ. نعم أحبك، وأكثر من ذلك أشعر باني متيمٌ بكِ، لكن علينا أن نفترق".
لم أُجب بكلمةٍ ، فقط أعدت في مخيلتي خلال ثوانٍ شريطَ ذكرياتنا، وأحاديثنا التي امتدت منذ أواخر التسعينيات حتى 2022. تحدثنا كثيراً، طوال الليل، وأثناء ساعات النهار، قبل الغداء وبعده، ومنذ الصباح الباكر، على طرقات السفر، ونحن نتمدّد على أسرتنا كل في منزله. نزلت دمعتي، وقلتُ لكَ: "بدك شي؟"، وأنا مع نهاية سؤالي على استعداد لأغادرك وإلى الأبد، لكن يدكَ وجوابكَ كانا أسرع، قلت: "إي، بدي بوسك"، وفي تلك اللحظة كان كفك الأيسر قد غمر الجزءَ الأيمنَ من رقبتي، وكانت شفتاك قد تركت رُضابَها على شفَتَي، وامتد لسانك المُشاغب ليُصبح جزءاً من قُبلةٍ سريعةٍ وساحرةٍ كشِهابٍ.

أنا عايزة مُعجزة

منذُ أشهر وأنا أقف كل عصرٍ، أمام مرآتي، أضع كَفي على رقبتي، محاولة استرجاع لمستك الدافئة، أُغمض عيني تاركةً شفتَي تتبادلان اللمس والرضاب، وأنا أُكرّر في داخلي عبارةً قرأناها معاً في كتاب شعري، تقول:
"مؤلم وخزُ كل الأشياء الناعمة
ومؤلم ألا تجرّبه"
أفتح عيني وأنظر من نافذتي صوب البحر، وأقول لهُ:
أيها البحر، يا أجمل تجلٍّ للمعجزات
أيها الحب، يا بحر المعجزات
أنا عايزة مُعجزة... قبلتنا الساحرة السريعة كشِهاب.

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image