الأبدية
من يقول إن طريقاً سار عليه غزاة رومانيون منذ ألفي سنة يشبه طريقاً سار عليه غزاة وطنيون ظهر اليوم؟
أو إن فجراً أطل بين أعمدة الإنارة في 4/4/2010 يشبه فجراً أطلّ بين أعمدة الإنارة في 4/4/75 قبل الميلاد؟
وإن....
أتحدّث عن تلك الفروق الدقيقة التي يبذلها الوهم
أتحدّث بوهم أني أعرف الفروق الدقيقة المبذولة
بين تفاحة مرسومة بالأبيض على ورق مزهر
وتفاحة موضوعة على نعش، في غرفة الاستقبال.
*****
أتحدّث كمن يتوهّم معرفة بالموت
وكمن يتوهّم نديماً في مسدّس
وكمن يتوهّم، وتتهادى أوهامه خلفه، صاخبة من الندم
أو كمن يضع أوهامه على مقربة، في حيّز الهاتف أو الزوجة، أو جهاز استنشاق مرضى الربو
أتحدّث بفم أسود ولسان ميت
بقحف مشغول بكبائر السنّة
أتحدّث كمن فقد موهبة كانت تطعمه خبراً، وحصل على موهبة أطعمته رماد الغرباء.
*****
ربما نضبت، ولم يعد يجدر الحديث عنها، أعني الموهبة
أو إذا فعلتُ، كان ذلك بضمير الغائب وكلمات الغائب
أي بالضمير الذي يؤلم والكلمات التي تلسع الحجر
أو ربما
لم يكن من موهبة قط
لا في الرسائل التي أرسلتها إلى أخوتي، أعلمهم فيها أنني أنام في القيظ وأستيقظ في الوحشة
ولم أكن أنام ولا أستيقظ
ولا في الغنائيات التي كتبتها وأنا أظن أني عاشق وأني سأموت إذا لم أكتب غنائيات عن عشقي
إنما اختطفتها من ميت على شرفة
من ميت وقعت قربه على شرفة لأنه كان أخي مثلاً
أو كان محتاجاً بشدة أن تغادره موهبته، فرمى بها على أول كرسي صادفه، ثم مات
فأخذتها، وصارت لي
كما الموت للميت والأرملة للمحتالين
أو من مهاجر قرأت عنه في صحيفة محلية
وظننت أنه أنا، المهاجر الذي مات لأنه لم يجد أحداً يقرأ له رسائله المنشورة في صحيفة محلية
أي أن موهبتي كانت لميت موهوب في موته ولم يكن موهوباً في حياته
كما يحصل للذكريات التي نستخلصها خلال الجنازة أو بعد الدفن
كما يحصل للرصاصة المختبئة في لوح كتف القتيل
كما يحصل، إن حصل، للشعراء الحقيقيين
أتحدّث بفم أسود ولسان ميت، بقحف مشغول بكبائر السنّة، أتحدّث كمن فقد موهبة كانت تطعمه خبراً، وحصل على موهبة أطعمته رماد الغرباء... مجاز
وربما
أيضاً، أنه ليس هناك من موهبة أصلاً في الكلمات كلها
وأن الأمر ليس أكثر من ظنّ بالكلمات
الكلمات الكبيرة والكلمات الصغيرة
الكلمات التي تصنع الكلمات
والكلمات التي تخاف الكلمات
والكلمات التي تسحق الكلمات.
*****
أعجبني مرة أن يكون لي موهبة نصل في ليل
خفي ويصيب مقتلاً كأي نصل يصيب مقتلاً في ليل
وأردت أن يعرّف بي وأعرّف به
وقدّمتُ نفسي كنصل في ليل
ثم عرفت أن لا أصدقاء للخفي إلا الغرف المقفلة ولا أحباء للنصل إلا الجثث الباردة
وأردتُ العودة إلى ما كنت عليه، قبل أن يعجبني أن يكون لي موهبة نصل
فما عرفتُ
وتهتُ في أقنعة أنشأتها بحثاً عن حياتي السابقة
وخسرتُ الوجه الذي أطعمني زيتاً وكسر لي الجوز بصحف القهوة
وخسرتُ القناع
ولم يعد أحد يعرفني
إذ لا أحد يتذكّر رجلاً بلا قناع يشبه وجهاً أو وجه يشبه قناعاً
أو بلا قناع أو وجه، إنما بنصف نصل دام على الطاولة
وكبرتُ في هذه المشقّة
ونسيتُ أني أبحث عن حياتي السابقة
وما عدتُ أعرف كيف يبحث أحد عن حياة سابقة
الأمر ليس أكثر من ظنّ بالكلمات
الكلمات التي تصنع الكلمات
والكلمات التي تخاف الكلمات
والكلمات التي تسحق الكلمات
أو كيف ينسى أحد شيئاً بحجم حياته السابقة
وصرتُ أشعر بالضيق ولا أدري إن كنت أشعر بالضيق
وأحسُّ بالغرابة ولا أعرف كيف أحسّ بالغرابة
وصرتُ أنتظر ما لا ينتظره أحد
وأخاطبُ ما لا يخاطبه أحد.
*****
وهرمتُ بلا أمل في التوقف
ووجدتُ نفسي أكتب هذا
وأوصي ابنتي أن تكتبه
وأن تبحث مثلي عن شيء لم أعد أعرف كيف يبدو
وهي نفسها لن تعرف
وأغلب الظن
أن تمضي هي الأخرى عمراً بالبحث عما بحث عنه والدها
وأوصاها أن تبحث عنه
ونسي أن يوصيها بأن تجده
حتى اعتقدتُ أنه ليس من الضروري أن يجده أحد
أو أن يعرفه أحد
أو أن يتساءل أحد حتى: ماذا أفعل في هاوية مماثلة؟
موهبتي كانت لميت موهوب في موته ولم يكن موهوباً في حياته، كما يحصل للذكريات التي نستخلصها خلال الجنازة أو بعد الدفن كما يحصل، إن حصل، للشعراء الحقيقيين... مجاز
*****
أتحدّث الآن كأني خسرتُ حياتي
وأقول حياتي وأعني شيئاً مثل مظلّة أو علاقة مفاتيح أو ساعة ذهبية
أي أتحدّث وكأني خسرتُ وعرفتُ ماذا خسرتُ، وأين وكيف
وأتحدّث بقناع من يعرف كيف تبدو الحياة بدون قناع
وكيف لا تبدو
وبقناع من يرمي حصاة في كأس وسهماً في كتاب
فلا يشرب أحد ولا يقرأ أحد
وأتحدّث أيضاً بلسان من هرم وهو يعرف كيف يهرم الهرم
ومن مات وهو يعرف كيف يموت الميت.
*****
أتحدّث مثلاً عن رجل يبحث عن رجل يبحث عنه
ويلتقيان صدفة، في بستان كرز أو في مشرب على طريق سريع
ويعرف كل واحد أن الآخر يبحث عنه بلا نية أن يجده
ويتعاركان ثم يتصادقان
ويصنع أحد فيلماً عن الحوار الذي دار بين صورتين، أو بين دميتين في متجر ألبسة
وربما يتجرّأ محرر أدبي ويكتب صفحة كاملة عن رجل لا يبحث عن شيء محدّد، ورجل يبحث عن لا شيء محدّد.
*****
لن تجدو قطيعاً أحصيت إناثه، أو نهراً ساهمت في حجز مائه
لن تجدو سياجاً حطّبت أعمدته أو بكاء ملّحت دموعه
صرفتُ حياتي في البحث عن حياتي
وكنت أتنفّس بمزاج الباحث عن حياة وأتدفأ بناره
ألاعب أطفاله وأنهب زوجته
وانتظرتُ أن يصنع بي باحث ما صنعت أنا بالباحث
وأن يأسرني حب وأن تطوّحني عاصفة.
لن تجدوا لي يوماً تقولون عنه: هذا يوم من وجد ما يبحث عنه
وتدحونني بكلام فيه انتصار الإرادة
وتنحتون لي صفة تكتبونها على أوراق النعي
وترتاحون لأني ارتحتُ
ووجدتُ ما بحثت عنه دوماً
وكان دوماً بقربي
وكان دوماً يكسر لي الجوز بصحف القهوة، كالموت.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...